ملامح منهجية السيد النبهان التربوية

لكل فكر ملامج خاصة به تعبر عنه وتَصِفُ دقائقه، وتعطيه التميز عن غيره، بحيث يكون واضح الأهداف، منسجماً مع ذاته ولا تفهم جزئياته إلا في إطار أداته المرسومة له.

وفي ظل هذه الملامح ينتفي التناقض في المواقف، ويزال سوء الفهم، وتصبح الغايات المرجوة هي المحطات المطلوبة، هنا يكمن حسن الفهم من خلال ربط الجزئيات بالكليات، واستمداد الفروع من الأصول، وإعادة اللحمة إلى ما تفرق من الكلمات والمواقف والاختيارات.

والإنسان كلٍّ قائم بذائه، تدفعه مقاصد وتشده أهداف، وتسيره قضايا يبحث عنها، ويجد نفسه منساقاً لتحقيقها، فإذا انصرف عليها حيناً فسرعان ما يرتد إليها لأنها جزء من تكوينه، تلوح له من بعيد، وتومىء له بإشارات خفية، يراها ببصيرته ولا يراها غيره، ويسمع همسها وهي تخاطبه ليل نهار فيستجيب لها من غير تردد، لأنها حقيقته التي يؤمن بها.

وهذا هو قدر الإنسان، فهو وليد اختيارات تسكن كيانه، تناديه وتستصرخه، فلا يملك أمر الفكاك منها، ويرى فيها الكمال الذي ترتجيه.

وعند البحث عن شخصية للتعرف عليها لابدَّ من محاولة فهم طبيعتها واختياراتها، وهذا جزء من مهمة الباحث، يرى أمامه الشخصية كما يتخيلها أو كما رآها أو عايشها أو سمع عنها، وسرعان ما ترتسم في مخيلته صورة لها بطريقة عفوية.

وعندما أردت أن أكتب ملامح فكر الشيخ جلست متأمِّلاً أبحث عن تلك الملامح، وهي مهمة ليست يسيرة، لأنها تعتمد على الاجتهاد الشخصي ومحاولة استنتاج تلك الملامح من مجمل المواقف والآراء، ومن الطبيعي أن يقع الاختلاف في الاستنتاج، فكل الأمور التي تحتاج إلى اجتهاد عقلي لابدّ فيها من اختلاف الرأي بحسب طبيعة الرؤية.

وأستطيع أن أذكر أهم الملامح التي لاحظتها وتتمثل بما يلي:

أولاً: عمق المعاني الإيمانية والروحية.

ثانياً: رسوخ القيم الإنسانية والأخلاقية.

ثالثاً: إصلاح المفاهيم التربوية والاجتماعية.

ومن اليسير إضافة ملامح جديدة، إلا أنَّ هذه الملامح هي الأهم والأوضح في فكره، وهي واسعة وتتسع لكل ما كان يدعو إليه، ويحرص عليه في مذاكراته، وفي مجالسه التربوية.

وهذه الملامح متكاملة ومنسجمة، ويقود بعضها إلى البعض الآخر، وكل واحدة منها تثمر ثمرة مرجوة، فالمعاني الإيمانية لابدَّ لها من ثمرة، وثمرتها رسوخ القيم الإنسانية، فالإيمان الذي لا يقود إلى إنسانية متراحمة متكافلة على الخير متناصرة على مقاومة قوى الشر لا يمكن أن يكون إيماناً كاملاً، فالإيمان مرجوٍّ لثماره، ولا إيمان بغير ثمرة، والثمرة هي نتاج غرس أصيل في أرض خصبة، والإصلاح التربوي والاجتماعي هو غاية الغايات، لأنه المقصود بذاته لتكوين مجتمع الفضيلة الذي يحمي الحق ويقاوم الباطل، ويناصر المستضعفين في الأرض الذين ما جاءت دعوات الإصلاح إلا للدفاع عن حقوقهم الإنسانية في الحرية والكرامة.

أولاً: عمق المعاني الإيمانية والروحية:

المراد بالإيمان هو التصديق ومحل التصديق هو القلب، والتصديق يستدعي التسليم والانقياد، وهذا هو الإسلام، فالإسلام تسليم ومحله اللسان والإيمان تصديق ومحله القلب، فكل تصديق بالقلب لابدَّ من أن يتبع تسليم باللسان، ولهذا لابدَّ في الإسلام من تصديق يسبقه فكل مؤمن بقلبه يتبعه تسليم بلسانه.

قال تعالى: {{ع94س94ش41ن1/س94ش41ن99} [الحجرات: 14].

وعندما يؤمن الإنسان أي يصدِّق بقلبه يثمر هذا الإيمان ثمرات في سلوكه الظاهري، وأهمها أن يسلِّم أمره لله تعالى ويقوم بكل ما أوجبه عليه، ويستشعر عظمة الله في قلبه، فتنمو قيم الفضيلة في سلوكه ويخشى الله ويخافه، ويحسُّ بأثر ذلك في نفسه، فيطمئن قلبه وتسكن سريرته، والإيمان يولِّد اليقين، ويدفع صاحبه إلى المجاهدة بالنفس والمال في سبيل الله.. قال تعالى في وصف هؤلاء: {{ع94س94ش51ن1/س94ش51ن881} [الحجرات: 15].

وأول واجبات المؤمن أن يقوم بأمرين:

الأمر الأول:

أن يعبد ربه، فيما أمره به من العبادات المختلفة وهو دليل الإيمان، فمن ادعى الإيمان ولم يقم بعبادة الله فليس صادقاً في دعواه.

الأمر الثاني:

أن يفعل الخير، ولا حدود لعمل الخير، فكل عمل يخدم به الآخرين فهو خير، وكل جهد يبذله لخدمة مجتمعة فهو خير، وأكد الله تعالى هذا المعنى بقوله: {{ع94س22ش77ن1/س22ش77ن111} [الحج: 77].

وقال أيضاً: {{ع94س81ش301ن1/س81ش401ن111} [الكهف: 103 ـ 104].

وتتجلى المعاني الإيمانية فيما يقوم به الإنسان من التزام الأدب في أداء عباداته بحيث يعرف أدب كل عبادة، ويلتزم بتلك الآداب، في الطهارة والصلاة والزكاة والحج والصوم وتلاوة القرآن، فمن التزم بآداب الصلاة ولم يلتزم بآداب الحج والصوم فقد أخلَّ بما يقتضيه الإيمان من أداء الواجبات عليه بكيفية صحيحة.

وتظهر المعاني الإيمانية في طبيعة الاهتمامات وكيفية معالجتها وتوجيهها، وبحيث تكون منسجمة مع تلك المعاني التي يؤمن بها الإنسان وتوجِّه سلوكه، وأهمها إخلاص النية لله تعالى وتصفية العمل من كل الآفات والتوجٍّه إلى الله تعالى في كل خطوة بحيث يكون الله تعالى هو الغاية والمقصد، ولا يكون هناك أي حظ للنفس فيما يقوم به الإنسان.

والإخلاص ألا يجد الإنسان نفسه فيما يعمل، فإن وجد نفسه فقد خرج عن دائرة الإخلاص، ولهذا فقد عرَّفوا الإخلاص بأنَّه فَقْدُ رؤية الإخلاص وألا يشاهد العبد نفسه في إخلاصه، أو أنه نسيان رؤية الخلق فيما يقوم به، فإن فعل الخير لأجل رؤية الناس له فقد خرج عن دائرة الإخلاص، وأخطر ما يتعرض له العابد أو السالك أن يلتفت إلى الخلق فيكون مرائياً ويدخل ضمن الرياء المذموم.

ولا يتحقق الإخلاص إلا باستشعار رقابة الله على العبد، فلا يلتفت في عمله إلا لله، وتثمر هذه الرقابة الهيبة من الله تعالى، فمن لم يشعر بهذه الرقابة في قلبه التفت إلى الخلق وحاول التقرب منهم، بما يفعله من عبادات وأعمال، والرقابة تثمر المحاسبة، بحيث يكتشف العبد مواطن الخطأ والغفلة في سلوكه، فيصلح ذلك ويتغلَّب على عيوب نفسه.

والعمل الصالح هو أهم القربات إلى الله، يقوم به العبد مخلصاً لله فيه، يبتغي مرضاته، ولا يبتغى أن يحمد في المجالس، وأن يذكر فيما قام به، فإن التفت قلبه إلى ذلك الحمد فَقَدَ صفة الإخلاص ودخل في دائرة الرياء المذموم.

ولا يتحقق الإخلاص في العمل إلا بمجاهدة النفوس وتزكيتها فالمجاهدة هي محاولة التحكم في الغرائز لكي تكون في قبضة الشرع، تفعل العمل الصالح لإرضاء الله تعالى، وإذا قصرَّت في أمر فسرعان ما تحاسب على ذلك التقصير إلى أن تستقيم الطباع وتُكبح جماحها.

كان الشيخ رحمه الله شديد الاهتمام بهذه المعاني الإيمانية، ويركز على أهمية إخلاص النية لله تعالى وعدم الالتفات إلى الخلق، ولو بخواطر القلب، لأنَّ ذلك يُفقد العمل روحيَّته، ولا يكون مثمراً، ولا تنشرح القلوب له، فتفقد النصيحة قيمتها، وتنغلق النفوس وتنكمش، فلا يستجاب لكلمة الحق.

ثانياً: رسوخ القيم الإنسانية:

والمراد بالقيم الإنسانية هي تلك القيم التي تمثِّل الفضيلة في السلوك الإنساني التي تراعي حقوق الإنسان في الحرية والكرامة، ولا يمكن إغفال هذا الجانب الإنساني في تربية الفرد والمجتمع، فالأنانية مظهر بغيض، ويقود إلى التنافس والخصام، لأن النفوس تتدافع وتتغالب، وعندما يقع احترام إنسانية الإنسان يرضخ القوي ويتراجع لكي يكون السلوك الإنساني معبِّراً عن الفضيلة.

وأهم قيمة إنسانية هي احترام حق الحياة بكل امتدادها وشمولها، فحق الحياة لا يتجزأ ولا ينحصر بالطعام والشراب واللباس، وإنما يمتد ليشمل كل ما يرتبط بالوجود الإنساني من كرامة وحرية، للكبار وللصغار، للأقوياء والضعفاء، للحكام والمحكومين، فمن أطعم الآخرين وأذلَّهم بما أطعمهم به فقد اعتدى على الكرامة الإنسانية، ومن تكبَّر وتجبَّر من الأقوياء على الضعفاء فقد اعتدى على كرامة أولئك الضعفاء، ومن حكم فاستبد فقد ظلم واعتدى، ومن أدب طفله الصغير بالإذلال والقهر فقد أذلَّه واعتدى على حقه في الكرامة، من استذلَّ مستضعفاً لأي سبب فقد أساء لإنسانيته.

والتربية الروحية إذا لم تَعْنَ بكرامة الإنسان وحريته فلا قيمة لها، ولا تحقق الهدف المرجو منها، فالإسلام الذي لا يُعلي مكانة الإنسان في الحياة لا يجسِّد قيم الإسلام المستمدة من القرآن، وما جاء الجهاد إلا لكي يكرس الكرامة الإنسانة لكل الأفراد والشعوب، وكل من فرّط في كرامته وحريته فهو آثم لأنه أساء للإنسانية كلها بتنازله عن كرامة الإنسان، والشعوب التي ترضى بالذل والهوان وتقبل بالعبودية لغير الله هي شعوب مقصِّرة ومذنبة ومفرِّطة، ولا تستحق الاحترام.

ولم يكن الشيخ يحب مظاهر الذل، ويحض على تحرير النفوس من عبودية الطمع التي تدفع بصاحبه إلى قبول السلوكيات التي تنافي الكرامة وليس المراد من الزهد ألا تملك المال، وإنما ألا يَذلَّك ذلك المال بطمعك فيه والتعلق بالدنيا، وكل من تعلق بالدنيا أذلَّته بالطمع، والطامع مستذل بسبب ما طمع فيه، ومن تعلق بالحياة قَبِلَ بالذل والهوان.

وليس الصبر أن تصبر على الظالم ومن صبر على ظالم فقد أعانه على ظلمه وقصَّر في حق نفسه، أما الصبر المحمود فهو أن تصبر على الابتلاء إذا جاءك ولا تملك دفعه من مرض وفقر ومحن، وكل ما يثير الغم في النفس، والإسلام يعلمك الصبر ويحثك عليه لكيلا تيأس من روح الله، وهذا الصبر لا يعفيك من واجبك في حماية كرامتك وحقوقك الإنسانية، فمن صبر على ظالم خوفاً على حياته فقد رضي بحياة الذل بسبب طمعه في الدنيا وتعلّقه بها.

والتربية الإسلامية تنمي الشعور بالكرامة وتعلم الإنسان حقوقه وتحثه على الدفاع عنها بالحكمة والمطالبة والإلحاح في طلبها، ولا تشجع التربية الإسلامية على العنف فذلك أمر مكروه ما دامت طرق الحوار مفتوحة، فما يحققه الإنسان من حقوقه بالحكمة هو أكثر مما يحققه بالسلوكيات الخاطئة والانفعالات الغضبية.

ولابد في التربية من رسوخ القيم الإنسانية وتأكيدها في أعماق النفس، فالتربية التي تنمي هذه القيم ولا تغذيها سرعان ما تفقد الإنسان رشده في المواقف العصبية، وينفلت الزمام تحت تأثير الغرائز الحيوانية المسيطرة، وتفقد النفوس رشدها.

وكان الشيخ يدعو إلى هذه الفضائل الإنسانية في السلوك، وإلى التزامها في المواقف وكان يقول في مذاكراته: «المسلم الحق هو الذي يقاتل في النهار دفاعاً عن حقوقه المشروعة ويداوي في الليل جروح أعدائه ويمدُّ لهم يد المساعدة أداء لحقهم الإنساني واعترافاً بما تفرضه قيم الفضيلة في التعامل الإنساني، فواجبنا في القتال لا يلغي إنسانيتنا، وإنسانينتا لا تلغي حقنا في الدفاع عن حقوقنا المشروعة.. ليس هناك تداخل أو تناقض فحق الإنسان في الحياة ثابت، والواجب لا يلغي الرحمة في النفوس.

تلك قاعدة عظيمة تستحق أن تسجَّل بإعجاب.. تمثِّل ذلك الانسجام والتكامل بين ما هو واجب وما هو إنساني، فالواجب يؤدي بإخلاص وأمانة، والروابط الإنسانية باقية ومستمرة.. ولا يلغيها اختلاف في الدين أو تباين في الرأي.

وهذا هو المنطلق المستمد من السنة النبوية الشريفة التي تدعو إلى احترام حق الحياة للأبرياء في أيام الحروب ولو كانت حروباً مشروعة، فالأبرياء من الشيوخ والأطفال والعجزة الذين لم يشاركوا بقتال لا يجوز الاعتداء على حياتهم، احتراماً لقيم إنسانية سامية، فشرعية الحرب لا تلغي شرعية حق الحياة لغير المقاتلين، لكي تظل الإنسانية صافية نقية، لا تلوثها دماء الحروب، ولا تعبث القلوب القاسية بمعاني الرحمة بالخلق أجمعين، والراحمون يرحمهم الرحمن في كل زمان ومكان، لكي يستظل الخلق بقيم الدين العظيمة.

ثالثاً: إصلاح المفاهيم التربية والاجتماعية:

والإصلاح التربوي هو المنطلق الأهم لكل إصلاح اجتماعي، ولابد من تصحيح المفاهيم التربوية وتجريدها من المخلفات السلبية التي تراكمت على مرآتها، فجعلتها غير نقية.

والدين بقيمه الأخلاقية هو الأساس لهذا الإصلاح، والمجتمع يبحث عن الأفضل والأكمل، ولكن ما هو الأفضل والأكمل.

قد تتعدد الرؤى والاختيارات ولكن الدين من خلال التوجيه القرآني والتوجيه النبوي يحدد ذلك الأفضل، الذي يمثل الخلق الرفيع.

ولابد من إصلاح الباطن لينعكس ذلك على الظاهر، فالباطن يثمر السلوك الظاهري بإيجابياته وسلبياته، فإذا وقع إصلاح ذلك لاباطن انعكس أثره على السلوك.

والخُلُقْ هو الهيئة الظاهرة للنفس بما يصدر عنها من حسن وقبيح، فإذا استقامت تلك الهيئة النفسية صدر عنها الفعل الحسن، وإذا انحرفت صدر عنها الفعل القبيح، ولا تستقيم تلك الهيئة إلا بتزكية النفوس ومجاهدة الغرائز والتحكم في اندفاعاتها لكي تكون في قبضة ما أمَرَت به الشريعة من التزام الفعل الحسن والبعد عن الفعل القبيح وأول ما يحتاج إليه الإنسان هو معرفة الميزان الذي تعرف به تلك الأفعال من أوصاف الحسن والقبح، وهذا هو دور المربي والمرشد الذي يستمد معياره من الشرع الحكيم.

والاستقامة هي الهدف والغاية من التريبة، وقد أمر المسلم بالاستقامة والتزام الطريق الصحيح الذي لا أنحراف فيه، قال تعالى: {{ع94س11ش211ن1/س11ش211ن33} [هود: 112]، ولا تتحقق الاستقامة إلا بمجاهدة النفس ومقاومة أمراضها وأمزجتها الفاسدة المرتبطة بسيطرة الغرائز على النفوس، فإذا تزكت النفوس أصبحت مهيأة للاستقامة، والقرآن يدعو إلى الإيمان والعمل الصالح، والمراد بالعمل الصالح هو خدمة الآخرين وعدم إيذائهم والاعتداء عليهم، وكلمانمت إرادة الخير في المجتمع أثمر هذا الخير العمل الصالح.

والخلق الحسن يثمر العمل الصالح الذي يدعو إليه القرآن، والتربية هي أداة تكوين ذلك الخلق وتكوين قابليات الخير، ولابد في التربية من مجاهدة غرائز النفوس والسيطرة عليها، والتحكم في حركتها، ودفعها نحو الاعتدال الذي يمثل الفضيلة السلوكية.

كان الشيخ يحض في مجالسه على تزكية النفوس ومجاهدتها، ويعتبر ذلك الشرط الضروري للإصلاح الاجتماعي، فالتربية الإسلامية تهدف إلى تصحيح السلوك والارتقاء بمستوى الإنسان إلى أن يكون المثل الأعلى والأسمى للشخصية الإنسانية، وأول ما يبتدىء به المربِّي هو أن يجاهد نفسه ويصحح عيوب نفسه بمحاسبة الذات عن كل ما يصدر عنها، فمن لم يصحح عيوب نفسه فلا يمكن أن يتصدى لمهمة الإرشاد والتربية، والعاجز عن إصلاح عيوبه لا يُقْبَل نُصْحُه ولا تصل كلمته التوجيهية إلى الآخر، والصديق الصادق هو الذي يكون مرآة لصديقه لا يكذِّبه، ويدلُّه على مواطن الخطأ في سلوكه، والنفس التي تكون أسيرة الشهوات والملذات لا يمكن أن يستقيم سلوكها، لأن الشهوات تزين لها العمل السيء.

والطريق إلى الآخرة يبتدىء بتزكية النفس عن الآثام وتصحيح العادات السلوكية، ولا تتحق التزكية إلا بالمجاهدة وإخماد الغرائز لكيلا تتغلب على الإنسان، وإخماد الغريزة لا يعني إماتة الغرائز، فالغريزة كمال، فمن ماتت غرائزه فلا كمال له، وهذا يدفعه إلى سلوكيات خاطئة.

وأهم خطوة في طريق التصحيح التربوي عدم التعلق بالدنيا والأعراض عنها وهذا لا يعني عدم الاشتغال بالدنيا، وإنما يعني عدم الانشغال القلبي بها، ولا يستقيم سلوك الإنسان إلا بالتزام الأخلاق الحسنة، وأهمها كف الأذى عن الناس، ومحاسبة النفس عن الأخطاء ومعرفة عيوب النفس وصدق اللسان والعفة والنزاهة والتواضع والابتعاد عن الصفات المذمومة.

والاتِّباع هو المنهج التربوي الأصح والمفيد، والمراد بالاتِّباع هو التزام منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي يمثل الكمال الإنسان في أروع صوره، والاتِّباع لا يكون إلا بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم والتعلق به، فمن أحب الله أحب رسوله، ومن أحب رسول الله اتَّبعَه واقتدى به في كل حركاته وسكناته.

والمربي الكامل هو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الطريق الصحيح والتزام المنهج الإسلامي، والمربي الذي لا يبدأ بنفسه وإصلاح عيوبه لا يصلح للتربية والإرشاد، وكان سلوكه حجَّة عليه.

وغاية التربية تصحيح صورة الباطن لكي يصدر عنها السلوك الحسن، فمن حسن باطنه حسن سلوكه الظاهري، والطريق إلى الله هو الطريق الذي يعتمد على تصحيح صورة الباطن، فلا يصدر عن النفس إلا العمل الصالح الذي ينفع الناس.

كانت صفة المربِّي واضحة في شخصية الشيخ، كان يربي بأقواله ويربي بأفعاله، ويدعو إلى التزام الأدب في العبادات والمعاملات، ويحضُّ على الإحسان والتسامح في الحقوق والعفو عند المقدرة، والتزام الصدق مع الله ومع الناس والعفة والنزاهة وإصلاح عيوب النفس المذمومة وإصلاح الباطن من كل الصفات المنافية للكمال.

وكان يضيق بمن يتصدى لإصلاح المجتمع قبل أن يبدأ بإصلاح نفسه، فذلك إصلاح ترفضه النفوس ولا تستجيب له، ولابدَّ في التربية من القدوة الصالحة والصحبة الصالحة، والمربي الذي لا يلتزم بآداب الشريعة لا يمكن أن تنشرح القلوب لكلماته.

والمرأة هي منطلق الإصلاح التربوي، لأنها تمثِّل الأسرة وتنهض بأمورها، وهي التي تشرف على تربية الأولاد وتنمي فيهم العادات السلوكية الحسنة، وكان يندد بالمرأة التي تُهمل واجباتها التربوية استجابة لحياتها الاجتماعية، ولم يكن يحب عوائد الترف في التربية ويعتبرها ضارة بالأولاد ومفسدة للطبائع.

والرجل هو المسؤول عن الأسرة واستقامة أمورها، وعليه أن يتحمل مسؤوليته في توجيه شؤون الأسرة، وألا يستجيب لما يضر أسرته من عادات مخالفة للشريعة، والكمال في نظره يتمثل في التزام أحكام الشريعة ولا كمال غيره، فما أقرته الشريعة فهو الكمال الذي يجب الاقتداء به وما نهت عليه الشريعة يجب تجنبه والابتعاد عنه.

وأهم ما كان يحذر منه أن تخضع التربية للمعايير المادية المتعلقة بالبحث عن المستقبل وتوفير أسبابه على حساب المبادىء والقيم الإسلامية، فالمستقبل بيد الله وهو الذي يتولى أمر الصالحين من عباده، والعمل واجب مقدس، امتثالاً لأمر الله بالبحث عن الكسب والسعي، وهو أخذ بالأسباب الظاهرة.

ولا ينبغي الاستجابة لمطالب الأولاد فيما يغضب الله أو يعارض التربية الإسلامية، ويعتبر الأبوان مسؤولين أمام الله عن كل تقصير بواجبهما، فهما موجهان ومتحكمان بشؤون الأسرة، وما يقدمانه من توجيه يجب أن يكون نافعاً، ولا يقدمان إلا النافع من الغذاء والتعليم والترفيه، وإذا انْفلَتَ الزمام فسرعان ما ينفلت أمر الأسرة كلها.

ولم يكن يحب عوائد الترف في التربية لأنها ضارة بتكوين الأطفال، ويحذر الآباء من خطورة الترف على أولادهم، وأول ما يتوجَّه إليه الطفل المترف أن يُسهم في شقاء أبويه فيما بعد، وإذا رأى أباً متعلقاً بولده أو أمَّاً متعلقة بولدها فسرعان ما يغضب ويحذرهما من خطورة ذلك التعلق المذموم، ويعتبر ذلك من تعلق القلوب المذموم الذي يضر بصاحبه، ويشعر صاحبه بالشقاء.

والتربية الصحيحة لا تعني القوة والصرامة واستعمال العنف، وإنما تعني أن يمسك الأب بمقود التوجيه الهادىء من غير قسوة وعنف وكان من أرحم الناس بالأطفال، كان يألفهم ويألفونه، يداعبهم ويداعبونه، يدخلون مجالسه فيفرح بهم ويمازحهم ويلبي لهم رغباتهم، ويكره ضرب الأطفال أو استعمال القسوة معهم، فالشدة لا تعني القسوة، والجدية لا تعني مصادرة الطفولة والتضييق على الأطفال.

وكان يعجبه في الأطفال قوة الشخصية والهمة العالية، يعجبه الطفل الذي يغضب لكرامته، الطفل الذي يرفض الإهانة والمذلة، ويضيق بالطفل الذي لا شخصية له ولا طموح، ويشجعه ويعلمه أن يكون عزيز النفس رافع الرأس.

ولم يكن يتحدث كثيراً في منهجه التربوي عن الحلال والحرام والثواب والعقاب والجنة والنار، وإنما كان يتحدث عن الكمال والنقصان فهذا كمال إنساني، وهذا نقص لا يليق بالإنسان أن ينسب إليه، والذنوب في نظره كالنقاط السوداء في الثوب الأبيض، فالنظيف من الرجال الذي يحرص على نقاء ثوبه ونظافته يضيق بما يلحق ثوبه من أوساخ وقذارات ويسعى في إصلاحها لئلا يراه الناس في ثوب ملطَّخ بالسواد يخجله أمام الناس، والمسلم كذلك شديد الحرص على نقاء ظاهره وباطنه ويخجل من عيوبه، ومن يفخر بعيوب نفسه فلا خير فيه، لأنه اعتاد على الأوساخ وأصبحت مألوفة له، ومن اعتاد ذلك فلا يسرع في إصلاح نفسه، لأنَّ اعتياد السلوكيات الخاطئة أمر خطير في مجال التربية، والاعتياد يمنع من إصلاح العيوب..

 

الفصل الثالث

( الزيارات : 1٬168 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *