مهمة دار الحديث الحسنية الثقافية

لم تغب الأهداف المرجوة عن خاطري أبداً وقد ذكرتها أمام الملك بوضوح عام 1978 وأهمها ما يلي:

أولاً: تكوين قيادات فكرية ذات كفاءات وقدرات متميزة، وهؤلاء هم رموز التجديد والتحديث في المناهج والأفكار، بحيث يرتقي مستوى الخطاب الإسلامي، ويكون خطاباً مقنعاً يستطيع الجيل الجديد متابعته ويجيب عن تساؤلات الشباب، ومهمة هذه القيادات أن تقدم الرؤية الإسلامية الصحيحة، وأن تحظى هذه القيادات الفكرية بثقة مجتمعها فيما تقدمه من أفكار، وعندما لا تكون هناك قيادات فكرية فإن المجتمع سيلجأ حتماً إلى اختيار قيادات جاهلة تقود المجتمع نحو الأسوأ,  وتكرس فيه القيم الخاطئة وسلوكيات التطرف والعنف، والقيادات الجاهلة أقدر على استمالة عواطف الطبقات البائسة والمحرومة والغاضبة لأنها ترفع شعارات متطرفة تستجيب لها النفوس بسهولة ويسر ..

وكنت أشرف بنفسي على اختيار الطلاب والباحثين، وأشجع كل من أتوسم فيه الأهلية لكي يكون أحد الرموز المضيئة، ولم أكن أهتم بالعدد، وإنما كنت أهتم بالنوعية، ، وهذه القلة ستكون قادرة على الإصلاح المطلوب في الساحة الثقافية …

وأعتقد أننا حققنا  بعض هذا الهدف، وأنجبت هذه المؤسسة علماء  من الشباب يساهمون الآن , وسوف يساهمون في المستقبل في تكوين الجيل اللاحق ..

ثانياً: إحياء دور العلماء في المجتمع المغربي وهذا أمر مهم للغاية وكان علماء المغرب في تاريخ المغرب يؤدون دوراً كبيراً في مجتمعهم وكان المجتمع يثق بهم وكانوا يقودون مسيرة مجتمعهم وكان ملوك المغرب يحترمون هؤلاء العلماء وينصتون إلى نصائحهم , ويتحدث تاريخ المغرب عن نماذج من هؤلاء العلماء فلماذا فقد العلماء دورهم هذا وأصبحوا في ركاب الحكام تابعين ومستضعفين.. ولعل السبب في ذلك أن علماء الأمس كانوا يستمدون قوتهم من ثقة مجتمعهم بهم والتفاف الناس حولهم , أما علماؤنا اليوم فلا يملكون تلك المصداقية , وإذا قالوا فلا أحد يسمع لقولهم ,  وهم أقل شأناً من أن يقدموا النصيحة للحكام , وهم يتنافسون على المناصب والمصالح ويحرصون على استرضاء الحكام بالمواقف المتخاذلة والكلمات المادحة,  وكان علماء الأمس يزهدون في كل ما تطمع به النفوس من الأموال والمناصب , ويقولون كلمة الحق كما أمرهم الله ولا يخافون في الله لومة لائم..

وهذه غاية مرجوة فلا كرامة لعالم لا يتق الله فيما يقول ,ويسترضي الحكام واصحاب النفوذ ولو كانوا ظلمة بما يغضب الله والناس , ويبررون للظالم ظلمه وللمعتدي عدوانه..  

ومن ارتضى الذل لنفسه  فلا يمكن للعلم أن يرفع من شأن الأذلاء وصغار النفوس , ومن كرم علمه كرّمه علمُه , وكنت أبحث عن هذا النموذج وهو موجود حتما ولا تخلو الأرض من كرام الرجال ..

ثالثاً:إغناء المكتبة المغربية وقد أسهمت البحوث التي نشرت في المغرب والتي أعدها أبناء الدار من الباحثين في إغناء المكتبة المغربية من الكتب العلمية ومعظمها يتناول موضوعات عن التراث المغربي ومدى إسهام علماء الغرب الإسلامي في إغناء الفكر الإسلامي في مختلف العلوم الإسلامية في علوم القراءات والتفسير وفي علم الحديث ومنهج النقد عند علماء المغرب والأندلس وهناك الجانب الأهم وهو الفقه المالكي سواء ما تعلق بأصول المذهب وفروعه , وتناول الباحثون فقه العمل في الفقه المالكي , واهتموا بدراسة النوازل والقواعد الفقهية والوثائق الفقهية واختيارات علماء  المذهب, ومعظم هذه البحوث نشرت وقامت وزارة الأوقاف بطبع عدد كبير من هذه البحوث كما قامت دور النشر بطبع عدد آخر , وهناك أكثر من مائة كتاب قد نشرت بالإضافة إلى الكتب التي تم تحقيقها وإعداد الدراسة عنها , فضلاً عن التراجم العلمية من أمثال ابن عبد البر والقاضي عياض وأبي بكر بن العربي وابن وضاح القرطبي والمقرى والونشريسى  , وأستطيع التأكيد على أن هذه الفترة كانت غنية بالإنجازات العلمية وهي مرحلة نهضة حقيقية,  وكان هناك تطور واضح في مناهج البحث والتكوين العلمي , وبفضل هذا الجيل سوف يستمر عصر النهضة العلمية فى المغرب  لمدة طويلة ,وكان أثر دار الحديث الحسنية واضحاً في هذه المرحلة ومؤثراً في تعزيز مكانة الثقافة الإسلامية…   

رابعاً: إحياء التراث المغربي، وهذا هدف كنت أسعى لتحقيقه، وقد أسهمت دار الحديث الحسنية في خدمة هذا التراث وقامت بتحقيق مخطوطات هامة ونفيسة، كما قامت بتعريف شخصيات علمية كبيرة، وإعداد دراسة عن تلك الشخصيات، وعن أثرها في خدمة الفكر الإسلامي، وهناك عشرات الدراسات العلمية حول موضوعات مغربية وشخصيات علمية، وخاصة فيما يتعلق بالمذهب المالكي وبيان أصوله  وفروعه  وقواعده وكتبه ورجاله وخصائصه …

ولو رجعنا إلى مجلة دار الحديث الحسنية فسوف نجد فيها عناوين هذه البحوث والدراسات وأسماء الباحثين، ومعظم هذه البحوث قد تشرت إما في المجلة أو في كتب طبعت فيما بعد…

وكنت أحرص على دراسة هذا التراث واختيار المفيد والنفيس منه، فليس كل قديم يستحق الاهتمام، ويجب أن تتخير المفيد والنافع، وأن نسهم في الإضافة إلى ذلك التراث، فلا يدرس التراث لأنه قديم  وإنما يدرس لأنه مفيد ونافع ونحتاج إليه، ويجب ألا يشغلنا ما ضينا عن حاضرنا، وألا يشغلنا الاهتمام بأجدادنا عن العناية بأحفادنا، فأحفادنا هم المستقبل، وبجب أن نعدهم للحياة، ولا يغني الأمس عن الغد الذي ينتظرنا، ونريد أن يكون جهدنا اليوم هو تراث تفخر به الأجيال المقبلة …..

خامساً: تحقيق التواصل الثقافي بين الدار والمجتمع , وكنت أحرص على تحقيق التواصل بين المجتمع والدار وهو أمر ضروري لتكوين ثقة متبادلة وحوار بين المجتمع والفكر , و الفكر الذي يعيش في عزلة عن الناس لا يؤدي الغاية المرجوة منه , فالفكر لأجل خير المجتمع وتقدمه ,  والمفكر يجب أن ينظر إلى قضايا الناس ويعيش معهم ويستمد رؤيته منهم , والمؤسسة العلمية التي لا يثق المجتمع بها لا يمكن أن تؤدي رسالتها , والإنسان هو الغاية المرجوة ويجب أن يحترم هذا الإنسان وتحترم حقوقه ويسخر العلم لخدمته , فالطب  يجب أن يتجه لعلاج أمراض الإنسان للتخفيف من آلامه والغذاء يجب أن يكون في خدمة الإنسان وإنما أقيمت الدولة لإسعاد الإنسان وخدمته وتوفير الأمن له,  والإنتاج يجب أن يتجه لخدمة الإنسان وتوفير حاجاته..

وعندما يرفض المجتمع ثقافة المثقفين فهذا دليل على عزلة هذه الثقافة وفشلها وعدم صلاحيتها و المجتمع لا يرفض الدين وإنما يرفض بعض المفاهيم الدينية التي أقرها رجال الدين بطريقة تخالف  ثوابت الدين  فى حماية مصالح المجتمع فالمجتمع يؤمن بالدين ويؤمن بعدالة الدين فالدين جاء لتحرير الإنسان ورفع الظلم عنه, وكل فكر يقر الظلم الاجتماعي أو يبرره أو يدافع عنه فليس من الدين, ولذلك يجب أن يكون التفسير الديني معبراً عن روح الدين ومقاصده , ويجب على كل المؤسسات العلمية الإسلامية أن ترفع شعار التواصل مع المجتمع وأن تحترم ثوابت الدين في احترام الإنسان، ولا يمكن للفكر الديني أن يتحالف مع الحكام ضد المحكومين ولا مع الأغنياء الظالمين ضد الفقراء المظلومين، وقد لا يعبر رجال الدين عن الدين ، خوفاً أو رغبة في مغانم ومصالح يبحثون عنها، والفكر يجب أن يحرر نفسه من الأفكار التي تسيطر على المفكرين وتدفعهم بعيداً عن مصالح مجتمعهم ..والمسلم الأمي الجاهل قد يدرك بعض الأفكار الإسلامية بفطرته بطريقة أفضل مما يدركها المفكرون الكبار، فالفطرة تدرك الحقيقة التي قد تغفل العقول عنها ..والفكر الذي يعيش في عزلة عن الناس لا يمكنه أن يخدم الناس ، وأقول لكل المفكرين ضعوا أمامكم الانسان حيث كان,  وقدموا الأفكار التي تخدمه وترتقي به، الحرية والكرامة أولاً، والغذاء وأسباب الحياة ثانياً، والتحالف معه لمقاومة كل قوة تحاول تجاهله والعدوان عليه ثالثاً ..ولذلك أنادي بتحرير ثقافة الإسلام من الثقافة  الانعزالية الضيقة المستسلمة الدخيلة على الإسلام والتي تناقض مبادئ الإسلام الأساسية والأصلية ..

( الزيارات : 855 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *