مدرسة السيد النبهان الفكرية والتربوية والروحية

كان الشيخ رحمه الله صاحب مدرسة فكريّة متكاملة، لم تكن اهتماماته منحصرة في التربية وتزكية النفوس وإنَّما كانت له آراء ومواقف واختيارات في قضايا كثيرة، علمية وسلوكية وفقهية.

ومن اليسير استكشاف معالم هذه المدرسة من خلال تتبع أقواله ومعرفة مواقفه واختياراته، ومن المؤكد أنَّه لم يكن مقلِّداً لغيره، بالرغم من حرصه على الالتزام بالمذهبية الفقهية، ولم يكن مجتهداً في قضايا الفقه مخالفاً بذلك آراء الجمهور، وكان يفضّل التقليد في المسائل الفقهية لأنّ اهتمامه لم يكن الفقه وإنما هو التربية وإصلاح النفوس وإحياء القلوب بمحبة الله.

ومنهجه في ذلك واضح وبيِّن، وهو مجتهد في هذا الجانب وليس مقلِّداً لغيره من أئمَّة التصوّف، وكانت له اختيارات انفرد بها في مدرسته الصوفية، فميّزت فكره بخصوصيات واضحة، ولا يمكن لأحد أن يكتشف معالم فكره وخصوصيات مدرسته إلاَّ بالتتبّع الدقيق لحياته والمواظبة على مجالسه ومذاكراته، فكل موقف مرتبط بسبب نزوله والأسباب المؤديّة له، وتختلف آراؤه بحسب الزمان والمكان، مراعاة لمقاصد الشرع وأهدافه، ولا يفصل الحكم الفقهي عن غاياته المرجوّة منه، ويعطي للبعد الأخلاقي دوراً مهماً في فهم وتوجيه المسائل الفقهية.

وتحضرني عشرات المواقف والاختيارات، كان الشيخ فيها مراعياً مقاصد الشريعة فيها، مبتعداً عن الآراء الفقهية التي لا تحقق تلك المقاصد، ولعلّ هذا هو السبب في اختلاف وجهات النظر في فهم طبيعة منهج الشيخ، فهناك من يجد فيه طبيعة التشدّد في المواقف والسلوكيّات، وهناك من يجد في ملامح مدرسته طبيعة التسامح والاعتدال، وهناك من يجد فيه صورة الصوفيَّ الملتزم بكل سلوكيات المدرسة الصوفية التقليدية، وهناك من يجد فيه صورة الصوفي المتحرر من الطقوس الطرقية والأذكار المعتادة.

لم يكن الشيخ غير ذلك، فهو هو، في كل ما نُسِبَ إليه، وما اشتهر به من مواقف واختيارات، متمسِّك بالأصول ومتحرر من القيود، يبحث عن الغايات والمقاصد، ولا يقف عند حدود الضوابط الظاهرة، يفهم الأحكام في إطار الأخلاق والفضيلة، ولا يتجاهل ذلك في أيِّ حكم من الأحكام يلتزم بأحكام الشريعة في كل شيء، ويرفض كل ما خالف ذلك ولو كان من أبرز المسلّمات في المدرسة الصوفية.

وله آراء واختيارات في الأحكام الفقهية هي جزء من فكره، وامتداد لشخصيته، وأهمها في شؤون المال والملكية والزكاة، فلا حدود للصدقات في رأيه، فما فضل عن الحاجة فهو للفقراء والمحتاجين، فلا اكتناز لمال ولا ادِّخار لما زاد عن الحاجة، وحق الفقير في المال ثابت كحقِّه في الحياة، وما كان يجيز أن يمنع فقير من مال، ولا أجر يقلُّ عن الحاجة، فمقدار الحاجة ثابت بالوجود الإنساني، وعلى الفقير أن يأخذ ما يكفيه، فإذا لم يكفه الأجر لما يكفيه فمن حقِّه أن يأخذ ما يكفيه، فإذا لم يكفه الأجر لما يكفيه فمن حقِّه أن يأخذ من رب العمل ما يكفيه، وتسقط الديون عن المحتاجين في أيام المجاعة والجفاف، إلى أن يستقيم أمر المعاش، ولا يجيز لموسر أن يُجْبِرَ مُعسراً على أداء دينه، لأنه لا يملك ذلك، وإجباره بذلك هو إكراه لا يملك المُعسِر الرضوخ له، ويملك الفقراء من مال الأغنياء ما يكفيهم لحياة كريمة.

 

ومن آرائه في القواعد الأصولية أنَّ الأحكام تُستمد من ظاهر النصوص، ولا مجال للتأويل في آيات الأحكام إلاَّ بما أكَّدته النصوص من دلالاتها اللفظية، والسيرة مصدر مُهمٍّ للأحكام، وما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حجَّة دامغة ودليل قاطع، ولا فرق بين ما كان من آرائه الشخصية واجتهاداته البشرية، وبين ما كان من أحكام التشريع، فما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم حجَّة ويجب الأخذ به، ولا يسع مسلماً محبِّاً لرسول الله أن يخالف أمراً من أوامره أو نهياً من نواهيه، فعاداته الشخصية يجب اتباعها، فمن أحب الله أحب رسوله، ومن أحب رسوله أحب كل ما يحبه وما يلتزم به، ولا يأخذ بفكرة اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى، وكل ما يصدر عنه فهو وحي من الله يؤمر به، أو يوجه إليه، أو يشرح صدره له، ولم يكن يحب الحيل الشرعية والأخذ بها دليل على الجهل بحقيقة الإسلام، ومن علامات الغفلة، فالمسلم يفعل ما يؤمر به ويمتنع عما ينهي عنه، ولا يتحايل على حكم شرعي لا لتماس التيسير والإباحة، وكان يأخذ بسد الذرائع فكل ما يؤدي إلى الحرام أو يفضي إليه يمنع عنه، ويدعو لاجتنابه.

وتمسَّك البعض بسلوكياته التي كان يدعو فيها إلى الكمال وهو لم يحرِّم حلالاً أو يتشدَّد في أمر إلا لمنع ما يمكن أن يفضي إليه ذلك من آثار سلبية على السلوك، وكان يحترم الأعراف ويأخذ بها إلا إذا أفضت إلى مخالفة شرعية أو أدَّت إلى ظلم واضح، وبخاصة في العلاقة بين الأغنياء والفقراء، وكان يخالف ما ذهب إليه الفقه من تضمين الإجراء ثمن ما يتلفون بسبب تقصيرهم، ويعتبر أن الأجير الضعيف سواءً كان أجيراً عاماً أو خاصاً لا يجوز تضمينه ولو ثبت تقصيره انطلاقاً من قواعد الفضيلة في ضرورة الإحسان إلى الضعفاء والتماس العذر لهم فيما تسببوا في إتلافه من أموال.

وكان يحترم إجماع الصحابة ويعتبره حجَّة، كما يأخذ باجتهادات التابعين احتراماً لهم وثقة بسداد اجتهاداتهم.

وفي الوقت ذاته كان يكره الخوض في القضايا الخلافية ويأخذ بالرأي الراجح، في الفقه، وما قال به جمهور الفقهاء، ولم يكن يحب الاستشهاد بالآراء الشاذة المخالفة لرأي الجمهور، كما كان يكره الخوض في المسائل التاريخية التي وقع الاختلاف فيها بين الصحابة وأدت إلى الحروب في مسائل الحكم والخلافة كما كان لا يحب الحديث في الاختلافات المذهبية بين الشيعة والسنة.

تلك هي ملامح فكر الشيخ واختياراته، وهو فكر متميز بأصالته وبأخلاقيته وبالبعد الإنساني فيه، وهذا البعد كان واضحاً في كل اختياراته الفكرية التي كانت سلوكاً له.. ولم ينفصل فكره عن سلوكه، وسلوكه هو المصدر الأهم لفكره.

وإنني لا أسجل ملامح هذا الفكر من خلال كتبه، فلم يؤلف كتباً، وإنما أسجله واستنتجه من خلال أقواله وأفعاله، وهي المصدر الأصدق لفكر المفكرين.

وفي كل رأي أو اختيار استذكر موقفاً من مواقفه، واستمد منه معالم ذلك الرأي وملامح ذلك الاختيار.

وما سجَّلته في الباب الأول من تاريخ حياته هو مصدري الأهم للباب الثاني الذي اخصصه للحديث عن فكره واختياراته ومواقفه، وهي مواقف ليست غائبة أو مجهولة، فكل من عرف الشيخ عرف تلك المواقف والسلوكيات، ومن لم يعرف الشيخ سمعها ممن عرفه ولازمه حتى أصبحت معروفة بدقائقها وأحداثها.

ويجب أن اعترف أن الشيخ قد ترك بصماته الواضحة فيما أكتبه من بحوث ودراسات، وأنا مدين له بترسيخ تلك القيم الإنسانية في فكري، من خلال ما رضعت في طفولتي من غذاء أسْهَم في إغناء فكري.. ومن الإنصاف أن أعيد الأمر إلى نصابه، وأن أشيد بفضل الشيخ في صياغة تلك التصورات والآراء.

( الزيارات : 830 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *