مواقف السيد النبهان من قضايا عصره

كان الشيخ رحمه الله صاحب مدرسة تربوية متميزة بخصوصيتها الفكرية والسلوكية وبمواقفها الثابتة من القضايا العامة ذات البعد الاجتماعي والوطني والثقافي، ومن اليسير تتبع ملامح هذه المدرسة من خلال أفكار وسلوكيات المنتمين إليها، وهي أفكار واضحة لا لبس فيها في ملامحها، وقد يقع الاختلاف في فهم تلك المواقف، إلا أنَّ من اليسير التغلب على هذه الظاهرة من خلال النسق العام لأراء الشيخ وتوجيهاته في المواقف المختلفة.

والتعددية في فهم تلك الملامح دليل على خصوبة ذلك الفكر وقابليته لمواكبة المواقف المستجدة، فلم يكن فكر الشيخ منغلقاً وضيقاً، ولم يكن فكراً تقليدياً جامداً، ولم يكن يرفض المعاصرة والتجديد، وكنا نجده في المواقف المختلفة يملك إمكانات خصبة من الثراء والغنى ولعل التركيز على جانب واحد من الملامح أعطى الانطباع بعزلة هذه المرسة وجمودها…

وربما نستطيع فهم طبيعة هذه المدرسة التربوية من خلال خصوصيتها، فهي ليست مدرسة فقهية تعنى بشؤون الاجتهادات الفقهية لكي يكون لها اختياراتها التأصيلية في مجال الفقه والأصول، ولم تكن مدرسة تفسير وحديث لكي يكون لها منهجها في التفسير والتعليل الحديثي والحكم على الرواة والأسانيد، ولم تكن مدرسة كلامية تعنى بشؤون العقائد والجدل للدفاع عن عقيدة أهل السنة في مواجهة المدارس الكلامية والفلسفية، ولم تكن طريقة صوفية بمفهوم الطرق الصوفية ذات أوراد وطقوس وأحوال، وإنما كانت مدرسة تربوية ذات خصوصية روحية تعتمد على تزكية النفوس وإصلاح القلوب، ولها مفاهيمها المعرفية في مجال السلوك التربوي، وهي مرتبطة كل الارباط في سلوكيتها بأحكام الشريعة ولا تخرج عنها وتلتزم بها ولا تجتهد في مجال الأحكام الفقهية بما يخرج عن نطاق المذاهب الفقهية السائدة، وتلتقي مع الفكر الصوفي في مجال التربية الروحية والمجاهدات والإلتزام بالآداب الشرعية وتهذيب النفوس وطهارة القلوب، وتختلف في أسلوبها عن المدارس الطرقية التي تعتمد الأوراد والأذكار التي تعتبر العمود الفقري للطرق الصوفية وتدين مزالق تلك الطرق وما تحفل به مجالسها من طقوس الطرب والسماع وحالات الوجد والاستغراق، وهي بالرغم من ابتعادها عن السياسة ونفورها من مجالس السلطة فهي ذات مشاركة هامة في المواقف العامة التي تعبر عن الانتماء الوطني والمشاركة في القضايا العامة التي تعبر عن دور العلماء الإيجابي في دعم قيم الخير في المجتمع، وتعبئة المواطن ضد الأخطار التي تهدد وحدة الأمة وسيادتها للدفاع عن الهوية الثقافية والدينية للمجتمع.

ورسالة هذه المدرسة هي رسالة تربوية تهدف إلى إصلاح المجتمع عن طريق التربية الصحيحة المستمدة من القيم الإسلامية، والأهم من ذلك أنها تعيد للفكر الصوفي صفاءه الروحي البعيد عن الطقوس السائدة، وتعيد ربط هذا الفكر بأصوله القرآنية وبمنطلقاته السلوكية المستمدة من السيرة النبوية، بحيث تصبح الحقيقة هي ثمرة للشريعة، ويقع التواصل والتكامل بين الظاهر والباطن لتكوين شخصية إسلامية ملتزمة بآداب الشريعة في سلوكها الظاهري وفي خواطرها الوجدانية.

ذلك هو المنهج الذي توصلت إليه من خلال تتّبعي الدقيق لأحاديث الشيخ ومذاكراته وتوجيهاته، وهو منهج قابل للعطاء في امتداد رؤيته، ويهدف إلى تكوين شخصية إسلامية مشبعة بروح الإسلام، قوية بتكوينها التربوي، مطلة على عالمها الخارجي إطلالة المؤمن الواثق من صحة الطريق متحررة من قبضة الشهوات الغريزية مستمدة قوتها من الله تعالى، يدفعها إيمانه بالله إلى السعي في الأرض بما يرضي الله وبما يشعرها بقوتها من الله تعالى، يدفعها إيمانه بالله إلى السعي في الأرض بما يرضي الله وبما يشعرها بالطمأنينة والسكون.

مدرسة إسلامية ذات منهج عميق روحي ومعرفي، تلتقي في أصولها مع الفكر الصوفي وتجسد قيمه ومفاهيمه وتعبر عن أخلاقياته واهتمامه في تصحيح صورة الباطن وتختلف عنه في تمسكه ببعض المظاهر الطرقية التي ليست من حقيقة التصوف والتي أساءت إليه، فالتصوف في حقيقته صفاء وطهارة وتهذيب، واهتمام بطهارة الباطن ويقظة دائمة وهمة عالية ومعرفة بالله تعالى وخشية منه ورجاء في عفوه ومغفرته، وإيثار الله تعالى على كل ما عداه، والزهد في الدنيا وعدم التعلق بها، وافتقار دائم إلى الله تعالى، وخدمة لعيال الله، وأدب منتميز في الأقوال والسلوكيات، والتماس العذر للخلق فيما هم فيه، والتزام بالأوامر والنواهي، ومحبة لله دائمة وشوق إليه…

ومن مظاهرها التحقق بصفة العبدية لله تعالى ورفض كل عبودية للخلق مهما علت مرتبتهم، والتواضع في معاملة المستضعفين والتكبر على المتكبرين والمعجبين بأنفسهم، واستشعار الله تعالى في كل عمل من الأعمال، والإعراض عما يشغل الخلق من شؤون دنياهم والإقبال على الله تعالى وإيثاره على كل شيء.

وذلك منهج في تجديد الفكر الصوفي وتجريده مما علق به من مخلفات عصر التخلف والركود من مفاهيم خاطئة وسلوكيات ظاهرة، وإذا لم نقل أنه تجديد فهو تصحيح لذلك الفكر لكي يعود كما كان في نقائه وصفائه وروحانيته وأخلاقياته.

وهذه الصوفية ليس فيها أوراد ثابتة تؤدَّى بمواعيد محددة وإنما فيها يقظة دائمة وتصفية مستمرة لكي تكون مرآة القلب نظيفة من الأكدار والشوائب، تتجلى فيها أنوار الحقيقة، وتشعرها بالسكون والطمأنينة.

وصوفية كهذه لا يتبارى أتباعها بالكرامات ولا يتفاخرون بالمكاشفات ولا يدعون ما لا يملكون من الأسرار، ولا يلازمون مجالس المجذوبين بحثاً عن استكشاف المستقبل، وإنما يتبارون بالاستقامة السلوكية واتباع الأوامر الشرعية ويحرصون على طهارة باطنهم كما يحرصون على طهارة ظاهرهم، ويحاسبون أنفسهم على كل ما يصدر عنهم، ويستبدلون صفاتهم المذمومة بالصفات المحمودة، ويؤثرون الله تعالى على كل شيء ولا يسمحون للدنيا أن تحجب قلوبهم عن النور الإلهي الذي ينبثق في القلوب الطاهرة….

ولابد في المواقف من أن تعبر عن هذه المدرسة لكي يكون النسق العام منسجماً، والمواقف هي المصدر الأهم للفكر، والمفكر لا يستمد معالم فكره من خلال كتابته وأقواله وإنما من خلال مواقفه، فالفكر المستمد من الأقوال والكتابات فكر نظري يفتقد العمق ولا يعبر عن الحقيقة، ولا قيمة له، بخلاف الفكر الذي يستمده صاحبه من المواقف فهو أكثر صدقاً وانسجاماً ولا يتناقض أبداً لأنه يصدر عن صاحبه من غير تكلف.

( الزيارات : 1٬076 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *