محاضرة عن التصوف الإسلامي… والتربية الروحية

التصوف الإسلامي… والتربية الروحية


المحاضرة التي ألقيتها في الأكاديمية الملكية المغربية

الدكتور محمد فاروق النبهان مع علماء دار الحديث الحسنية في الرباط

الدكتور محمد فاروق النبهان مع علماء دار الحديث الحسنية في الرباط


أيها الزملاء الأعزة أعضاءالأكاديمية

اخترت موضوع التصوف الإسلامى في هذه الأمسية لأمرين :
الأول : للتعريف بحقيقة التصوف كما هو في أصوله الأولى وفي مفاهيمه الأصيلة، معتمداً في ذلك على أقوال الأئمة الأعلام، بعيداً عن التصوف المزيف الذي نراه اليوم في أفكاره وفي سلوكيات دعاته، وفي آثاره السلبية على مجتمعنا المعاصر..
الثاني : لتأكيد إدانة السلوكيات الصوفية المنحرفة، التي ارتبطت بالتصوف، والتصوف بريء مما ينسب إليه..
سأحاول أن أطوف بكم في رحلة طويلة عبر ركام من تاريخ طويل من المفاهيم التي ارتبطت بالتصوف، فكراً وسلوكاً، ولولا أنني عشت في بيئة صوفية أصيلة، منابعها صافية، لكنت معكم من المنكرين، فليس في تصوف اليوم ما يغري الناظرين، وليس في سلوكيات المنتمين إليه ما يحبب به الآخرين ..
الصوفية الحقة ليست مجرد طقوس جامدة يؤديها أصحابها رغبة منهم في البحث عن معرفة متوهمة، أو سعادة قلبية يجرون وراءها ولا يمسكون بها، ويظنون أنهم على حق وهم أبعدُ الناس عن الحق، ويتوهمون في أنفسهم الكمال، وهم إلى النقصان أقرب، يدعون الزهد في الدنيا وقلوبهم معلقة بها، لا تجد في ملامحهم نوراً، وقلما تجد ثمرة ما يدعون من صدق وإخلاص في سلوكم وفي علاقتهم بالآخرين.
سأحاول في هذه العجالة السريعة أن أقدّم لمحة موجزة عن التصوف الحق كما أراه، وكما أ ؤمن به، وكما نحتاجه اليوم.
نريد التصوف الحق الذي يرتقي بنا إلى الأفضل، وينهض بواقعنا المتخلف، ويغزى فينا القيم الإنسانية الأصيلة، ويعلمنا الأدب مع الله ومع الناس، وأن تكون أكثر رحمة بالمستضعفين، وإن نمد يدنا لكل المذنبين والمنحرفين لكي ننقذهم من الأوحال إلى الشاطئ الآمن النظيف، وأن نفتح قلوبنا لهم فهم يحتاجون لمن يمد لهم يداً دافئة من غير استعلاء ولا إذلال..
ما أجمل الإنسانية في قيمها الرفيعة، وما أروع التربية التي تنمي في القلوب حبّ الآخرين حيث كانوا، وإلى أي دين أو طائفة أو قومية ينتمون.. فالخلق عيال الله حيث كانوا، لا يتفاضلون بأنسابهم ولا بأوصافهم ولا بما يملكون، وإنما يتفاضلون بالعمل الصالح، ويتكافلون للدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته.. والبشر جميعاً هم ورثة هذه الأرض، وهم مؤتمنون عليها، ويملك أقلهم شأناً ما يملكه أكبرهم مقاماً من حقوق الكرامة، وأحبهم إلى الله أكثرهم صلاحاً واستقامة… هذه هي الصوفية الحقة، في منابعها الأصيلة، وهذه هي غاياتها وأهدافها، وكلما ارتقى العبد في سيرته ارتقت أخلاقه ومفاهيمه، وغاية العبادة هي الثمرة المرجوة منها، وهي تغذيه قيم الخير في القلب.
نشأة الصوفية :
نشأت الصوفية في القرن الثاني الهجري، كحركة روحية رافضة لما كان عليه المجتمع في البصرة وبغداد من حياة التـرف والمجون والسلطة والمال، في قصور الخلفاء ومجالس الأمراء، والصراع على السلطة والتنافس في أنماط العيش، ومظاهر النفاق والطمع والحسد والحقد والطبقية الاجتماعية، وهذا مجتمع يتنافى مع الحياة الإسلامية الأصيلة…
ظهرت الصوفية كظاهرة اجتماعية وروحية، وهي منهج تربوي روحي، يهتم بالطهارة القلبية والصفاء النفسي والزهد في الدنيا، والابتعاد عن مجالس الحكام، واحتضان المستضعفين والفقراء والضعفاء، والاهتمام بالباطن، وإصلاح السلوك ومقاومة تطلعات النفس عن طريق المجاهدات والرياضات النفسية للسيطرة على الغرائز، والانعزال عن المجتمع، والبحث عن السعادة والطمأنينة الداخلية، ومحاسبة النفس والاهتمام بالخاطرة المولدة للسلوك..
وتستمد الصوفية فكرها من حياة الرسول صلوات الله عليه وأقواله، واهتمامه بتكوين الشخصية الإيمانية التي تعمل لله تعالى، ولا تعمل لأجل أهداف دنيوية، كل شيء لله وفي سبيل الله… العبادة والصدقات والجهاد وكل الأعمال السلوكية، ألاّ تفعل ذلك لأجل الخلق، افعل ذلك لله وفي سبيل الله، ولا تفعل ذلك رياءاً وتظاهراً.
كلمة صوفي :
كلمة الصوفي مشتقة من الصفاء، فقيل من لبس الصوف، وقيل من كلمة صوفيا اليونانية، وتعني الحكمة , وقيل اهل الصفة.. وأرجح المعنى الأول : الصفاء، وجاءت لفظة “الصفاء” في التعريفات الصوفية،
– سميت الصوفية “صوفية” لصفاء أسرارها ونقاء رموزها
– الصوفي من صفا قلبه لله تعالى
– الصوفي من صفا قلبه من الأكدار
– تصفية القلب من العلائق الدنيوية..
ولا تهمنا التسمية، ويهمنا أن نؤكد أن لفظة الصوفية شاعت وانتشرت، وهي منهج تربوي وروحي، غايته طهارة القلب لكي يكون مؤهلا للمعرفة التي تشرق أنوارها في القلوب..
علم الظاهر والباطن :
قسم الإمام الغزالي في كتابه “الإحياء” العلومَ إلى قسمين :
أولا : علم المكاشفة :
ويراد به علم الباطن، وهذا علم لا ينكشف سره إلا لمن كان قلبه طاهراً وغير محجوب بمشاغل الدنيا، فمن صفا قلبه انقدح في قلبه نور يدرك به ما كان مجهولا له من أسرار، وتتجلى هذه المعاني في قلب المؤمن..
قال الغزالي فيه:
هذا العلم، لم يؤذن لنا بالخوض فيه، ومن أنكره يُخشى عليه من سوء الخاتمة..
ثانياً : علم المعاملة :
ينقسم هذا العلم إلى قسمين :
– علم الظاهر وهو علم الجوارح، وهو قسمان : عبادات وعادات، وهي الأحكام الفقهية الظاهرة، كالعبادات والمعاملات في علاقات الإنسان بالآخرين، كالعقود والأسرة والنظم الإسلامية في الحكم والمال…
– علم الباطن : وهو علم أحوال القلب، وما يعتريه من أحوال تؤثر في السلوك، كالحقد والحسد والكبر والرياء والعجب والنفاق، وغاية المجاهدات والرياضات النفسية، السيطرة على هذه الأوصاف المذمومة، واستبدالها بالأوصاف المحمودة، كالزهد والرحمة والحب والسخاء والصدق وحسن العشرة والأدب واحترام الآخرين..
وقد كتب الغزالي “كتابه “الإحياء” للحديث عن هذه الأقسام الأربعة، وخصص جزءاً لكل قسم منها، وابتدأ الجزء الثالث بالحديث عن القلب، وأمراض القلوب وأطباء القلوب، لأن القلب إذا فسد أنتج خواطر الشر، ثم تنتقل الخاطرة إلى سلوك، ولذلك يجب الاهتمام بطهارة القلب، لكي تكون الخواطر منتجة لسلوكيات الخير أولا ولـعواطف المحبة لكل الآخرين حيث كانوا ثانياً…
التربية الصوفية :
اهتمت التربية الصوفية بأمرين :
الأول : قضايا المعرفة
المعرفة هي أهم كلمة في الفكر الصوفي، قال تعالى : ?ومَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ?ـ أي ما عرفوه حق معرفته، وغاية العبادة هي معرفة الله، والمعرفة هي دعامة الدين، والعلم ليس طريقاً وحيدا للمعرفة، فالمعرفة لا تدرك بالعقل ولا بالعلم، فالظاهر يدرك بالعقل، أما المعرفة فلا تدرك بالعقل، وإنما يصل الإنسان إليها عن طريق طهارة القلب، وأهم آثار المعرفة هو سكون القلب والشعور بالطمأنينة القلبية ?ألاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبَ? ومن أهم آثار المعرفة أمور ثلاثة :
الهيبة من الله تعالى، والحياء من الله، والأنس بالله…
الثاني تزكية النفس :
تزكية النفس أي إصلاحها والارتقاء بها من الصفات المذمومة إلى الصفات المحمودة، والتحكم في الغريزة والسيطرة عليها، وطريق التزكية هو مجاهدة النفس ومخالفتها وإضعافها، وعدم الاستجابة لمطالبها الشهوانية والغضبية، والمرض يعالج بضده، فالحرارة تعالج بالبرودة، والبرودة بالحرارة، والنفس المتعالية تعالج بإذلالها، والنفس المتعلقة بالمنصب أو المال تعالج بالزهد فيما تطلبه، وأهم وسيلة لكسر النفس تجويعها بالطعام، فيأكل القليل ويعرض على نفسه ما لا تشتهيه، وتعالج النفس المحبة للرياء وإعجاب الآخرين، بالخمول والعزلة عن الناس والاستيحاش من الخلق وكراهية الظهور والشهرة..
وعندما تتحرر النفس من غرائزها الفطرية تنمو القوة الروحية في السالك، ويكتسب قوة في المواقف وفهماً لسنن الله في الكون، وسكوناً داخلياً وشعوراً بالتحرر الداخلي والقوة الذاتية، ويستمد قوته من الله تعالى، ويكون له تأثير فيمن حوله، وهيبة في نظر الخلق، ويكون لكلامه حلاوة فيمن يسمعه، ويشعر أن الله تعالى هو المدبر لشؤون خلقه، فما يأتيه من ابتلاء من الله يرضى به من غير ضيق أو تململ ويكون عمله لله تعالى، ولا يهمه ماذا يقول الخلق عنه، ويستوي لديه المدح والذم، ولا يحقد على عدو ولا يظلم ولا يساوم على حق يؤمن به، ولا يخشى من حاكم مهما قسا عليه، ولا ينتقم ولا يغضب لنفسه، وإذا غضب الله فلا حدود لغضبه.
القلب في المفهوم الصوفي
يراد بالقلب ذلك السر الإلهي الذي وضعه الله في الإنسان، وليس هو القلب الصنوبري المادي الذي ينبض بالحياة، وجاء ذكر القلب في القرآن أكثر من مائة وعشرين مرة…
ووصف القرآن الكريم القلب بالزيغ والضلال وهو موطن الرحمة والمحبة والإيمان، ومهمة القلب هو المعرفة، وتنطبع فيه الحقيقة الكونية بطريقة تلقائية كما تنطبع الصورة في المرآة، وكما تنطبع صورة النجوم في الماء الصافية، فإذا كان القلب وسخاً وملوثاً فلا شيء ينطبع فيه، أو تظهر الأمور فيه بطريقة زائفة، ولذلك يجب تنقية القلب وتطهيره من كل ما يشوه صفاءه، والحقيقة الكونية لا تنطبع في القلب في ثلاثة أحوال :
الحالة الأولى : إذا كان القلب ملوثاً ووسخاً
الحالة الثانية : إذا كان هناك حجاب يمنعه عن الحقيقة، والتعلق بشيء يحجب صاحبه عن رؤية غيره، ولذلك لابدّ من إزالة التعلقات بالأشياء، ومن تعلق بالأعلى أعرض عن الأدنى، فالتعلق بالدنيا وبالسلطة وبالمال يحجب المتعلق عن رؤية الحقيقة المرادة، ولذلك يجب الزهد وعدم التعلق بأعراض الدنيا، لكي يكون القلب مستعداً لقبول الحقيقة.
الحالة الثالثة : انصراف الهمة إلى الشيء المرغوب، فلا فائدة ممن لا همة له، ولذلك قال ابن عطاء : «سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار» وكأنه أراد أن يقول : «كادت الهمم العالية أن تخرق أسوار الأقدار … ».
إذا طهُر القلب من كل هذه المؤثرات الثلاث، فلابدّ إلا أن تنطبع الحقيقة الكونية فيه، وهي المعرفة , ومن عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، ومن أطاعه ألبسه ثوب الهيبة وسخر الخلق له، وأهم أثر لذلك أن يشعر بعبديته لله تعالى، فيسلم أمره لله، فالله هو المدبر لشؤون خلقه، ولا يمكن لأحد من خلقه أن ينازعه في تدبيره، وهذا هو الذي يشعره بالرضا والقناعة والسكون، فما يريده الله له سيكون، وما لا يريده لا يكون، ولو اتخذ كل الأسباب المادية له…
والإنسان لا يملك حركة قلبه، فالإنسان يحب ويكره، وينشرح صدره ويضيق، ويقبل شيئا على مضض ويكتشف أن الخير فيه، وتتقلب القلوب من حال إلى حال، وأنت لا تملك أن توقف حركتها، وهناك أمور تجري على غير إرادة منك، وتكتشف فيما بعد أن الله تعالى هو خالق الوجود ومسيره بإرادته، يرزقك من حيث لا تحتسب، ويمسك عنك الرزق وأنت مؤهل له.. ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الملك ..
المقامات والأحوال :
اشتهرت الصوفية بالمقامات والأحوال، قال الإمام القشيري في “الرسالة القشيرية” : المقام هو ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب، ومقام كل سالك موضع إقامته، ولا يرتقي السالك من مقام إلا آخر إلا بعد أن يستوفي أحكام ذلك المقام، فمن لا قناعة له لا يصبح له التوكل، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم، ومن لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد.
وأول مقام يمر به السالك هو مقام التوبة، والتوبة في اللغة الرجوع، وهي الرجوع عما كان مذموماً من الشرع ولا تكون التوبة إلا بمراحل ثلاث :
العلم أولا، والحال ثانياً والعمل ثالثاً… 
والحال : هو ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب ولا اكتساب.
والأحوال : مواهب تأتي على القلوب كالبوارق ولا تدوم، وتترك أثرها في القلب، وقال السهروردي في كتابه : “عوارف المعارف” : «أحياناً يصعب التفريق بين المقام والحال، أو ينتقل الحال إلى مقام…. والموهبة في الحال غالبة، والمواهب غير متناهية… » وقال الكلاباذي في كتابه “التعرف” : أن علوم الصوفية هي علوم الأحوال والأحوال هي مواريث الأعمال، ولا يرث الحال إلا من صحح الأعمال وفقاً لأحكام الشريعة… ولكل مقام بداية ونهاية، وتبتدئ الأحوال بإشارة ثم يأتي الحال في المقام فالمذنب عندما يأتيه الحال في القلب تزول منه حلاوة الذنوب، فيقلع عنها، ولا يبقى لها أي أثر في حياته، ولذلك جاء تعريف الثوبة هي : أن تنسى ذنبك، لكي لا تنشغل به.
أما الزهد فهو انصراف الرغبة عن الشيء إلى غيره، لوجود مرغوب فيه، فمن رغب في شيء أعرض عن غيره، وكلما زاد تعلق الإنسان بالمرغوب زاد إعراضه عن المزهود فيه، إلى أن ينساه.
والزهد درجات ثلاث :
زهد المبتدئين وهو زهد فيما تملك وزهد المتحققين وهو زهد في كل متاع الدنيا، وهناك زهد العارفين، وهو زهد في كل شيء يشغلهم عن الله، فلا يتعلق قلبهم بغيره، فهو المرغوب، وما عداه مزهود فيه.
ومقام الصبر يستدعي التدافع بين قوتين :
– القوة الغريزية الشهوانية أو الغضبية التي تدعوك للاستجابة لها، والقوة العاقلة التي تدعوك للصبر على ألم الرغبة الغريزية، وهذا الصراع بين القوتين يحتاج إلى قوة إيمانية قوية، لتمكنك من الصبر على الصبر، ولذلك دعا القرآن الكريم المؤمنين إلى التواصي بالصبر لإشعار الصابر بالمؤازرة والتشجيع، ولولا الحالة الإيمانية التي يهبها الله للمؤمنين، لما كان الإنسان قادرا على الصبر.
والشهوات مؤثرة وملحة وغير عاقلة ويشعر الإنسان بصراع قوي في داخله، بين نداءين، داعي الشهوات وداعي العقل والدين، وداعي الشهوات أكثر إلحاحا، وتميل إليه النفس، ولابد من مجاهدة النفس لكي تمسك بزمام أمرها، ولا تستجيب، فإن لم تتمكن فإن داعي الهوى والشهوات سينتصر، ثم يعقبه الندم، وهذه هي مهمة المجاهدة والرياضة النفسية.
هذه المجاهدة النفسية تمنح الشخصية الصوفية قوة داخلية تستطيع بها أن تقاوم الآلام والأزمات، وتكون أكثر صمودا وتماسكا.
والصفاء الروحي يجعل الشخصية الصوفية محببة ودافئة وقريبة إلى قلوب الآخرين،
وأهم ما تحرص عليه التربية الصوفية تحرير القلب من التعلق بالمظاهر الخارجية كالرياء والعُجب والغرور، وهي صفات تمنع صفاء النفوس، وتحجب القلوب عن الوصول إلى الكمال.
ماذا يريد الصوفي ؟!
الهدف الذي يبحث عنه الصوفي هو الحقيقة والطريق إلى الحقيقة هو المعرفة، عن طريق تزكية النفس وطهارة القلب، والقلب النظيف تنطبع فيه الحقيقة بطريقة تلقائية، والحقيقة لا تدرك بالمحسوسات، والعقول أداتها في المعرفة هي المحسوسات، ولذلك فشل الفلاسفة في إدراك الحقيقة، ولقد عبر الإمام الغزالي عن هذا المعنى في كتابه : “المنقذ من الظلال”، وشرح فيه تجربته في البحث عن اليقين.
قال الغزالي :
كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه… فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني. 
لقد سقط عالم المحسوسات في نظر الغزالي بالعقل، ثم قال مخاطبا نفسه : “بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات .
ثم خاطب نفسه بقوله : فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلّى كذّب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذّب الحس في حكمه.
وجد الغزالي نفسه كما يقول على مذهبالسفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال،
وأخيرا وجد الغزالي نفسه أمام منهج جديد، معرفة تقود إلى يقين.
قال في ذلك :
– من ظن أن الكشف موقوف على الأدلة العقلية المجردة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة ذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين ويجب الترصد له”.
وشرح الغزالي مفهومه للعلم اليقيني بقوله : هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقاربه ‘مكان الغلط والوهم.. ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، والأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقاربا لليقين..
ووصل الغزالي إلى الصوفية، وأدرك أن منهجهم في البحث عن اليقين هو الأوثق والأصح، لأنهم يعتمدون على الأحوال والأذواق، وموطن اليقين هو القلب وليس العقل، ويقين القلوب لا يغالب وطريقه أمران :
– أما عن طريق الجود الإلهي الذي يكرّم الله به بعض عباده وهؤلاء هم أهل العناية
– أو طريق المجاهدة والرياضة النفسية وطريق هؤلاء طويل وشائك.
والقلب له بابان يستمد منهما المعرفة 
– أولهما : عن طريق الحواس الظاهرة
– ثانيهما : عن طريق انعكاس المعرفة من الله تعالى بنور إلهي ينبثق من القلب الطاهر عن طريق الإلهام
التربية الصوفية
والغاية التي يحرص عليها الصوفي هو بلوغ الكمال الخلقي عن طريق التربية الروحية والسيطرة على الغرائز الفطرية، ولا يكون ذلك إلا عن طريق السيطرة على القوى الإنسانية الثلاثة : القوة الشهوانية والقوة الغضبية والقوة العقلية، للتوصل إلى الكمال الخلقي، فالفطرة الإنسانية خلقت كاملة، محبة للخير، نافرة من الشر، رحيمة بالآخرين، متعاونة متكافلة، ثم تنحرف بتأثير الأهواء والبيئات المنحرفة إلى سلوكيات الشر والعدوان والكبر والطغيان، إلى أن تستمتع بالتطاول على الآخرين الضعفاء والنفس المعتدلة تحب الاستقامة ثم تعتاد على الانحراف بتأثير الأهواء والشهوات.
وغاية التربية النفسية إعادة النفس إلى طبائع الاعتدال والفضائل عن طريق مجاهدة النفس والتحكم في جموح الغرائز.
وإذا مرضت القلوب قست وظلمت واعتدت على الآخرين واعتادت الرذائل.
ثمرة العبادة
وغاية العبادة أنها تغذي القلب بقيم الخير ومحبة الله والشعور برقابة الله على الإنسان، والقرب من الله والأُنس به، والعبادة الحقة تنهى عن الفحشاء والمنكر والعدوان على الآخرين والكبر والعجب، والتحرر من التعلق بالمال والمناصب والجاه والتملق للأقوياء، وتبرير المظالم الاجتماعية والتحرر من الخوف، والاقتراب من كل الناس، والتحالف مع المستضعفين والمظلومين والدفاع عنهم.
والصوفي يكره الغرور والاستعلاء والتكبر والإعجاب بالنفس، ومن استعلى على الخلق بقوته وماله فلابد إالا أن يذله الله، ومن تحقق بعبديته لله تعالى ألبسه الله ثوب الهيبة والقبول من الخلق، ومن أخلص لله تعالى فيما يقول شرح الله صدر الآخرين له فكان لكلامه حلاوة في القلوب…
والعبادة لها ثمرة، فمن لم يلتزم الأدب في أداء عبادته فلا يمكن لعبادته أن تثمر في قلبه، وأهم صفة في الصوفية هي الأدب وحسن الخلق.
القلب والخاطرة
القلب هو مصدر الخواطر، إذا كان نظيفاً فإنه ينتج خواطر الخير، وإذا كان ملوثاً حاقداً فإنه ينتج خواطر الشرّ.
والسلوك الإنساني يبتدئ بخاطرة قلبية، ثم تتفاعل الخاطرة فتولد إرادة، ثم يتولد العزم، وأخيراً يكون السلوك الظاهري.
فالسلوك هو ثمرة لمراحل ثلاث تسبقه، الخاطرة، الإرادة، العزم، ولا يمكن إصلاح السلوك إلا عندما نتحكم في الخاطرة.
مثال ذلك… الظلم مؤثر في تكوين خواطر الحقد والانتقام، وتكبر الخاطرة إلى أن تكون إرادة وعزماً ثم يكون السلوك، وإذا لم نتحكم في خواطر القلب فلا يمكن التحكم في السلوك.
الظلم الاجتماعي يولد انفعالا داخليا، تتولد عنه خاطرة الانتقام والعنف، ثم يكون السلوك، وإذا لم نعالج ظاهرة الظلم والفقر فلن نتمكن من التحكم في السلوك الاجتماعي، ومهمة التربية الصوفية أنها تنمي قيم الخير، لكي تنفرمن القسوة والطلم والشر ، والصوفية الحقة تدعو المظلوم لمقاومة الظلم والظالمين ، ولا تشجعه على قبول المذلة، فالصوفية الحقة تمنح الصوفي الملتزم قوة الصبر على مقاومة الظلم، والمراد بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، دعوة المظلومين إلى الصمود والصبر على آلام المقاومة والاستعداد للتضحية، والصبر على الظلم تفريط بالكرامة، ومن فرط في حق من حقوقه فقد خان الأمانة وأساء لقيم الإنسانية.
الحكم العطائية
اشتهرت الحكم العطائية المنسوبة لابن عطاء السكندري تلميذ أبي العباس المرسي المتوفى في الإسكندرية عام 709هـ، وكان عالماً متمكناً، وسمع بشيخ الصوفية سيدي أبي العباس، فذهب إليه وأراد أن يردّ عليه في مجلسه، سمعه يتحدث عن الحق والحقيقة، سمع منه كلاما لم يسمع بمثله، عاد إلى داره وهو يتأمل فيما سمع..
التقى الشيخ وحدثه بما وقع له فقال له الشيخ : عرفت فالزم.
ولزم مجلس شيخه، وكتب أهم ما أنتجه الفكر الصوفي من أقوال وحكم رائعة تعبر عن تجربته الروحية، وعكف العلماء على شرح الحكم العطائية، وأهم هذه الشروح “إيقاظ الهمم” لابن عجيبة وشرح ابن رزوق الفاسي وشرح ابن عباد النفزي الرندي، في كتابه “التنبيه”، وأشار المؤرخون إلى وجود ثلاثين شرحا “للحكم العطائية”، وألف الدكتور أبو الوفاء التفتازاني كتابا عن ابن عطاء والحكم العطائية التي تعبر عن الفكر الصوفي.
وسوف أذكر مجموعة من الحكم العطائية :
– الحكمة الأولى : من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل.
– الحكمة الثانية : ارح نفسك من التدبير فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك.
– الحكمة الثالثة : لا يكن تأخر أمد العطاء مع الالحاح في الدعاء موجبا ليأسك، فهو قد ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد.
– الحكمة الرابعة : إذا فتح الله لك وجهة من التعرف فلا تبال معها وإن قل عملك، فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، وأن الأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك.
– الحكمة الخامسة : الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها.
– الحكمة السادسة : ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه.
– الحكمة السابعة : ما توقف مطلب أنت طالبه بربك، وما تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك.
– الحكمة الثامنة : من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان، قيد إليه بسلاسل الامتحان.
– الحكمة التاسعة : استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك.
– الحكمة العاشرة : لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله، فإن من عرف ربه، استصغر في جنب كرمه ذنبه، لا صغيرة إذا قابلك عدله، ولا كبيرة إذا واجهك فضله.
هل نحتاج إلى الصوفية ؟
إننا اليوم نحتاج إلى الصوفية الحقة التي تنمّي في الإنسان قيم الخير ومحبة الآخرين واحترام الإنسان حيث كان، وكراهية العنصرية والاستكبار والاستطالة على المستضعفين والتعاطف مع المظلومين واحترام حقوق الإنسان في الكرامة والحرية والأجور العادلة، والعدالة بين الإنسان وأخيه الإنسان.
إذا لم تحقق التربية الروحية هذا البعد الأخلاقي في سلوك الإنسان فلا حاجة لمجتمعنا في هذه التربية، نريد الثمرة المرجوة، وهي إعادة تشكيل الشخصية الإنسانية على أساس إنساني وأخلاقي.
هذه هي حقيقة التصوف الإسلامي، وما نراه اليوم هو مجرد طقوس وعادات أحكمت قبضتها على التصوف الحق، وتحكمت في ملامحه وجرّدته من مضامينه، وأبعدته عن أصوله، وأصبح مطية لرموزه يعبثون به، ويتاجرون باسمه.
التصوف الحق هو حليف المستضعفين يدعوهم للدفاع عن حقوقهم، ويحررهم من الخوف، ويحرم عليهم الصبر المذل، والخضوع لغير الله، وينمي في كيانهم التطلع إلى الأسمى والأكمل، والإعراض عن الأدنى، وأهم أثر للتربية الروحية أنها تحرر الإنسان من قيم العبودية التي ترسخها مطامع الإنسان في الدنيا، والمناصب والمال والمنزلة الاجتماعية.

أيها الزملاء الأكارم
هذه هي الصوفية كما أفهمها، وكما يجب أن تكون.
إذا كنا بحاجة إليها للنهوض بمجتمعنا إلى الأفضل في سلوكه فدعونا نمسك بها، ونعيدها لأصولها وإذا كنا لسنا بحاجة إليها، فلا مبرر لكي نشغل أنفسنا بما لا يفيدنا في مسيرتنا إلى الأفضل….

( الزيارات : 2٬787 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *