محاضرة في الأكاديمية المغربية عن الفكر الإقتصادي عند ابن خلدون

الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون

دراسة تحليلية لنصوص من مقدمة ابن خلدون

 

لا أعتقد أن مفكرا إسلامياً لقيتْ آراؤه من العناية والاهتمام ما لقيه ابن خلدون، والحديث عنه ليس من الأحاديث التي توصف بالتكرار الممل، فهو شخصية غنية بآفاقها وشموليتها، وهو مفكر مجدد مبدع، أعطى فأغنى وكتب فاستوفى، وأضاف الجديد من رؤيته لقضايا عصره، وكان له في كل قضية موقف متميز واجتهاد متفرد، قد نقبله حيناً وقد نرفضه حيناً آخر، إلا أننا لا نملك إلا أن نعترف بأهمية الرؤية الخلدونية ذات المقدرة على تحليل الواقع ورصد قوانين النفس البشرية في مواقف كثيرة، في السلطة والمال والمدافعة والمغالبة، وفي سلوكيات الترف والبؤس والظلم، وأثر ذلك في سلوكيات الإنسان.

ابن خلدون لم يخاطب جيلا معاصراً له، وإنما كان يخاطب الموكب الإنساني في رحلته الحتمية من النقص إلى الكمال، ومن البداوة إلى الحضارة، من البؤس إلى الترف من المدافعة إلى المغالبة…

مقدمة ابن خلدون مائدة شهية غنية، حافلة بكل أنواع المعارف الإنسانية، وفي كل طبق من أطباقه نجد الجديد والشهي والممتع.

لقد كان مبدعاً في رسم ملامح الحركة الإنسانية، عميقاً في قدرته على تحليل الأحداث، يلتقط المشهد ثم يتأمل في ملامحه، يفسر ويحلل ويستنتج، ويعرض آراءه بشجاعة، ويرسم بذلك ملامح السلوك الذي ينسجم مع أصول العادات وقواعد العمران..

ترجمة ابن خلدون

كتب ابن خلدون ترجمة لحياته في الجزء السابع من كتابه «العبر» المعروف بتاريخ ابن خلدون، وسماه «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً» من الصفحة 795 إلى الصفحة 1224 من المجلد السابع من تاريخه طبعة دار الكتاب اللبناني عام 1959 وقام بتحقيق هذا الجزء الباحث المغربي محمد بن تاويت الطنجي…

ولد ابن خلدون في غرة شهر رمضان سنة  732 هـ الموافق لـ 27 مايو 1332 م بتونس، واسمه عبد الرحمن أبوزيد وليّ الدين بن خلدون، ويرجع نسبه كما جاء في كتاب التعريف إلى وائل بن حجر من حضرموت ومن غرب اليمن، وقد رحل أجداده إلى اشبيلية ثم انتقلوا إلى تونس في أواسط المائة السابعة، قال ابن حيان :

«بيت بني خلدون في اشبيلية غاية في النباهة، ولم تـزل أعلامه بين رياسة سلطانية ورياسة علمية، وحاول ابن خلدون في كتابه التعريف أن يسجل أحداث عصره ويعللها، ويبرز دوافعها، ويرصد نتائجها بموضوعية ونزاهة…»

قال المؤرخ توينبي في كتابه «دراسة التاريخ» «إن ابن خلدون قد تصور وصاغ فلسفة هي بلا شك أعظم نتاج أبدعه أي ذهن في أي عصر».

التعريف بكتاب العبر

يعتبر كتاب «العبر» من أهم كتب التاريخ، واسمه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» ويقسم ابن خلدون كتابه «العبر» إلى ثلاثة كتب ومقدمة، تحدث في المقدمة عن فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلمام بمغالط المؤرخين، وأكّد أن فنّ التاريخ عزيز المذهب عم الفوائد شريف الغاية لأنه يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، وقال : «إن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأصول في الاجتماع الإنساني فربما لا يؤمن في ذلك من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق.

الكتاب الأول : يطلق على المقدمة المعروفة، وتشمل هذه المقدمة فصولا ستة :

– الأول : العمران البشري وأصنافه

– الثاني : العمران البدوي والأمم الوحشية

– الثالث : الدول والخلافة والملك والمراتب السلطانية

– الرابع : العمران الحضري والبلدان والأمصار

– الخامس : الصنائع و المعاش والكسب

– السادس : العلوم واكتسابها

الكتاب الثاني : ويشمل أربعة أجزاء، وتضم أخبار العرب وأجيالهم ودولهم ومن عاصرهم من الأمم…

الكتاب الثالث : ويشمل المجلد السادس والسابع، وقد خصصه لأخبار البربر ومواليهم وأجيالهم ودولهم.

وختم كتابه العبر بالتعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً ومراحل حياته….

أسباب دراسة ابن خلدون للظواهر الاقتصادية :

لم يُرد ابن خلدون أن يكتب عن الاقتصاد أو يضع نظرية لعلم الاقتصاد، وإنما أراد أن يتحدث عن التاريخ، وأن يضع لهذا العلم قوانينه وقواعده التي تجعله في مأمن من الغلط والزلل لئلا يتطرق الشك إلى الرواية التاريخية.

وكان يريد تسجيل الظواهر المرتبطة بالصنائع والمعاش والكسب والفلاحة والتجارة والصناعة والرواج والكساد، وعلاقة الفلاحة بتكوين الشخصية البدوية المتطلعة إلى الحضارة، والمؤهلة بسبب الفقر والبؤس إلى تكوين عصبيات متلاحمة ومؤهلة للمدافعة والمغالبة. وكان يريد تحقيق الغايات الآتية :

أولاً : وضع معايير واقعية للرواية التاريخية، فالتاريخ في نظره ليس شيئاً خارجاً عن أصول العادة وقواعد العمران، وعندما يبتعد التاريخ عن أصول العادة لا يمكن الاحتجاج به، ولا يمكن الاقتداء به، ويجب التطلع إلى الحقيقة التاريخية كما وقعت، بعيداً عن المبالغات وفقاً لأصول العادات. فالتاريخ في نظر ابن خلدون «نظر وتحقيق وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق» (انظر مقدمة ابن خلدون ص2)

ثانيا : تأكيد علاقة الكسب بالاجتماع الإنساني.

لا يتحقق العمران إلا بالاجتماع الإنساني، وحاجة الإنسان للآخر لكي يحافظ الجنس البشري على وجوده واستمراره، والكسب هو قيمة العمل، فالإنسان يبيع عمله بقيمة مادية ويشتري عمل غيره عن طريق التبادل النقدي، ولا يتحقق الكسب إلا في ظل العمران، وكلما ارتقى الإنسان من البداوة إلى الحضارة ارتقت وسائل الكسب وتنوعت، فالحضارة تولد ظروفاً للكسب جديدة لأنها توسع من دائرة الضروريات، وكلما تطورت الحضارة أوجدت وسائل جديدة للكسب، وأصبحت مطالب الإنسان واسعة تعبر عن تطلع الحضارة إلى الاستكثار من الأقوات والملابس والتأنق في البيوت والعمران والاهتمام بالصنائع المعبرة عن الترف والدعة والسكون، وهذا كله يشجع الكسب ويوسع دائرة العمل الإنساني…

ثالثاً : ارتباط الظاهرة الاقتصادية بالظاهرة الاجتماعية، لا يمكن دراسة الظاهرة الاقتصادية بعيداً عن الواقع الاجتماعي، فالظاهرة هي وليدة واقع اجتماعي، وكل سلوك يعبر عن دوافعه ومؤثراته، وأحياناً تكون الجغرافيا مؤثرة «في سلوك البشر»، أثر الخصب والجوع في تطور العمران، و «أثر الهواء في أخلاق البشر»(142) و «أثر الظلم في خراب العمران»(507) ومن عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم» (719)

قال ابن خلدون :

«اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك» (ص1/507).

وارتباط الظلم بالكسب وثيق، فالكسب يحتاج إلى الحركة والنشاط، وانقباض النفس بسبب الظلم يقعدها عن النشاط ويضعف قدراتها الذهنية والجسدية.

قال ابن خلدون :

«وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كبيراً عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال… وإن كان الاعتداء يسيراً كان الاتقباض عن الكسب على نسبته» (ص.507)

الوجوه الطبيعية للكسب :

يرى ابن خلدون أن الرزق مرتبط بالعمران، يقل عندما يضعف العمران، ويكثر عندما يزدهر العمران، لأن العمران يوفر العمل الإنساني، ويكثر الإنفاق ويزداد الدخل، ويظهر الترف، وكثرة الرزق تؤدي إلى مزيد من العمران، وهكذا في حركة تلقائية تعبر عند النشاط الاقتصادي.

قال ابن خلدون : «اعلم أنه إذا فقدت الأعمال أو قلت بانتقاص العمران، تأذن الله برفع الكسب، ألا ترى أن الأمصار القليلة المساكن كيف يقل الرزق والكسب فيها لقلة الأعمال الإنسانية» (ص681)

الكسب عن طريق الإمارة :

 أكد ابن خلدون أن الإمارة ليست مذهباً طبيعياً للكسب وعلة ذلك : أن صاحب الجاه وصاحب الإمارة لا يدفع قيمة العمل كاملة، فقد يدفع بعض قيمة العمل المبذول له… ويوفر قيم تلك الأعمال عليه (ص698) وكلمة الإمارة تفيد أحد معنين :

المعنى الأول : الأجر الذي يأخذه أصحاب الأعمال السلطانية، وهذا العمل لا ينتج كما هو الأمر في الفلاحة.. وهو ضروري لتيسير أمور الناس.

 المعنى الثاني : الكسب الذي يحصل عن طريق الجاه والرشوة واستخدام النفوذ ومصادرة الأموال وفرض الجبايات غير الشرعية..

وعلل ابن خلدون سبب هذا الكسب بقوله :

«وذلك أن صاحب الجاه والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه، والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه. فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي، فتحصل قيمُ تلك الأعمال كلها من كسبه (ص 693).

ولم يتحدث ابن خلدون عن شرعية هذا الكسب، وإنما اقتصر على وصف الظاهرة الاجتماعية كما هي في الواقع…

العوامل المؤثرة في الكسب :

هناك عاملان يؤثران في طبيعة الكسب :

العامل الأول : طبيعة أداء العمل من حيث الجودة والاتقان وبذل الجهد المطلوب لتحقيق الكسب.

العامل الثاني : الجاه، والجاه ضروري لتحقيق الربح، وأصحاب الطبقة الدنيا يبحثون عن الجاه والتواصل مع أصحاب الطبقة العليا، ويستفيدون من جاههم…

قال ابن خلدون :

«والجاه داخل على الناس في جميع أبواب المعاش، ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه، فإن كان الجاه متسعاً كان الكسب الناشئ عنه كذلك» (ص696).

علاقة الترفع بالكسب :

يرى ابن خلدون أن الجاه ضروري للكسب، وأن الفلاحة والصناعة إذا فقدت الجاه فإن أصحابها يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر، ولا تسرع إليهم ثروة، ويرمقون العيش ترميقاً (ص696)

أما أهل الترفع والكبر الذين لا يخضعون لأهل الجاه فهؤلاء يتوهمون الكمال في أنفسهم، ويظنون أن بضاعتهم سواء كانت بضاعة صناعة أو علم أو أدب أو شعر مما تكثر الحاجة إليها، وأن الناس يحتاجون إليها فيدفعهم ذلك إلى الترفع والكبر والانطواء، وينتظرون من يأتي إليهم، وينتظرون طويلا ولا أحد يطرق بابهم، وهذا من توهم الكمال في النفس، ويكثر هذا الوصف في أصحاب الأحساب والأنساب الذين يعيشون على ذكريات الماضي، ويعتقدون أن ذلك الماضي حيّ في نفوس الناس، ويدفعهم ذلك إلى الشعور بالتميز والتفوق….

وقال في وصف هؤلاء :

«ويتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم، فهم متمسكون في الحاضر بالأمر المعدوم، إذ الكمال لا يورث» (ص698).

وأكد أن هؤلاء لا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملقون لمن هو أعلى منهم، ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل عن الناس، فيستنكف أحدهم الخضوع ولو كان للملك، ويعده مذلة وهواناً وسفهاً، ويحاسب الناس في معاملتهم إياه بمقدار ما يتوهم في نفسه، ويحقد على من قصّر له في شيء مما يتوهمه من ذلك، وربما يُدخل على نفسه الهموم والأحزان من تفصيرهم فيه، ويحصل له المقت من الناس (ص 698).

ويبشر ابن خلدون العلماء والكتاب وأهل الأنساب وأحفاد العظماء بالفقر والخصاصة والشعور بالمقت والحزن، ومثل هؤلاء أهل العلم والقضاة والمدرسون، فإن ثروة هؤلاء لا تعظم في الغالب، لعدم الحاجة إلى بضاعتهم، والعامة لا تحتاج إليهم، ويمكن الاستغناء عنهم، بالإضافة إلى أنهم لا يخضعون لأهل الجاه والنفوذ، لأن شرف بضاعتهم وهي العلم تمنعهم من الخضوع، والتملق لأصحاب الجاه والسلطة والنفوذ…

قيمة العمل :

الأجر العادل هو الذي يساوي قيمة العمل، وفي الغالب يقع الظلم في الأجر، ويتود أسباب الظلم في الأجور لسببين :

الأول : جهل المظلوم بحقه

الثاني : عجز المظلوم عن المطالبة بحقه

ومن الصعب تحديد قيمة الأجر العادل، وليست هناك معايير واضحة ودقيقة، والأجور هي قيم مادية لأعمال إنسانية، وتختلف قيمة العمل باختلاف أهميته بالنسبة للإنسان، ولابد من مراعاة تكلفة العمل، وتكلفة الإنسان هي الحد الأدنى للأجر العادل، والتكلفة الإنسانية تحقق الشروط الضرورية للحياة الطبيعية للإنسان، وتشمل كل متطلباته من الطعام واللباس والسكن وما يوفر الكرامة له.

 وهناك أمران يحددان قيمة العمل :

أولا : حجم الجهد المبذول في العمل

ثانياً : مقدار الزمن الذي يستغرقه العمل.

وهناك ثلاثة معايير لتحديد قيمة العمل :

المعيار الأول : قدر العمل من حيث الجهد المبذول فيه وتكلفة العامل، والزمن ركن أساسي في تحديد مقدار الأجر..

المعيار الثاني : شرف العمل ونظرة المجتمع إليه، والمهن ليست سواء في نظرة المجتمع إليها بغض النظر عن أهميتها، فالفلاحة في  نظر ابن خلدون هي العمل المنتج الأهم وهي الأسلوب الطبيعي للمعاش، وهي أقدم وجوه المعاش، إلا أن الفلاحة مستضعفة، ويصفها ابن خلدون بأمرين :

أولا : هي مهنة المستضعفين، وهي لا تحتاج إلى ثقافة وتكوين، وهي مهنة بسيطة…

ثانياً : يختص ممتهن الفلاحة بالمذلة، وهي مرتبطة بالبداوة، ويعيش الفلاح في أرضه ويرضى بالقليل.

الثالث : حاجة المجتمع إليه

وهذا هو العامل الأهم في تحديد قيمة العمل، وهو ما يسمى بالندرة، وكل مهنة يحتاج إليها المجتمع فهي مطلوبة، وترتفع قيمة العمل فيها، وهذا هو السبب الذي دفع ابن خلدون للقول بأن أصحاب المهن الدينية كالتدريس والفتيا والقضاء لا تكثر ثروتهم لقلة الحاجة إلى بضاعتهم.

وهنا يحذر ابن خلدون من خطورة اغتصاب قيم الأعمال، وأن هذا من الظلم المؤذن بخراب العمران، وهذا يهدد أمن المجتمع واستقراره وانتقاص قيم العمل من العمال يؤدي إلى حقدهم ولذلك يطالبون بالأجور العادلة.

أثر الظلم في خراب العمران :

خصص ابن خلدون الفصل الثالث والأربعين للحديث عن الظلم، وقال : «الظلم مؤذن بخراب العمران، لأن العمران يرتبط بالإرادة ويتحقق بالسعي في الاكتساب، والسعي يحتاج إلى بواعث ومناعات، فإذا حدث الظلم عن طريق العدوان على الناس في أموالهم ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها، وانقبضت أيديهم عن السعي، لأن أموالهم ستخرج من أيديهم عن طريق الظلم»

وقال في ذلك :

«وعلى قدر الاعتداء يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال… وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته (ص507)…

وهذا الربط بين الظلم والنشاط الاقتصادي مهم جدا، في نجاح التطور الاقتصادي والإنتاجية…

مفهوم الظلم عند ابن خلدون :

يتسع مفهوم الظلم لكي يشمل كل أنواع الاعتداء الذي يقوم به أصحاب السلطات والنفوذ ضد الرعية، والأقوياء هم الذين يظلمون، ولذلك كانت الحكمة من وجود الدولة لمنع العدوان الذي يباشره الأقوياء ضد الضعفاء».

ويشمل الظلم ما يلي :

– «كل من أخذ ملك أو أحد غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حدا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه» (ص510)

– «جباة الأموال بغير حقها ظلمة» (ص510)

– «المقتضون عليها ظلمة» (ص 510)

– «المنتهبون لها ظلمة» (ص510)

– «المانعون لحقوق الناس ظلمة» (ص510)

– «غُصاب الأملاك على العموم ظلمة» (ص 510)

ومن الظلم المفسد للعمران الاحتكار، وهو التسلط على أموال الناس وشراؤها بأبخس الأثمان ثم بيعها بأعلى الأثمان.

وهذا الربط بين الظلم والعمران مهم جداً، ويمنع الظلم لتشجيع النشاط الاقتصادي والسعي والكسب، وإن كسب الإنسان إنما يمثل قيمة عمله، ومن لا يعمل لا يكسب، وعلى قدر العمل وشرفه وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته (ص695).

الفلاحة :

إذا كانت البداوة هي أصل الحضارة، والبدوي يتطلع إلى حياة التحضر في المدن، فإن الانتقال السريع من البداوة إلى الحضارة أمر شاق وغير مألوف، وفقر البادية مريح لا يتحدى صاحبه ولا يشعره بالخوف لأنه مطمئن إلى حياته وأسباب معيشته، بخلاف الفقر في المدن فهو مؤلم وعابس ومخيف، وعليه أن يبيع جهده لكي يكسب أسباب معاشه.

 تتميز حياة البداوة بما يلي :

أولا : الارتباط بالأرض، فالأرض تعطيه ما يحتاج إليه.

ثانياً : بساطة الحياة البدوية وانتشار الجهل والأمية.

ثالثاً : اعتماد البدوي على نفسه وتكوين عصبيات تكافل ومدافعة، وأهل البداوة أكثر شجاعة وكرماً وتواصلاً. وقيم البداوة قيم نبيلة وذات أبعاد إنسانية…

رابعاً : البداوة تكوّن خلق البأس في الرجال، لوجود عاملين :

أولهما : عامل التربية والتكوين الديني والاجتماعي.

ثانيهما : قسوة الحياة البدوية ومعاناة البدوي من الظلم والفقر والجهل والحرمان من أبسط الحقوق، والفلاحة هي الكنـز الذي لا يفنى، وهي الثروة التي لا تنضب أبداً، والفلاحة توفر السلع الضرورية، إلا أن البدوي يبيع عمله بأبخس الأثمان بسبب ضعفه وشعوره بالظلم والمذلة.

التجارة :

التجارة سبب طبيعي للكسب، إلا أنها مجرد تحيّلات في الحصول على الربح بين القيمتين الشراء والبيع، وكلمة تحيلات تنفي فكرة الإنتاجية في التجارة، فهي لا تضيف ثروة جديدة كما هو الشأن في الفلاحة ويعتمد التاجر على أمرين :

– التأثير النفسي على المشتري عن طريق المكايسة

إدخال وسائل تحسين على البضاعة، قد تكون وسائل مشروعة وقد تكون غير مشروعة عن طريق إيهام المشتري بأهمية البضاعة.

ولابدّ في التجارة من خلق المكايسة وتعني استخدام وسائل للإقناع كالكذب والمبالغة والحلف وادعاء الجودة وإبراز الصفات المحمودة …

وقال ابن خلدون : «إن خلق التجارة نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة عن المروءة لأن التجار يحتاجون إلى المكايسة والمماحكة والتحذلق ومحاربة الخصومات، وهذه الأوصاف تحد من المروءة لأن الأفعال لابد من عود أثرها على النفس (ص711).

الصناعة :

هي مهنة مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر، ولا تكتمل إلا بكمال العمران، وحاجة أهل العمران للكماليات وحياة الترف والراحة، وتزدهر الصنائع في ظل العمران، وتحتاج الصناعة إلى ملكة، والملكة تحتاج إلى موهبة وحسن التعليم والتدريب…

الربح :

يتحقق الربح لدى التجار بفضل الأسباب التالية :

أولا : العمل والجهد، وهذا ربح مشروع وعادل ويجب ألا يتجاوزه بزيادة أو نقص…

ثانياً :ٍ خلق المكايسة، وهو جزء من الجهد الخاص الذي يختص به التجار، ولا يرتضيه أهل المروءة..

ثالثاً : الجاه، وهو عامل مهم في تحصيل الربح، وأهل الجاه أقدر من غيرهم على تحصيل الربح الفاحش… ومصادر الجاه ثلاثة :

–     أولا : السلطة ، وصاحب السلطة يتقرب الناس منه بسبب جاهه لحاجتهم إليه وشعورهم بالتميز بسبب اقترابهم منه، إلا أنه جاه قد يزول.

–     ثانياً : المجتمع، وهذا جاه حقيقي لا يزول، وكلما ارتقى المجتمع ارتقت معايير احترامه لأفراده، وكبار الرجال يستمدون جاههم من ذاتهم ومواقفهم.

–     ثالثاً : المال، وهو مصدر للجاه والمكانة الاجتماعية، وعندما ينحدر المجتمع يرفع من شأن هذا المعيار، ويكرم رموز المال في الظاهر ويحتقرهم في نفسه…

ما أصدق ما يصف به ابن خلدون الواقع الاجتماعي وطبائع النفس البشرية، وما أقسى الصورة القبيحة والبشعة التي يلتقطها المشاهد واقعية في أخلاق التجار والمتطلبات الكسب، وارتباط الربح بالجاه والتملق والمكاسبة بعيداً عن القيم الأخلاقية.

معيار الرواج والكساد :

يرجع أسباب كساد السلعة إلى أمرين :

أولا : قلة الحاجة إلى تلك السلعة

ثانياً : غلاء الثمن

قال ابن خلدون :

«والتاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلا ما تعم الحاجة إليه من الغني والفقير والسلطان والسوقة، إذ في ذلك نفاق سلعته» (ص 706)

وحذر ابن خلدون من خطورة رخص الأسعار، وأن ذلك مضر بالإنتاج مضعف للسعي، ويقول في ذلك :

«وإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متحول على الجملة، ولم يحصل للتاجر حوالة الأسواق فيه فسد الربح والنماء بطول تلك المدة وكسدت سوق ذلك الصنف» (ص709)

وقال في رخص أسعار الزرع :

«واعتبر ذلك بالزرع، فإنه إذا استديم رخصه كيف تفسد أحوال المحترفين به» (ص 710)

وأكد ابن خلدون على أهمية أمرين :

الأول : ضرورة الرخص فيما كانت الحاجة إليه عامة،

الثاني : ترجيح جانب القوت على الربح في  السلع الضرورية والغاية من ذلك حماية القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود والطبقات الفقيرة.

أسباب الاستجادة في الصناعة :

هناك سببان لاستجادة الصنائع :

أولهما : العمران ، وعلل ابن خلدون ذلك بأن الأسعار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع (ص 719) فالصنائع تزدهر في ظل العمران حيث يكثر الإنفاق والترف ويبحث المجتمع عن الكماليات، وفي حالة هرم الدولة تقل الأموال ويتوقف العمران وتتراجع الصنائع لقلة الحاجة إليها، وبخاصة في حالات الاضطراب التي تتوقف فيها الحاجة إلى الكماليات.

ثانيهما : الدولة : والدولة تملك المال، وهي السوق الأعظم والمستهلك الأكبر، وعندما يزداد إنفاقها على السلع الكمالية يزدهر الطلب عليها، وهي الأقدر على دفع التكلفة العالية.

ثمن الجاه :

الجاه الأكبر المؤثر في الربح هو جاه السلطة، والناس يبحثون عن جاه السلطة لحماية مصالحهم أولا والاستفادة من أصحاب النفوذ ثانياً، ولكن أصحاب الجاه لا يمنحون جاههم لمن يتقرب منهم إلا بعد أن يكون مستعداً لدفع ثمن الجاه، من كرامة أولا عن طريق التزلف والتملق لأهل السلطة، وعن طريق تحقيق مصالح لرموز السلطة.

يقول ابن خلدون : «صاحب الجاه لا يعطي جاهه لمن يحتاج إليه إلا بثمن، ويشترط أن يكون الثمن مساوياً لقيمة المصلحة» (ص 696).

أثر زيادة الطلب على جودة الصناعة :

يزداد الطلب على الإنتاجية عند الحاجة إليها، وكلما زاد الطلب ارتفعت القيمة، وكلما زاد الربح كثر الإنتاج، وظهر التنافس على هذه السلعة، ويخضع التنافس على السلعة لعاملين :

الأول : جودة السلعة

والجودة عامل مهم في ميدان التنافس، إلا أن الجودة تتطلب تكلفة أكبر ولذلك يحرص المنتج على التقليل من حجم التكلفة، لكي يكون قادراً على المنافسة..

الثاني : قيمة السلعة

والقيمة هي العامل الأهم في مجال التنافس، فالمستهلك يحرص على الجودة بشرط أن تكون القيمة مقبولة ومساوية للسلعة المماثلة.

قال ابن خلدون : «البضائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها، و السبب في ذلك ظاهر وهو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً، لأنه كسبه ومنه معاشه» (ص 718).

وأكد ابن خلدون أن الرخص في الأسعار مضر بالمحترفين، وهو يبحث عن الربح فإذا لم يتحقق له الربح قعد عن السعي وأوقف إنتاجه، وكلما قل الطلب حرص المنتج على تخفيف التكلفة وخفض الأسعار.

صناعة الطب تزدهر في المدن :

تزدهر الصناعات في المدن، فالطب يحتاج إليه الناس في المدن وفي ظل الحضارة، وتقل الحاجة إليه في مجتمع البداوة وفي الأرياف لسببين :

الأول : قيمة الحياة أكبر في ظل الحضارة، والحضارة وعي بأهمية الصحة وضرورة الحفاظ عليها، ولا يكون ذلك في البوادي، وهناك إهمال ناشئ عن الجهل  بقيمة الصحة.

الثاني : عجز أهل البداوة عند حماية الصحة بسبب الفقر ونقص الأموال وقلة الأجور، وهذا يؤدي إلى ارتباط هذه الصناعة بالعمران.

أهمية المنافسة في التجارة :

خصص ابن خلدون فصلا مستقلا للحديث عن تجارة أهل السلطة والنفوذ، وقال : «التجارة من أهل السلطان والنفوذ مضرة بالرعية مفسدة للجباية وعلل ذلك بأن هذا الأمر يُدخل الضرر على الرعايا والفلاحين، لانعدام التكافؤ في القدرات والثروات، ولا يمكن للضعيف أن يزاحم الأقوياء في النفوذ فيقع الضرر الكبير على التجار الصغار المتساوين في القدرات المادية، وهذا مما يدخل الغم والنكد في حياة هؤلاء» (ص 598)

أيها الزملاء الأعزاء :

آراء ابن خلدون في الكسب والعمل والفلاحة والتجارة والأسعار والمنافسة والرواج والكساد هي جزء من الفكر الإنساني الذي يواكب حركة الإنسان في سعيه الغريزي المتواصل للبحث عن الكمال الذي يتراءى له من بعيد كفجر يضيء ظلام واقعه المقترن بالفقر والظلم، وحركة التاريخ متواصلة من بداوة إلى حضارة، ومن حضارة إلى هرم وشيخوخة، مدافعات ومغالبات على امتداد الرحلة الإنسانية، وكل نهاية تختم بولادة جديدة تشرق الشمس فيها مبشرة بيوم جديد، بؤس يقود إلى بأس والبأس إرادة وطموح وتطلع إلى الغد.

هذه هي النفس البشرية في اندفاعاتها الجامحة المتمردة، والحضارة عصارة معاناة وجهاد وتوثب وتوتر، فإذا استقرت النفس وهدأت بدأت الشعلة المتوقدة تحبو رويدا تحت وطأة الشيخوخة مخلفة وراءها وليداً جديداً يبحث عن ذاته….

ابن خلدون كان يلتقط الظاهرة ويصورها ثم يجتهد في البحث عن أسبابها وعللها ودوافعها في قلعة بني سلمة اعتزل الناس وأخذ يسجل أحداث عصره وتجربته، أصاب وأخطأ، وقدم لنا رؤية واقعية نقدية لكل الحركة الإنسانية كما عاشها ورآها في رحلته في القصور والسجون.

أراد ابن خلدون أن يسجل تاريخ الدول والملوك والمقالبات المخيفة بين الطامحين في السلطة والمال، وكانت القبائل هي المحرك الرئيس لهذا التاريخ، وكان الصراع قوياً بين  البداوة المتوثبة الغاضبة والحضارة المستقرة الآمنة المترفة…

 رحلة البحث عن السلطة والمال والجاه والنفوذ، ذلك الكنـز السحري الغامض الذي يغري الطامحين ويريح الغاضبين.

العلاقة بين السلطة والمال علاقة وثيقة ولو زهد صاحب السلطة بالمال لما أثار مشاعر الحقد في نفوس المحرومين، ولو تحالف الحاكم مع المستضعفين ودافع عن حقوقهم المسلوبة منهم في الكرامة الإنسانية لما كانت الثورات الغاضبة.

ما ذكره ابن خلدون كان مقتبساً من واقع مجتمعه، فهل نحن قادرون على تقديم لوحة وصفية صادقة ومعبرة عما يجري في مجتمعنا العربي اليوم.

علينا أن ندخل إلى قلعة ابن سلامة ونتأمل في واقعنا ثم نكتب ما نراه…

هذه هي مهمة المثقف في كل العصور.

 

  • ردود العضو الزميل السيد محمد فاروق النبهان :

 

أشكر الزملاء الكرام على مناقشتهم وتدخلاتهم القيمة التي أفادتني ووجهت اهتمامي لكثير من القضايا التي تحدثت عنها، وأنا معتز بما سمعت، وأود أن أوضح بعض النقاط المتعلقة بابن خلدون :

ابن خلدون ليست له ولا لآرائه أي صفة قدسية على وجه اليقين. نحن نتحدث عن فكره. قد نؤاخذه من الناحية الأخلاقية عن أشياء كثيرة تتعلق بشخصيته الأخلاقية والتزامه خاصة ونحن نعرف مواقفه البعيدة عن الوفاء، والطبيعة الوصولية  التي اشتهر بها والتي دفعته للهجرة والذهاب إلى تمرلانTamerlan  وفراره منها إلى دمشق، وقد عرض عليه المجيء إلى بلاد المغرب كما هو واضح. ودخل السجن بسبب كثير من المواقف التي أخذت عليه. مثلا عندما كان في قصور المرينيين، ثم اضطهد ووقع خلاف بينه وبين ابن الخطيب… وكان يشعر دائماً بالصدمة.

هو يصف الواقع كما هو، يتناول ظاهرة ويفسرها. ويترك للقارئ أن يستنتج ما يشاء منها. هو لا يقول هذا خطأ وهذا صواب.

 أظن أن منهجه منهجا نقديا ضمنياً. لما يقول مثلا بعدم جدوى غرس الورود كما جاء في تدخل السيد عبد الهادي التازي، هو لا يعني ذلك، بل يريد أن يقول إن الدولة حين تهتم بالترف، فهنا تبدأ مرحلة الشيخوخة، أي أنها بلغت مرحلة الهرم. فحين يبدو الإنفاق على مظاهر الدعة والتفنن في العمران والصنائع.. عندئذ تكون الدولة مهيأة لتأسيس عصبية كبيرة ذات بأس كبير من البداوة المتطلعة إلى السلطة والمال فتنقض عليها، وهنا لا تستطيع الدولة أن تقاوم.

فيقول إذا بدأنا في مرحلة الترف، فعلينا أن نتوقع الخراب. أي انتهاء الدولة والسلطة الحاكمة.

حتى عندما تكلم عن الفلاحة، فهو لم يسئ أبدا للفلاحة، قال هذه الفئة من الناس مستضعفة الفالحون مظلومون، يقول إن الفلاحة هي الوسيلة الوحيدة التي تعطي، هي وسيلة الإنتاج الوحيدة التي تضيف. لكن الفلاحين مهانون، لا أحد يعترف بقدرتهم. هم جاهلون ولا يعرفون حقوقهم. حتى ولو عرفوها فهم لا يستطيعون الدفاع عنها.

إبن خلدون لا يريد من وراء ذلك أن يصلح المجتمع ولكنه يريد أن يوجه الأنظار لبعض الظواهر الاجتماعية بما فيها الإيجابية والسلبية.

ابن خلدون لم يتكلم أبداً عن الدعوة الدينية، يقول: “العصبية الدينية تعطي للعصبية القبلية قوة تماسك. وهي لا حدود لها والدعوة الدينية بدون عصبية محكوم عليها بالفناء”.

وهذا مهم جدا، لأننا لو أخذنا أفراد أي حركة سياسية ليس لهم عصبية دينية، أو رابطة تجعلهم يتماسكون – فهؤلاء محكوم عليهم بالانهيار.

يتكلم عن أطوار الدولة الأربعة، طور النشأة وطور الاستقرار ويتكلم عن الحجاب، عن حجاب الحاكم هذا الحجاب يكون خفيفاً في بعض الدول. فهو يقول : “عندما تستقر الدولة يبتدئ الحجاب. فالحاكم لا يعود يرى الناس.يتحدث عن ” أصحاب السيف وأصحاب القلم”. قال :”إن أصحاب السيف في بداية الحكم يكونون هم رفقاء الحاكم، هم جليسوه. لكن عندما تستقر الدولة، لا تبقى له حاجة بهم، فيدعو الشعراء والأدباء إلى مجلسه، لأنه يريد أن يستمتع. فابن خلدون كان يلتقط هذه الصورة من مجتمعه.

لما دخل قلعة بني سلمة قرب وهران – وكانت هذه تجربة صعبة، وأحس باليأس والتصدم. إنه استدعي مرات عديدة ليشغل مناصب في السلطة إلا أنه رفض السياسة وهرب إلى مصر وهناك أصبح يسمى ولي الدين وأصبح قاضياً وأكمل حياته هناك ثم بدأ ينقح في كتابه “المقدمة”.

 قرأت المقدمة – ثلاث مرات، في المرة الأولى لم أستطع أن أستوعب فكر ابن خلدون. وبعد عشر سنوات رجعت إلى المقدمة ثانية وكذلك لم أستطع استيعاب ما كُتب. بعد ذلك قررت أن أقسم الكتاب إلى أقسام وأقرأ كل واحد على حدة. هو مكون من 1000 صفحة. قسمته على عدة أفكار – كل فكرة أدرسها على حدة. ما يتعلق بالعصبية، ما يتعلق بالكسب …الخ.

لما استوعبت ما كتب في المقدمة، أصبحت متأثراً بابن خلدون حتى في المجال الفقهي، واعتمدت على نظرياته في كتابي حول قيمة العمل. فقيمة الكسب لدى العامل ليست هي قيمة الكسب لدى الطبيب الذي درس لمدة خمسة وعشرين سنة …الخ، فتكلفة الساعة الزمنية لكل منهما ليست متكافئة وهذه الفكرة أخذتها من ابن خلدون فيما يتعلق بالعمل وتكلفته.

إذن، ابن خلدون قدّم لنا فكراً نحتاج إليه اليوم ونستفيد منه. فعلينا أن نأخذ أفكاره ونستثمرها ونطبقها بما يلائم المجتمع الذي نعيش فيه. هذه هي الغاية من كتابات ابن خلدون. ابن خلدون كتب لعصره قبل أن يأتي آدم سميث (Adam Smith) الذي كتب “ثروة الأمم” في القرن السابع عشر، واعتبر مؤسسا لعلم الاقتصاد، لأنه لأول مرة يكتب عن القيم والريع والربح والإنتاج وغير ذلك.

ابن خلدون قدم عملا جيداً يستحق الشكر عليه. وأنا أعتز بإخواني الزملاء الذين أتاحوا لي الفرصة للحديث في هذا الموضوع وشكرا لكم.

 

 

الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون

دراسة تحليلية لنصوص من مقدمة ابن خلدون

 

 

لا أعتقد أن مفكرا إسلامياً لقيتْ آراؤه من العناية والاهتمام ما لقيه ابن خلدون، والحديث عنه ليس من الأحاديث التي توصف بالتكرار الممل، فهو شخصية غنية بآفاقها وشموليتها، وهو مفكر مجدد مبدع، أعطى فأغنى وكتب فاستوفى، وأضاف الجديد من رؤيته لقضايا عصره، وكان له في كل قضية موقف متميز واجتهاد متفرد، قد نقبله حيناً وقد نرفضه حيناً آخر، إلا أننا لا نملك إلا أن نعترف بأهمية الرؤية الخلدونية ذات المقدرة على تحليل الواقع ورصد قوانين النفس البشرية في مواقف كثيرة، في السلطة والمال والمدافعة والمغالبة، وفي سلوكيات الترف والبؤس والظلم، وأثر ذلك في سلوكيات الإنسان.

ابن خلدون لم يخاطب جيلا معاصراً له، وإنما كان يخاطب الموكب الإنساني في رحلته الحتمية من النقص إلى الكمال، ومن البداوة إلى الحضارة، من البؤس إلى الترف من المدافعة إلى المغالبة…

مقدمة ابن خلدون مائدة شهية غنية، حافلة بكل أنواع المعارف الإنسانية، وفي كل طبق من أطباقه نجد الجديد والشهي والممتع.

لقد كان مبدعاً في رسم ملامح الحركة الإنسانية، عميقاً في قدرته على تحليل الأحداث، يلتقط المشهد ثم يتأمل في ملامحه، يفسر ويحلل ويستنتج، ويعرض آراءه بشجاعة، ويرسم بذلك ملامح السلوك الذي ينسجم مع أصول العادات وقواعد العمران..

ترجمة ابن خلدون

كتب ابن خلدون ترجمة لحياته في الجزء السابع من كتابه «العبر» المعروف بتاريخ ابن خلدون، وسماه «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً» من الصفحة 795 إلى الصفحة 1224 من المجلد السابع من تاريخه طبعة دار الكتاب اللبناني عام 1959 وقام بتحقيق هذا الجزء الباحث المغربي محمد بن تاويت الطنجي…

ولد ابن خلدون في غرة شهر رمضان سنة  732 هـ الموافق لـ 27 مايو 1332 م بتونس، واسمه عبد الرحمن أبوزيد وليّ الدين بن خلدون، ويرجع نسبه كما جاء في كتاب التعريف إلى وائل بن حجر من حضرموت ومن غرب اليمن، وقد رحل أجداده إلى اشبيلية ثم انتقلوا إلى تونس في أواسط المائة السابعة، قال ابن حيان :

«بيت بني خلدون في اشبيلية غاية في النباهة، ولم تـزل أعلامه بين رياسة سلطانية ورياسة علمية، وحاول ابن خلدون في كتابه التعريف أن يسجل أحداث عصره ويعللها، ويبرز دوافعها، ويرصد نتائجها بموضوعية ونزاهة…»

قال المؤرخ توينبي في كتابه «دراسة التاريخ» «إن ابن خلدون قد تصور وصاغ فلسفة هي بلا شك أعظم نتاج أبدعه أي ذهن في أي عصر».

التعريف بكتاب العبر

يعتبر كتاب «العبر» من أهم كتب التاريخ، واسمه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» ويقسم ابن خلدون كتابه «العبر» إلى ثلاثة كتب ومقدمة، تحدث في المقدمة عن فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلمام بمغالط المؤرخين، وأكّد أن فنّ التاريخ عزيز المذهب عم الفوائد شريف الغاية لأنه يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، وقال : «إن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأصول في الاجتماع الإنساني فربما لا يؤمن في ذلك من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق.

الكتاب الأول : يطلق على المقدمة المعروفة، وتشمل هذه المقدمة فصولا ستة :

– الأول : العمران البشري وأصنافه

– الثاني : العمران البدوي والأمم الوحشية

– الثالث : الدول والخلافة والملك والمراتب السلطانية

– الرابع : العمران الحضري والبلدان والأمصار

– الخامس : الصنائع و المعاش والكسب

– السادس : العلوم واكتسابها

الكتاب الثاني : ويشمل أربعة أجزاء، وتضم أخبار العرب وأجيالهم ودولهم ومن عاصرهم من الأمم…

الكتاب الثالث : ويشمل المجلد السادس والسابع، وقد خصصه لأخبار البربر ومواليهم وأجيالهم ودولهم.

وختم كتابه العبر بالتعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً ومراحل حياته….

أسباب دراسة ابن خلدون للظواهر الاقتصادية :

لم يُرد ابن خلدون أن يكتب عن الاقتصاد أو يضع نظرية لعلم الاقتصاد، وإنما أراد أن يتحدث عن التاريخ، وأن يضع لهذا العلم قوانينه وقواعده التي تجعله في مأمن من الغلط والزلل لئلا يتطرق الشك إلى الرواية التاريخية.

وكان يريد تسجيل الظواهر المرتبطة بالصنائع والمعاش والكسب والفلاحة والتجارة والصناعة والرواج والكساد، وعلاقة الفلاحة بتكوين الشخصية البدوية المتطلعة إلى الحضارة، والمؤهلة بسبب الفقر والبؤس إلى تكوين عصبيات متلاحمة ومؤهلة للمدافعة والمغالبة. وكان يريد تحقيق الغايات الآتية :

أولاً : وضع معايير واقعية للرواية التاريخية، فالتاريخ في نظره ليس شيئاً خارجاً عن أصول العادة وقواعد العمران، وعندما يبتعد التاريخ عن أصول العادة لا يمكن الاحتجاج به، ولا يمكن الاقتداء به، ويجب التطلع إلى الحقيقة التاريخية كما وقعت، بعيداً عن المبالغات وفقاً لأصول العادات. فالتاريخ في نظر ابن خلدون «نظر وتحقيق وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق» (انظر مقدمة ابن خلدون ص2)

ثانيا : تأكيد علاقة الكسب بالاجتماع الإنساني.

لا يتحقق العمران إلا بالاجتماع الإنساني، وحاجة الإنسان للآخر لكي يحافظ الجنس البشري على وجوده واستمراره، والكسب هو قيمة العمل، فالإنسان يبيع عمله بقيمة مادية ويشتري عمل غيره عن طريق التبادل النقدي، ولا يتحقق الكسب إلا في ظل العمران، وكلما ارتقى الإنسان من البداوة إلى الحضارة ارتقت وسائل الكسب وتنوعت، فالحضارة تولد ظروفاً للكسب جديدة لأنها توسع من دائرة الضروريات، وكلما تطورت الحضارة أوجدت وسائل جديدة للكسب، وأصبحت مطالب الإنسان واسعة تعبر عن تطلع الحضارة إلى الاستكثار من الأقوات والملابس والتأنق في البيوت والعمران والاهتمام بالصنائع المعبرة عن الترف والدعة والسكون، وهذا كله يشجع الكسب ويوسع دائرة العمل الإنساني…

ثالثاً : ارتباط الظاهرة الاقتصادية بالظاهرة الاجتماعية، لا يمكن دراسة الظاهرة الاقتصادية بعيداً عن الواقع الاجتماعي، فالظاهرة هي وليدة واقع اجتماعي، وكل سلوك يعبر عن دوافعه ومؤثراته، وأحياناً تكون الجغرافيا مؤثرة «في سلوك البشر»، أثر الخصب والجوع في تطور العمران، و «أثر الهواء في أخلاق البشر»(142) و «أثر الظلم في خراب العمران»(507) ومن عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم» (719)

قال ابن خلدون :

«اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك» (ص1/507).

وارتباط الظلم بالكسب وثيق، فالكسب يحتاج إلى الحركة والنشاط، وانقباض النفس بسبب الظلم يقعدها عن النشاط ويضعف قدراتها الذهنية والجسدية.

قال ابن خلدون :

«وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كبيراً عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال… وإن كان الاعتداء يسيراً كان الاتقباض عن الكسب على نسبته» (ص.507)

الوجوه الطبيعية للكسب :

يرى ابن خلدون أن الرزق مرتبط بالعمران، يقل عندما يضعف العمران، ويكثر عندما يزدهر العمران، لأن العمران يوفر العمل الإنساني، ويكثر الإنفاق ويزداد الدخل، ويظهر الترف، وكثرة الرزق تؤدي إلى مزيد من العمران، وهكذا في حركة تلقائية تعبر عند النشاط الاقتصادي.

قال ابن خلدون : «اعلم أنه إذا فقدت الأعمال أو قلت بانتقاص العمران، تأذن الله برفع الكسب، ألا ترى أن الأمصار القليلة المساكن كيف يقل الرزق والكسب فيها لقلة الأعمال الإنسانية» (ص681)

الكسب عن طريق الإمارة :

 أكد ابن خلدون أن الإمارة ليست مذهباً طبيعياً للكسب وعلة ذلك : أن صاحب الجاه وصاحب الإمارة لا يدفع قيمة العمل كاملة، فقد يدفع بعض قيمة العمل المبذول له… ويوفر قيم تلك الأعمال عليه (ص698) وكلمة الإمارة تفيد أحد معنين :

المعنى الأول : الأجر الذي يأخذه أصحاب الأعمال السلطانية، وهذا العمل لا ينتج كما هو الأمر في الفلاحة.. وهو ضروري لتيسير أمور الناس.

 المعنى الثاني : الكسب الذي يحصل عن طريق الجاه والرشوة واستخدام النفوذ ومصادرة الأموال وفرض الجبايات غير الشرعية..

وعلل ابن خلدون سبب هذا الكسب بقوله :

«وذلك أن صاحب الجاه والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه، والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه. فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي، فتحصل قيمُ تلك الأعمال كلها من كسبه (ص 693).

ولم يتحدث ابن خلدون عن شرعية هذا الكسب، وإنما اقتصر على وصف الظاهرة الاجتماعية كما هي في الواقع…

العوامل المؤثرة في الكسب :

هناك عاملان يؤثران في طبيعة الكسب :

العامل الأول : طبيعة أداء العمل من حيث الجودة والاتقان وبذل الجهد المطلوب لتحقيق الكسب.

العامل الثاني : الجاه، والجاه ضروري لتحقيق الربح، وأصحاب الطبقة الدنيا يبحثون عن الجاه والتواصل مع أصحاب الطبقة العليا، ويستفيدون من جاههم…

قال ابن خلدون :

«والجاه داخل على الناس في جميع أبواب المعاش، ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه، فإن كان الجاه متسعاً كان الكسب الناشئ عنه كذلك» (ص696).

علاقة الترفع بالكسب :

يرى ابن خلدون أن الجاه ضروري للكسب، وأن الفلاحة والصناعة إذا فقدت الجاه فإن أصحابها يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر، ولا تسرع إليهم ثروة، ويرمقون العيش ترميقاً (ص696)

أما أهل الترفع والكبر الذين لا يخضعون لأهل الجاه فهؤلاء يتوهمون الكمال في أنفسهم، ويظنون أن بضاعتهم سواء كانت بضاعة صناعة أو علم أو أدب أو شعر مما تكثر الحاجة إليها، وأن الناس يحتاجون إليها فيدفعهم ذلك إلى الترفع والكبر والانطواء، وينتظرون من يأتي إليهم، وينتظرون طويلا ولا أحد يطرق بابهم، وهذا من توهم الكمال في النفس، ويكثر هذا الوصف في أصحاب الأحساب والأنساب الذين يعيشون على ذكريات الماضي، ويعتقدون أن ذلك الماضي حيّ في نفوس الناس، ويدفعهم ذلك إلى الشعور بالتميز والتفوق….

وقال في وصف هؤلاء :

«ويتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم، فهم متمسكون في الحاضر بالأمر المعدوم، إذ الكمال لا يورث» (ص698).

وأكد أن هؤلاء لا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملقون لمن هو أعلى منهم، ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل عن الناس، فيستنكف أحدهم الخضوع ولو كان للملك، ويعده مذلة وهواناً وسفهاً، ويحاسب الناس في معاملتهم إياه بمقدار ما يتوهم في نفسه، ويحقد على من قصّر له في شيء مما يتوهمه من ذلك، وربما يُدخل على نفسه الهموم والأحزان من تفصيرهم فيه، ويحصل له المقت من الناس (ص 698).

ويبشر ابن خلدون العلماء والكتاب وأهل الأنساب وأحفاد العظماء بالفقر والخصاصة والشعور بالمقت والحزن، ومثل هؤلاء أهل العلم والقضاة والمدرسون، فإن ثروة هؤلاء لا تعظم في الغالب، لعدم الحاجة إلى بضاعتهم، والعامة لا تحتاج إليهم، ويمكن الاستغناء عنهم، بالإضافة إلى أنهم لا يخضعون لأهل الجاه والنفوذ، لأن شرف بضاعتهم وهي العلم تمنعهم من الخضوع، والتملق لأصحاب الجاه والسلطة والنفوذ…

قيمة العمل :

الأجر العادل هو الذي يساوي قيمة العمل، وفي الغالب يقع الظلم في الأجر، ويتود أسباب الظلم في الأجور لسببين :

الأول : جهل المظلوم بحقه

الثاني : عجز المظلوم عن المطالبة بحقه

ومن الصعب تحديد قيمة الأجر العادل، وليست هناك معايير واضحة ودقيقة، والأجور هي قيم مادية لأعمال إنسانية، وتختلف قيمة العمل باختلاف أهميته بالنسبة للإنسان، ولابد من مراعاة تكلفة العمل، وتكلفة الإنسان هي الحد الأدنى للأجر العادل، والتكلفة الإنسانية تحقق الشروط الضرورية للحياة الطبيعية للإنسان، وتشمل كل متطلباته من الطعام واللباس والسكن وما يوفر الكرامة له.

 وهناك أمران يحددان قيمة العمل :

أولا : حجم الجهد المبذول في العمل

ثانياً : مقدار الزمن الذي يستغرقه العمل.

وهناك ثلاثة معايير لتحديد قيمة العمل :

المعيار الأول : قدر العمل من حيث الجهد المبذول فيه وتكلفة العامل، والزمن ركن أساسي في تحديد مقدار الأجر..

المعيار الثاني : شرف العمل ونظرة المجتمع إليه، والمهن ليست سواء في نظرة المجتمع إليها بغض النظر عن أهميتها، فالفلاحة في  نظر ابن خلدون هي العمل المنتج الأهم وهي الأسلوب الطبيعي للمعاش، وهي أقدم وجوه المعاش، إلا أن الفلاحة مستضعفة، ويصفها ابن خلدون بأمرين :

أولا : هي مهنة المستضعفين، وهي لا تحتاج إلى ثقافة وتكوين، وهي مهنة بسيطة…

ثانياً : يختص ممتهن الفلاحة بالمذلة، وهي مرتبطة بالبداوة، ويعيش الفلاح في أرضه ويرضى بالقليل.

الثالث : حاجة المجتمع إليه

وهذا هو العامل الأهم في تحديد قيمة العمل، وهو ما يسمى بالندرة، وكل مهنة يحتاج إليها المجتمع فهي مطلوبة، وترتفع قيمة العمل فيها، وهذا هو السبب الذي دفع ابن خلدون للقول بأن أصحاب المهن الدينية كالتدريس والفتيا والقضاء لا تكثر ثروتهم لقلة الحاجة إلى بضاعتهم.

وهنا يحذر ابن خلدون من خطورة اغتصاب قيم الأعمال، وأن هذا من الظلم المؤذن بخراب العمران، وهذا يهدد أمن المجتمع واستقراره وانتقاص قيم العمل من العمال يؤدي إلى حقدهم ولذلك يطالبون بالأجور العادلة.

أثر الظلم في خراب العمران :

خصص ابن خلدون الفصل الثالث والأربعين للحديث عن الظلم، وقال : «الظلم مؤذن بخراب العمران، لأن العمران يرتبط بالإرادة ويتحقق بالسعي في الاكتساب، والسعي يحتاج إلى بواعث ومناعات، فإذا حدث الظلم عن طريق العدوان على الناس في أموالهم ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها، وانقبضت أيديهم عن السعي، لأن أموالهم ستخرج من أيديهم عن طريق الظلم»

وقال في ذلك :

«وعلى قدر الاعتداء يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال… وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته (ص507)…

وهذا الربط بين الظلم والنشاط الاقتصادي مهم جدا، في نجاح التطور الاقتصادي والإنتاجية…

مفهوم الظلم عند ابن خلدون :

يتسع مفهوم الظلم لكي يشمل كل أنواع الاعتداء الذي يقوم به أصحاب السلطات والنفوذ ضد الرعية، والأقوياء هم الذين يظلمون، ولذلك كانت الحكمة من وجود الدولة لمنع العدوان الذي يباشره الأقوياء ضد الضعفاء».

ويشمل الظلم ما يلي :

– «كل من أخذ ملك أو أحد غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حدا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه» (ص510)

– «جباة الأموال بغير حقها ظلمة» (ص510)

– «المقتضون عليها ظلمة» (ص 510)

– «المنتهبون لها ظلمة» (ص510)

– «المانعون لحقوق الناس ظلمة» (ص510)

– «غُصاب الأملاك على العموم ظلمة» (ص 510)

ومن الظلم المفسد للعمران الاحتكار، وهو التسلط على أموال الناس وشراؤها بأبخس الأثمان ثم بيعها بأعلى الأثمان.

وهذا الربط بين الظلم والعمران مهم جداً، ويمنع الظلم لتشجيع النشاط الاقتصادي والسعي والكسب، وإن كسب الإنسان إنما يمثل قيمة عمله، ومن لا يعمل لا يكسب، وعلى قدر العمل وشرفه وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته (ص695).

الفلاحة :

إذا كانت البداوة هي أصل الحضارة، والبدوي يتطلع إلى حياة التحضر في المدن، فإن الانتقال السريع من البداوة إلى الحضارة أمر شاق وغير مألوف، وفقر البادية مريح لا يتحدى صاحبه ولا يشعره بالخوف لأنه مطمئن إلى حياته وأسباب معيشته، بخلاف الفقر في المدن فهو مؤلم وعابس ومخيف، وعليه أن يبيع جهده لكي يكسب أسباب معاشه.

 تتميز حياة البداوة بما يلي :

أولا : الارتباط بالأرض، فالأرض تعطيه ما يحتاج إليه.

ثانياً : بساطة الحياة البدوية وانتشار الجهل والأمية.

ثالثاً : اعتماد البدوي على نفسه وتكوين عصبيات تكافل ومدافعة، وأهل البداوة أكثر شجاعة وكرماً وتواصلاً. وقيم البداوة قيم نبيلة وذات أبعاد إنسانية…

رابعاً : البداوة تكوّن خلق البأس في الرجال، لوجود عاملين :

أولهما : عامل التربية والتكوين الديني والاجتماعي.

ثانيهما : قسوة الحياة البدوية ومعاناة البدوي من الظلم والفقر والجهل والحرمان من أبسط الحقوق، والفلاحة هي الكنـز الذي لا يفنى، وهي الثروة التي لا تنضب أبداً، والفلاحة توفر السلع الضرورية، إلا أن البدوي يبيع عمله بأبخس الأثمان بسبب ضعفه وشعوره بالظلم والمذلة.

التجارة :

التجارة سبب طبيعي للكسب، إلا أنها مجرد تحيّلات في الحصول على الربح بين القيمتين الشراء والبيع، وكلمة تحيلات تنفي فكرة الإنتاجية في التجارة، فهي لا تضيف ثروة جديدة كما هو الشأن في الفلاحة ويعتمد التاجر على أمرين :

– التأثير النفسي على المشتري عن طريق المكايسة

إدخال وسائل تحسين على البضاعة، قد تكون وسائل مشروعة وقد تكون غير مشروعة عن طريق إيهام المشتري بأهمية البضاعة.

ولابدّ في التجارة من خلق المكايسة وتعني استخدام وسائل للإقناع كالكذب والمبالغة والحلف وادعاء الجودة وإبراز الصفات المحمودة …

وقال ابن خلدون : «إن خلق التجارة نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة عن المروءة لأن التجار يحتاجون إلى المكايسة والمماحكة والتحذلق ومحاربة الخصومات، وهذه الأوصاف تحد من المروءة لأن الأفعال لابد من عود أثرها على النفس (ص711).

الصناعة :

هي مهنة مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر، ولا تكتمل إلا بكمال العمران، وحاجة أهل العمران للكماليات وحياة الترف والراحة، وتزدهر الصنائع في ظل العمران، وتحتاج الصناعة إلى ملكة، والملكة تحتاج إلى موهبة وحسن التعليم والتدريب…

الربح :

يتحقق الربح لدى التجار بفضل الأسباب التالية :

أولا : العمل والجهد، وهذا ربح مشروع وعادل ويجب ألا يتجاوزه بزيادة أو نقص…

ثانياً :ٍ خلق المكايسة، وهو جزء من الجهد الخاص الذي يختص به التجار، ولا يرتضيه أهل المروءة..

ثالثاً : الجاه، وهو عامل مهم في تحصيل الربح، وأهل الجاه أقدر من غيرهم على تحصيل الربح الفاحش… ومصادر الجاه ثلاثة :

–     أولا : السلطة ، وصاحب السلطة يتقرب الناس منه بسبب جاهه لحاجتهم إليه وشعورهم بالتميز بسبب اقترابهم منه، إلا أنه جاه قد يزول.

–     ثانياً : المجتمع، وهذا جاه حقيقي لا يزول، وكلما ارتقى المجتمع ارتقت معايير احترامه لأفراده، وكبار الرجال يستمدون جاههم من ذاتهم ومواقفهم.

–     ثالثاً : المال، وهو مصدر للجاه والمكانة الاجتماعية، وعندما ينحدر المجتمع يرفع من شأن هذا المعيار، ويكرم رموز المال في الظاهر ويحتقرهم في نفسه…

ما أصدق ما يصف به ابن خلدون الواقع الاجتماعي وطبائع النفس البشرية، وما أقسى الصورة القبيحة والبشعة التي يلتقطها المشاهد واقعية في أخلاق التجار والمتطلبات الكسب، وارتباط الربح بالجاه والتملق والمكاسبة بعيداً عن القيم الأخلاقية.

معيار الرواج والكساد :

يرجع أسباب كساد السلعة إلى أمرين :

أولا : قلة الحاجة إلى تلك السلعة

ثانياً : غلاء الثمن

قال ابن خلدون :

«والتاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلا ما تعم الحاجة إليه من الغني والفقير والسلطان والسوقة، إذ في ذلك نفاق سلعته» (ص 706)

وحذر ابن خلدون من خطورة رخص الأسعار، وأن ذلك مضر بالإنتاج مضعف للسعي، ويقول في ذلك :

«وإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متحول على الجملة، ولم يحصل للتاجر حوالة الأسواق فيه فسد الربح والنماء بطول تلك المدة وكسدت سوق ذلك الصنف» (ص709)

وقال في رخص أسعار الزرع :

«واعتبر ذلك بالزرع، فإنه إذا استديم رخصه كيف تفسد أحوال المحترفين به» (ص 710)

وأكد ابن خلدون على أهمية أمرين :

الأول : ضرورة الرخص فيما كانت الحاجة إليه عامة،

الثاني : ترجيح جانب القوت على الربح في  السلع الضرورية والغاية من ذلك حماية القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود والطبقات الفقيرة.

أسباب الاستجادة في الصناعة :

هناك سببان لاستجادة الصنائع :

أولهما : العمران ، وعلل ابن خلدون ذلك بأن الأسعار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع (ص 719) فالصنائع تزدهر في ظل العمران حيث يكثر الإنفاق والترف ويبحث المجتمع عن الكماليات، وفي حالة هرم الدولة تقل الأموال ويتوقف العمران وتتراجع الصنائع لقلة الحاجة إليها، وبخاصة في حالات الاضطراب التي تتوقف فيها الحاجة إلى الكماليات.

ثانيهما : الدولة : والدولة تملك المال، وهي السوق الأعظم والمستهلك الأكبر، وعندما يزداد إنفاقها على السلع الكمالية يزدهر الطلب عليها، وهي الأقدر على دفع التكلفة العالية.

ثمن الجاه :

الجاه الأكبر المؤثر في الربح هو جاه السلطة، والناس يبحثون عن جاه السلطة لحماية مصالحهم أولا والاستفادة من أصحاب النفوذ ثانياً، ولكن أصحاب الجاه لا يمنحون جاههم لمن يتقرب منهم إلا بعد أن يكون مستعداً لدفع ثمن الجاه، من كرامة أولا عن طريق التزلف والتملق لأهل السلطة، وعن طريق تحقيق مصالح لرموز السلطة.

يقول ابن خلدون : «صاحب الجاه لا يعطي جاهه لمن يحتاج إليه إلا بثمن، ويشترط أن يكون الثمن مساوياً لقيمة المصلحة» (ص 696).

أثر زيادة الطلب على جودة الصناعة :

يزداد الطلب على الإنتاجية عند الحاجة إليها، وكلما زاد الطلب ارتفعت القيمة، وكلما زاد الربح كثر الإنتاج، وظهر التنافس على هذه السلعة، ويخضع التنافس على السلعة لعاملين :

الأول : جودة السلعة

والجودة عامل مهم في ميدان التنافس، إلا أن الجودة تتطلب تكلفة أكبر ولذلك يحرص المنتج على التقليل من حجم التكلفة، لكي يكون قادراً على المنافسة..

الثاني : قيمة السلعة

والقيمة هي العامل الأهم في مجال التنافس، فالمستهلك يحرص على الجودة بشرط أن تكون القيمة مقبولة ومساوية للسلعة المماثلة.

قال ابن خلدون : «البضائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها، و السبب في ذلك ظاهر وهو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً، لأنه كسبه ومنه معاشه» (ص 718).

وأكد ابن خلدون أن الرخص في الأسعار مضر بالمحترفين، وهو يبحث عن الربح فإذا لم يتحقق له الربح قعد عن السعي وأوقف إنتاجه، وكلما قل الطلب حرص المنتج على تخفيف التكلفة وخفض الأسعار.

صناعة الطب تزدهر في المدن :

تزدهر الصناعات في المدن، فالطب يحتاج إليه الناس في المدن وفي ظل الحضارة، وتقل الحاجة إليه في مجتمع البداوة وفي الأرياف لسببين :

الأول : قيمة الحياة أكبر في ظل الحضارة، والحضارة وعي بأهمية الصحة وضرورة الحفاظ عليها، ولا يكون ذلك في البوادي، وهناك إهمال ناشئ عن الجهل  بقيمة الصحة.

الثاني : عجز أهل البداوة عند حماية الصحة بسبب الفقر ونقص الأموال وقلة الأجور، وهذا يؤدي إلى ارتباط هذه الصناعة بالعمران.

أهمية المنافسة في التجارة :

خصص ابن خلدون فصلا مستقلا للحديث عن تجارة أهل السلطة والنفوذ، وقال : «التجارة من أهل السلطان والنفوذ مضرة بالرعية مفسدة للجباية وعلل ذلك بأن هذا الأمر يُدخل الضرر على الرعايا والفلاحين، لانعدام التكافؤ في القدرات والثروات، ولا يمكن للضعيف أن يزاحم الأقوياء في النفوذ فيقع الضرر الكبير على التجار الصغار المتساوين في القدرات المادية، وهذا مما يدخل الغم والنكد في حياة هؤلاء» (ص 598)

أيها الزملاء الأعزاء :

آراء ابن خلدون في الكسب والعمل والفلاحة والتجارة والأسعار والمنافسة والرواج والكساد هي جزء من الفكر الإنساني الذي يواكب حركة الإنسان في سعيه الغريزي المتواصل للبحث عن الكمال الذي يتراءى له من بعيد كفجر يضيء ظلام واقعه المقترن بالفقر والظلم، وحركة التاريخ متواصلة من بداوة إلى حضارة، ومن حضارة إلى هرم وشيخوخة، مدافعات ومغالبات على امتداد الرحلة الإنسانية، وكل نهاية تختم بولادة جديدة تشرق الشمس فيها مبشرة بيوم جديد، بؤس يقود إلى بأس والبأس إرادة وطموح وتطلع إلى الغد.

هذه هي النفس البشرية في اندفاعاتها الجامحة المتمردة، والحضارة عصارة معاناة وجهاد وتوثب وتوتر، فإذا استقرت النفس وهدأت بدأت الشعلة المتوقدة تحبو رويدا تحت وطأة الشيخوخة مخلفة وراءها وليداً جديداً يبحث عن ذاته….

ابن خلدون كان يلتقط الظاهرة ويصورها ثم يجتهد في البحث عن أسبابها وعللها ودوافعها في قلعة بني سلمة اعتزل الناس وأخذ يسجل أحداث عصره وتجربته، أصاب وأخطأ، وقدم لنا رؤية واقعية نقدية لكل الحركة الإنسانية كما عاشها ورآها في رحلته في القصور والسجون.

أراد ابن خلدون أن يسجل تاريخ الدول والملوك والمقالبات المخيفة بين الطامحين في السلطة والمال، وكانت القبائل هي المحرك الرئيس لهذا التاريخ، وكان الصراع قوياً بين  البداوة المتوثبة الغاضبة والحضارة المستقرة الآمنة المترفة…

 رحلة البحث عن السلطة والمال والجاه والنفوذ، ذلك الكنـز السحري الغامض الذي يغري الطامحين ويريح الغاضبين.

العلاقة بين السلطة والمال علاقة وثيقة ولو زهد صاحب السلطة بالمال لما أثار مشاعر الحقد في نفوس المحرومين، ولو تحالف الحاكم مع المستضعفين ودافع عن حقوقهم المسلوبة منهم في الكرامة الإنسانية لما كانت الثورات الغاضبة.

ما ذكره ابن خلدون كان مقتبساً من واقع مجتمعه، فهل نحن قادرون على تقديم لوحة وصفية صادقة ومعبرة عما يجري في مجتمعنا العربي اليوم.

علينا أن ندخل إلى قلعة ابن سلامة ونتأمل في واقعنا ثم نكتب ما نراه…

هذه هي مهمة المثقف في كل العصور.

  •  
( الزيارات : 1٬701 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *