مكانة علم التصوف بين العلوم الإسلامية

‏مكانة علم التصوف بين العلوم الإسلامية

بقلم الدكتور محمد فاروق النبهان

IMAGE(1)

‏قسم العلماء العلوم إلى ما هو فرض عين وإلى ما هو فرض كفاية ، واعتبر الإسلام طلب العلم فريضة ، وذلك أمر طبيعي لأن العلم هو أداة المعرفة ، والمعرفة واجبة ، والعمل هو ثمرة العلم ، وأكد الإسلام على أهمية العلم ورفع من مكانة العلماء في المجتمع ، وأناط بهم مهمة التفسير والتأويل والفهم.

‏ودعا الإسلام إلى الاجتهاد كوسيلة للفهم ، ورفع من شأن المجتهد ، والتمس له العذر في حال الخطأ ، وأثابه على اجتهاده ، ولا مجال في مجتمع إسلامي للجهل لأن الجهل يؤدي إلى حياة جاهلية ، والإسلام حارب الجاهلية الأولى بنور الإسلام وهديه ، سواء في مجال العقائد أو العادات أو القيم السائدة ، وندد بكل مظاهر الجاهلية من عبادة الأوثان والإيمان بالأساطير.

‏واختلف العلماء في العلم الذي يعتبر فرض عين(1) واتجه كل فريق من العلماء لترجيح كفة العلم الذي يعتبره ضرورياً لاستقامة الحياة ومطاردة ‏الجهل.

قال علماء الكلام : العلم الواجب هو علم الكلام لأنه العلم الذي يدرك به المسلم التوحيد ويصحح به العقيدة .

‏قال المفسرون والمحدثون : المراد به هو علم الكتاب والسنة لأن بهما يتوصل المسلم إلى تصحيح عقيدته ومعرفة الأحكام من الحلال والحرام .

‏قال الفقهاء : المراد به علم الفقه لأنه علم معرفة أحكام العبادات والمعاملات .

‏قال المتصوفة : الواجب الذي يعتبر فرض عين هو علم التصوف لأنه العلم الذي يعرف به العبد نفسه ومقامه عند الله ، ويشمل كل ما يتعلق بمعرفة آفات النفوس وخواطر القلوب ، وهذا العلم هو الذي يمكن صاحبه من معرفة كيفية العمل في مجال العقائد والأوامر والنواهي .

‏أما العلوم التي تدخل ضمن فروض الكفاية فهي العلوم التي لا يمكن الاستغناء عنها لحاجة الناس إليها ، لسلامة الأبدان ولانتظام المعاملات والعادات كعلوم الطب والحساب والرياضيات والفلك وأصول الصناعات والتجارات ، ولا يشترط أن يتعلمها كل فرد لأن ما يحتاج إليه المجتمع هو وجود المتخصص في هذه العلوم للرجوع إليه عند الحاجة ، بخلاف علوم العقيدة والشريعة فيجب على كل فرد أن يعرف أصول عقيدته وما يحتاج إليه على وجه الإجمال من أحكام الحلال والحرام .

‏أقسام العلوم الشرعية عند الغرالي:

‏قسم الإمام الغزالي العلوم الشرعية إلى الأقسام الآتية : (2)

‏الأصول : وتشمل كتاب الله وسنة نبيه وإجماع الأمة وآثار الصحابة .

‏الفروع : وهو ما فهم من هذه الأصول ، بحسب ألفاظها ومقاصدها ، وتشمل كل ما يتعلق بمصالح الدنيا من الأحكام الفقهية في العبادات والعادات

‏وما يتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلوب ، نظراً لانعكاس ذلك على أفعال الجوارح .

‏المقدمات : وهي التي تجري مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو ، لأنهما أداة لفهم كتاب الله وسنة نبيه .

‏المتممات : وهي العلوم التي تساعد على فهم دلالات الألفاظ وتفسير معانيها ، كعلم القراءات والتفسير والناسخ والمنسوخ ومعرفة الرواة وقواعد الجرح والتعديل .

‏وأكد الغزالي على الترابط بين علم الفقه الذي ينظم أعمال الجوارح وعلم التصوف الذي يهتم بأحوال القلوب لاتصال الجوارح بالقلب لأن صفاء القلوب ينعكس على المزاج العام للنفس ، ويؤثر في سلوكيات الإنسان ، ولهذا يجب الاهتمام بأحوال القلب لكي تستقيم أعمال الجوارح ، وهذا يؤكد الترابط الوثيق بين علوم الدنيا كالمعاملات وعلوم الآخرة المتعلقة بخواطر القلوب وأحوالها .

‏وينقسم طريق الآخرة إلى قسمين (3 ) :

‏القسم الأول _ علم المكاشفة : ويراد به علم الباطن ، وقال بعض العارفين : من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة . وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله ، وعقوبة من ينكره أنه يحرم من تذوقه ، وصاحب البدعة والكبر لا يفتح له في هذا العلم شيئاً ، وهذا العلم خاص بالصديقين ، وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته عن صفاته المذمومة ، وينكشف من ذلك النور ما كان مجهولاً له من المعرفة بالله ومعرفة معنى الوحي والنبوة ومعنى الآخرة والجنة والنار ، وهذه الأمور تنجلي في القلوب بعد تطهيرها من كل العلائق الدنيوية .

‏القسم الثاني _ علم المعاملة : وهو علم أحوال القلب ، وهذا العلم منه ما يحمد كالصبر والشكر والخوف والرجاء والزهد والتقوى والسخاء وحسن الظن وحسن المعاشرة والصدق والإخلاص ، ومنه ما يذم كالحقد والحسد والغش والكبر والرياء والغضب والطمع والبخل والفخر والخيلاء والمداهنة والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس ، فهذه الصفات مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة والمحمود منها منبع الطاعات والقربات . (4)

‏وفي مقدمة كتاب (الإحياء) قسم (الغزالي) علم المعاملة إلى : علم ظاهر : وهو العلم بأعمال الجوارح ، ويشمل العبادات والعادات . وعلم باطن : وهو العلم بأعمال القلوب وما يرد عليها ، وهذا العلم الباطن إما أن يكون محموداً أو مذموماً فما يرد على القلب لا يخرج عن هذا التقسيم(5) .

‏ثم قال : (( فثمرة هذا العلم طب القلوب والأرواح المتوصل به إلى حياة تدوم أبد الآبدين ، فأين منه الطب الذي تعالج به الأ جساد ، وهي معرضة بالضرورة للفساد في أقرب الآماد ) . (6)

‏واعتبر (السراج الطوسي) في كتابه اللمع) (7) أن أولي العلم القائمين بالقسط الذين هم ورثة الأنبياء ثلاثة أصناف : أصحاب الحديث ، والفقهاء ، والصوفية ، لأن علوم الدين هي علم القرآن وعلم السنن وعلم حقائق الإيمان ، وكل من أشكل عليه أصل من أصول الدين وفروعه وحقوقه وحقائقه وحدوده وأحكامه فلا بد له من الرجوع إلى هؤلاء الأصناف الثلا‏ثة ، ولكل صنف من هؤلاء مترسم بنوع من العلم والعمل والحقيقة والحال ، ولكل صنف منهم في معناه علم وعمل ، ومقام ومقال ، وفهم ومكان ، وفقه وبيان ، ولا يبلغ أحد إلى كمال يحوي جميع العلوم والأعمال والأحوال ، ومقام كل واحد حيث وفقه الله . . فأصحاب الحديث رووا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصحابة والتابعين ، وضبطوا ما وصل إليهم من سيرهم وآثارهم ومذاهبهم ، وصححوا رواياتهم بسماع الأذن وحفظ القلب والضبط ، فأتقنوا ذلك وعرفوا قواعد الرواية وتاريخ الرواة ، وأصحاب الفقه اتفقوا مع المحدثين في معاني علومهم ورسومهم ، ثم خصوا بالفهم والاستنباط في فقه الحديث والتعمق بدقيق النظر في ترتيب الأحكام وحدود الدين وأصول الشرع ، وميزوا الناسخ من المنسوخ والأصول من الفروع والخصوص من العموم ، واستدلوا بالبراهين البينة على أهل الضلالة ، وتكلموا بالاحتجاجات العقلية على المخالفين ، وتمسكوا بنص الكتاب والسنة ، وبالقياس والإجماع ، وناظروا من خالفهم وجادلوا من جادلهم ، ووضعوا كل شيء في مواضعه .

 

‏أما أهل التصوف فقد اتفقوا مع الفقهاء وأصحاب الحديث في معتقداتهم وقبلوا علومهم ، ولم يخالفوهم في معانيهم ورسومهم ، وشاركوهم بالقبول والموافقة في جميع علومهم ، ومن لم يبلغ من الصوفية مراتب المحدثين والفقهاء فإنه راجع إليهم فيما أشكل عليه فإذا اجتمعوا فهم في جملتهم فيما اجتمعوا عليه ، وإذا اختلفوا فاستحباب الصوفية في مذهبهم الأخذ بالأحسن والأولى والأتم احتياطاً للدين وتعظيماً لما أمر الله به عباده ، واجتناباً لما نهاهم الله عنه ثم إنهم بعد ذلك ارتقوا إلى درجات عالية وتعلقوا بأحوال شريفة ومنازل رفيعة من أنواع العبادات وحقائق الطاعات والأخلاق الجميلة(8)

 

‏ما اختص به الصوفية:

 

‏وذكر (أبو نصر السراج الطوسي) أهم التخصيصات التي تفرد بها الصوفية عن العلماء الآخرين ومن أبرزها ما يلي (9) :

 

‏-ترك ما لا يعنيهم وقطع كل علاقة تحول بينهم وبين مطلوبهم ومقصودهم ، إذ ليس لهم مطلوب ولا مقصود غير الله تبارك وتعالى .

‏_ القناعة بقليل الدنيا عن كثيرها ، والاكتفاء بالقوت الذي لا بد منه ، والاقتصار على ما لا بد منه من مهنة الدنيا من الملبوس والمفروش والمأكول .

‏_ إيثار الجوع على الشبع ، والقليل على الكثير ، وترك العلو والترفع ، وبذل الجاه ، والشفقة على الخلق ، والتواضع للصغير والكبير ، والإيثار.

‏_حسن الظن بالله ، والإخلاص في المسابقة إلى الطاعات ، والمسارعة إلى جميع الخيرات ، والتوجه إلى الله والانقطاع إليه ، والعكوف على بلائه والرضا عن قضائه ، والصبر على دوام المجاهدة ومخالفة الهوى ، ومجانبة حظوظ النفس والمخالفة لها .

– مراعاة الأسرار ، ومراقبة الملك الجبار ، ومداومة المحافظة على القلوب بنفي الخواطر المذمومة ، ومساكنة الأفكار الشاغلة التي لا يعلمها إلا الله .

‏_ الاعتراض لسلوك سبل أوليائه ، والنزول في منازل أصفيائه ، ومباشرة حقيقة الحقوق ببذل الروح وتلف النفس ، واختيار الموت على الحياة ، وإيثار الذل على العز ، واستحباب الشدة على الرخاء ، طمعاً في الوصول إلى المراد .

‏_ معرفة حقائق التوبة وصفاتها ودرجات التائبين وحقائقهم ، ودقائق الورع وأحوال الورعين ، وطبقات المتوكلين و مقامات الراضين ودرجات الصابرين ، والتحقق بمقام الإحسان عن طريق دوام المراقبة .

‏_ معرفة النفس وأماراتها وخواطرها ، ودقائق الرياء والشهوة الخفية والشرك الخفي ، ومعرفة كيفية الإنابة إلى الله ، وصدق الالتجاء ودوام الافتقار والتسليم والتفويض والتبري من الحول والقوة .

‏_ معرفة خبايا الأسرار ، ومقامات الإخلاص ، وأحوال المعارف ، وحقائق العبودية .

 

‏وبعد أن ذكر (الطوسي) هذه التخصيصات قال (10) :

 

‏((فالصوفية مخصوصون من أهل العلم القائمين بالقسط بحل هذه العقد والوقوف على المشكل من ذلك ، والممارسة لها بالمنازلة والمباشرة والهجوم عليها ببذل المهج ، حتى يخبروا عن طعمها وذوقها ونقصانها وزيادتها ، ويطالبوا من يدعي حالاً منها بدلائلها ، ويتكلموا في صحيحها وسقيمها ، وجميع ذلك موجود علمه في كتاب الله عز وجل وفي أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم . ))

‏وأكد (السراج الطوسي)(11) أن مستنبطات الصوفية في معاني العلوم ومعرفة دقائقها وحقائقها ينبغي أن تكون أكثر من مستنبطات الفقهاء في معاني أحكام الظاهر ، لأن هذا العلم ليس له نهاية ، لأنه إشارات وبوادر وخواطر ، وعطايا وهبات يغرفها أهلها من بحر العطاء ، وعلم التصوف ليس له نهاية لأن مقصوده علم الفتوح الذي يفتح الله به على قلوب أوليائه في فهم كلامه ومستنبطات خطابه ، قال تعالى قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (الكهف 109)
————————–

(1 ) انظر : إحياء علوم الدين ا /25

‏( 2) انظر: إحياء علوم الدين / 26 ‏- 27 ‏.

‏(3) انظر: الإحياء : 1/31

‏( 4 ) انظر : الإحياء : ا /32 ‏.

‏( 5 ‏) انظر : المصدر السابق نفسه : ا / 2 ‏ا .

( 6 ‏) انظر : المصدر السابق نفسه .

‏( 7 ‏) انظر : اللمع لأبي نصر السراج الطوسي ص 22 ‏طبعة دار الكتب الحديثة

‏( 8 ‏) انظر: اللمع ص 8 ‏2.

‏( 9 ‏) انظر: المصدر السابق نفسه ص29 ‏.

‏( 10 ) اتطر: اللمع ء ص 32 ‏.

‏( 11 ‏) اتطر : المصدر السابق ، ص 37 ‏.

( الزيارات : 2٬498 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *