مقومات الصحبة

مقومات الصحبة

الصحبة ثمرة المحبة، ولا تتحقق الصحبة إلا بوجود الألفة، والصحبة تحقق ذلك التواصل الإنساني المحمود الذي يربط بين الأفراد، ويؤدي إلى التلاقي، والصحبة قد تكون اختيارية وهي التي تعبر عن التجانس في الأفكار والاستعدادات، وقد تكون غير اختيارية كالصحبة في الأسفار ومقاعد الدراسة وفي الجوار، حيث تكون ولا تكون الألفة.

والصحبة هي مصاحبة الآخر الذي يمكن أن تستفيد منه، والكلمة مستعملة في الفكر الصوفي كمصطلح دال على مصاحبة المريد لشيخه، ولذلك توسعوا في البحث عن أدب الصحبة، فالصحبة بالنسبة للمرشد هي مصاحبة للاستفادة منه، والصحبة بالنسبة للإخوان هي الصداقة والألفة.

ومن أدب الصحبة حفظ الأسرار وحسن العشرة ولين الجانب وعدم التكلف والملازمة الدائمة، وألا تكون الصحبة لغاية دنيوية أو لمصلحة مادية، فإذا كانت الصحبة لغير الله تعالى كانت صحبة صورية سرعان ما ينكشف أمرها.

لم تكن صحبتي للشيخ بمفهوم الصحبة عند الصوفية، كان هناك شعور آخر أسمى وأعلى، كانت صحبتي للشيخ وليدة محبتي وثقتي به وإعجابي بخصاله، فهناك جانب عاطفي هي علاقة القرابة، وهناك جانب عقلي وهو إعجابي بشخصيته وصفاته، وكنت أعتبره المثل الأعلى الذي يقتدى به.

لم تتغير نظرتي إليه، ما زلت بعد رحيله أنظر إليه بنفس المنظار الذي كنت أنظر به في حياته، وربما زاد إعجابي به بعد أن اكتشفت الجديد من طبائع البشر في المواقف المختلفة.

أولاً: القرابة:

القرابة سبب مباشر للصحبة، وهي سبب غير اختياري، فالابن يصاحب أباه في طفولته ويقلده ويأخذ عنه، ولا خيار له في ذلك في مرحلة الطفولة، حيث تنتفي الإرادة والاختيار.

ولا شك أن علاقتي النسبية بالشيخ كانت من أهم أسباب هذه الصحبة وما تولد عنها من آثار، فالجد بالنسبة لأحفاده هو رمز الكمال والقوة، وما يفعله هو الكمال، هذا ما يعتقده الأطفال في طفولتهم، ثم يكتشفون فيما بعد صفات الكمال كما تربوا عليها، والآباء والأجداد هم مصدر المعرفة الأولى في مجال القيم وأنواع السلوك…

عندما يكبر الأطفال يميزون ويختارون، ويعيدون النظر فيما رأوه سابقاً من أنواع السلوكيات والمواقف، إلا أن، الركيزة الأولى التي تربوا عليها تبقى ثابتة وراسخة، سواء كانت حسنة أو سيئة، فإذا كانت القدوة الأولى حسنة كانت الفضائل السلوكية هي الغالبة على السلوك، وإذا كانت القدوة الأولى سيئة كانت المفاهيم والقيم منحدرة، إلى أن يتمكن الإنسان فيما بعد من تصحيح نظرته للأمور.

في طفولتي الأولى كان الشيخ هو الجد الذي تشدني إليه عاطفة المحبة والاحترام، كل ما يصدر عنه فهو حسن وجميل، وكنت أقلده وأحاكيه في أفعاله، ما يمدحه من أنواع السلوك فهو جيد وحسن وما يذمه من الأفعال كنت أراه سيئاً وقبيحاً.

ذلك هو السلوك الفطري الطبيعي في الطفولة، ما زالت بعض أفكاره في ذاكرتي، حتى في السلوكيات الشخصية، كنت أحب من يحب وأكره من يكره، ما زلت أحتفظ بالكثير من الذكريات.

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي وقفت فيه معترضاً على أستاذ كبير في الجامعة لأنه امتدح الإمام ابن تيمية واعتبره من أعظم مفكري الإسلام، اعترضت على الأستاذ ببراءة وعفوية، لأنني سمعت الشيخ يعترض عليه، لأنه وصف الشيخ محي الدين بن عربي الصوفي الكبير المدفون بدمشق بالإلحاد والمروق عن الدين، سمع الأستاذ هذا الاعتراض وطلب مني أن أعد له بحثاً علمياً عن ابن تيمية، واكتشفت علمه وفكره، ولم يعترض الشيخ على آرائه الفقهية وإنما اعترض على هجومه على ابن عربي، بالرغم من أن الشيخ كان ينصح بعدم قراءة كتب «ابن عربي» وبخاصة الفتوحات المكية إلا لأهل الاختصاص.

فالقرابة هي سبب مباشر لوجود هذه الصحبة في الطفولة، فكنت أصحب الشيخ وأفعل ما يفعل، وكان هو القدوة بالنسبة لي، في السلوك أحب ما يحب وأجده جميلاً وأكره ما يكره.

ما زلت أحتفظ بالكثير من عباراته وآرائه ومواقفه، كان ذلك هو الركيزة الأولى لذلك الرصيد المعرفي الذي أسهم في تكوين ثقافتي الأولى، بعض العبارات ما زلت أرددها، لأنني حفظتها في الطفولة.

هذا هو العامل الأهم في تكوين الشخصية، وهو القدوة الأولى في حياة الإنسان، الأب، الأم، الجد، المعلم، المدرسة، الرفقاء، وإذا صلح هذا العالم صلحت التربية كلها، واستقام السلوك.

ما زالت بعض الألفاظ المستعملة في لغة التخاطب اليومي لا أستطيع سماعها أو النطق بها. لأنني في تلك الفترة من حياتي كنت أراها سيئة، وما زالت في نفسي سيئة.

كان من عادته أن يشرب جالساً ولا يشرب واقفاً إلا لماء زمزم ويشرب الماء بامتصاص هادىء ثلاث مرات، ويغسل الصابون بعد استعماله، ولا ينفعل في غضبه ولا تصدر منه كلمة نابية في لحظة الانفعال، ويحترم كل صغير وكبير في عباراته، كل ذلك أذكره في المواقف المشابهة، وكأنني أسترد ما رأيته في الطفولة من سلوكيات بقيت في نفسي حية.

ثانياً: المجانسة:

الصحبة الدائمة لابد لها من المجانسة، وهو بحث الإنسان عن تمامه الآخر، فالإنسان يبحث بطريقة غريزية عن تمامه فيمن يصادفهم من الناس، فإذا وجد تمامه في أي آخر تعلق قلبه به، وانشدت حواسه إليه، فالعين تتجه إلى حيث يتجه القلب. فإذا اتجه القلب إلى شخص ما فهذا دليل على وجود المجانسة، ولا تكون المجالسة ممتعة إلا بالمجانسة.

والمجانسة هي سبب الألفة التي نراها بين الأصدقاء، ولولاها لما كانت الصداقة ولما استمرت، وعندما يكتشف الإنسان أن ذلك الصديق ليس تمامه سرعان ما تتوقف الصداقة لانعدام الألفة التي لا تدرك العقول أسرارها العميقة.

وهذا ما أكده الشعراء في شعرهم الذي يحثهم خلال بحثهم عن أخلاق المرء أن يبحثوا عن صديقه، لأن الطيور كما يقول المثل تبحث عن أشكالها وما يماثلها، لكي يحدث التجانس الروحي، والأرواح تتعارف وتتناكر بحسب تكوينها واستعدادها.

هذا ما كان يقرره الشيخ ويعلل ذلك بأن التعارف بين الأرواح في الأزل يؤدي إلى التعارف في الدنيا، والتناكر بينهما في الأزل يؤدي إلى التناكر بينهما، وهذا التعليل قد يكون مقنعاً ومريحاً لأنه يخضع العلاقة الإنسانية بين الأفراد إلى وجود علاقات روحية سابقة، وليس لمجرد الصدفة العابرة.

ولا شك أن صحبتي للشيخ في المرحلة اللاحقة للطفولة لابد لها من تعليل منطقي، ففي أيام الطفولة لم يكن هناك اختيار كأي طفل لا يختار ما يريد، ثم وقع الاختيار بعد ذلك، وكنت سعيداً عندما أكون في مجلس الشيخ، لأنني أحبه أولاً ولأنني أستأنس بحديثه ومذاكرته ثانياً، وهذا هو مفهوم المجانسة القائم على علاقة روحية ونفسية.

تعلمت من الشيخ أدب الصحبة، وقد أفادني هذا فيما بعد في علاقاتي الاجتماعية وكنت أذكر ما تعلمته في الطفولة من أدب الصحبة، فأعمل بما أقدر عليه ولو كان قليلاً، وكان هذا القليل كافياً.

ومما تعلمته أن احترم حق الصحبة، ومن أهم حقوقها احترام الصاحب وعدم إحراجه في أي أمر من الأمور مما يغضبه فالنفوس بطبيعتها لا تحب من ينتقدها أو ينصحها، ومن أدب النصيحة أن يختار الناصح الوقت الملائم الذي يتوقع فيه أن يكون الآخر مستعداً للسماع والقبول، لأن الغاية من النصيحة هو وصولها إلى الآخر وقبول الآخر بها، فإذا اختار الناصح الوقت غير المناسب ضاعت النصيحة ولم تؤد الغرض المرجو منها، كما يستحسن في النصيحة أن يراعى فيها حال المخاطب، فالنفوس ليست سواء في قبول النصيحة، وكثيراً ما كان الشيخ يحدث عن أهمية المجانسة في الصحبة. وأول ثمرات المجانسة الشعور بالأنس، فإذا شعر الإنسان بالأنس مع الآخر من غير تكلف فهذا دليل على وجود المجانسة، ويمكن لهذه الصحبة أن تدوم.

ولا تدوم الصحبة إلا بمراعاة أدب الصحبة وأهمها احترام حقوق الآخر ومراعاة خصوصياته وحفظ أسراره وعدم إحراجه في المواقف وإشعاره بالحب والمودة والألفة وحسن المعاشرة في المجالس والوقوف إلى جانبه في الشدائد.

وإذا أراد الإنسان أن يعرف نفسه فعليه أن يبحث عن صديقه الذي يميل إليه، ولابد من وجود المجانسة، فإذا كان ميل الإنسان إلى صديق اشتهر بالاستقامة وحب الكمال وحسن الخلق فهذا دليل على استقامة هذا الشخص، وينبغي أن يفرح بذلك، وإذا شعر أنه يميل إلى شخص سيء الخلق فهذا دليل على وجود تجانس في الطبائع بينهما، ومن واجبه أن يحاسب نفسه عن أسباب ذلك الميل…

( الزيارات : 1٬646 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *