نشأة التصوف وتطوره

كلمات مضيئة..نشأة الفكر الصوفي وتطوره…

 الحلقة الاولى

تأملت كثيرا فى ظاهرة الفكر الصوفي خلال تاريخنا الاسلامى , وهو ككل فكر يبتدئ كظاهرة اجتماعية ثم ثقافية ناتجة عن حاجة مجتمعها فى لحظة تاريخية معينية , فى لحظة صعود او هبوط , تعبر عن ازدهار او تراجع , وهي وليدة واقع يفرض تصورا للاكمل كما يراها اهله  , وليس من الضرورى ان يكون هو الاكمل , لا اشك ابدا ان التصوف هو وليد اصول اسلامية تعبر عن مثالية اخلاقية واشواق روحية نجدها فى كثير من المفاهيم الايمانية فى القران والسنة , لم تكن كلمة التصوف معروفة فى القرن الاول , ولكن المنهج الاخلاقى والنزعة الروحية كانت واضحة فى كثير من المواقف فى العصر النبوى وفى حياة السلف الصالح فى القرن الاول , كانت تتمثل فى التقوى والاستقامة والاخلاقية الحميدة وعمل الخير والتوبة من الذنوب والصحبة الصالحة , كان العلم لا ينفصل عن التقوى , والاستقامة لا تنفصل عن الدين , وعندما تطور المجتمع الاسلامى ولم يعد كما كان من قبل واصبحت السلطة اكثر نفوذا وانتشر الترف وضعفت الضمائر واتجه المجتمع الى مزيد من التنافس على السلطة والحكم و ومناصب القضاء , واصبح كثير من رموز العلم يتنافسون على الدنيا ويتغالبون على المال والقضاء  ويعيشون حياة البذخ التى تتنافى مع السلوكية الاسلامية الاصيلة , بدا المجتمع يتطلع لوسيلة يعبر فيها عن ادانته لواقعه الذى لم يكن يتفق مع مفهوم الاسلام وثوابته فى السلوك الاجتماعى , كانت الخلافات السياسية على اشدها وكان العلماء فى طليعة المتنافسين على الدنيا والمناصب العليا وفقد الكثير ثقتهم بهم , لم يعودوا كما كانوا حلفاء للمستضعفين وللمظلومين وفقدوا مكان القدوة فى مجتمعهم كان اسلام المتنافسين على الدنيا مختلفا عما كان عليه  , واصبح معظم هؤلاء المتنافسين  يستخدمون الدين كسلاح يواجهون به خصومهم , وبدات ظاهرة الوضع فى الحديث , واصبح وضاع الحيث يعبثون ويكذبون ويمدحون ويذمون ويستخدمون الحديث كوسيلة يبررون بها ما يريدون , لاهداف سياسية وصراعات على السلطة , لم تكن وسيلة التدوين قد انتشرت , وكانت الحاجة الى التدوين اولا ثم كانت الحاجة الى توثيق التدوين ثانيا بالاسانيد , فى هذه الحقبة التاريخية كانت الحاجة ماسة لظهور منهجية تربوية وسلوكية اكثر تعبيرا عن القيم الايمانية والروحية الاصيلة , ونشات هذه الظاهرة فى مجتمع الحضارة فى البصرة والكوفة,  واصبحت كلمات الرجل الصالح  الحسن البصرى تتردد بقوة فى مساجد البصرة  داعية الى العودة الى الاسلام الاصيل والابتعاد عن الدنيا والزهد فيها والزهد والاخلاص واعتبر ما عليه مجتمعه من الغفلة عن الله , بعض الصالحين  من المستضعفين استجاب لهذا النداء , وظهرت فرقة من الصالحين الاتقياء  اشتهرت بحياة الزهد والعزلة عما عليه مجتمعها المثقل بمظاهر الترف ومظاهر الظلم الاجتماعى , سميت هذه الجماعة بالصوفية لعلهم كانوا  يرتدون الملابس الخشنة ويعبرون بها عن رفضهم لحياة مجتمعهم المترف  , وهناك من يجعل كلمة الصوفية من الصفاء او الصفوة او اهل الصفة , وهناك من يرجح ان الكلمة مشتقة من كلمة صوفة وكانت تطلق فى الجاهلية على جماعة انقطعوا للعبادة , ليست التسمية مهمة , كانت حركة اجتماعية تعبر عن ذاتها ببعض الكلمات الدالة على الزهد فى الدنيا والانقطاع الى العبادة والتمسك باخلاقية الاسلام الاصيلة  ,

 هذه هي المرحلة الاولى من تاريخ الصوفية , وبدات المرحلة الثانية فى بداية القرن الثالث عندما ظهر عدد من اعلام التصوف الاول ممن كتبوا عن التصوف كفكر وكمهج تربوى وروحي واصبحوا فى كتاباتهم يستخدمون مصطلحات خاصة لم تكن مألوفة من قبل , ومن ابرز هؤلاء الاعلام ابو نصر السراج الطوسي المتوفى سنة 378 هجرية واشتهر بالزهد والتقوى والعلم , وكان يسمى طاووس الفقراء نظرا لورعه وتقواه وكان شديد الالتزام بالسنة ومنهجية السيرة فى حياته وحظى بمكانة كبيرة فى مجتمعه,  وزار عددا من البلاد الاسلامية وكتب كتابا من اهم الكتب الاصيلة التى كتبت عن التصوف الاصيل وسماه اللمع , وكتب فى مقدمة كتابه هذا انه اراد ان يكتب عن هذه العصابة كما سماها لكي يميز بينهم وبين المتشبهين بهم والملبسين بلبسهم والمتسمين باسمهم ووصفهم فى مقدمته بانهم امناء الله فى ارضه وخزنة اسراره وعلمه وصفوته من خلقه .. ثم قال عنهم بانهم هم الذين احيا الله بمعرفته قلوبهم وزين بخدمته جوارحهم والهج بذكره السنتهم وطهر بمراقبته اسرارهم .  ثم وصفهم بقوله بانهم استغنوا به عما سواه وآثروه على ما دونه وانقطعوا اليه, وتوكلوا عليه وعكفوا ببابه , ورضوا بقضائه وصبروا على بلائه , وفارقوا فيه الاوطان وهجروا له الاخوان , صفحة 18 من كتاب اللمع

وقد اكد الطوسي ان كثيرا قد خاضوا فى هذا العلم من غير اهله وانكر عليهم ذلك واشترط على من يتكلم بالتصوف ان يبتدئ بقطع علا ئقه وان يلتزم بمنهجهم فى المجاهدات , وان اهم ما يجب عليهم ان يكونوا من اهل العلم لكيلا يضلوا او ينحرفوا , واهم ما يجب عليهم تطهير القلوب وتذكية النفوس , واهم ما اكد عليه الطوسي ان الصوفية لم يختلفوا قط مع الفقهاء ولا مع اهل الحديث ولكنهم اضافوا اليهم الاهتمام بحقائق الايمان , واهمها مرتبة الايمان و الاحسان وترك مالا يعنيهم, وانه اذا اختلوا مع الفقهاء فانهم ياخذون بالاكمل والاولى ولا ياخذون بالبدع ولا بالشبهات , وتتبعت ما كتبه الطوسي وهو من افضل ما قراته عن التصوف فهما واعتدالا ونقدا لما الت اليه حالة التصوف فى زمانه من انحراف عن التصوف الحق , وتكلم كثيرا عما خلط فيه من انتسب الى التصوف ممن جهل معنى التصوف , وقد شرح مفهوم الظاهر والباطن الذى كتب عنه الامام الغزالى بعد ماتى عام , واكد الطوسي ان الصوفية لهم مفاهيم تخفى على غيرهم وهي مودعة فى تلك المعانى الظاهره , فالنعم الظاهرة والباطنة كثيرة , واكد على اهمية فهم معنى النفس وماتنطوي عليه من اسرار وما يتحكم فيها من خواطر وصدق الاتجاء الى الله ودوام الافتقار اليه , وانكر الطوسي على من توهم انه من اهل الخصوصية وليس صادقا من لم يترك امر الدنيا لمن هو طامع فيها ومتعلق بها ,  ..

وساحر ص فى الحلقة الثانية ان اتكلم عن علم من اعلام التصوف المؤسسين وهو ابو بكر بن  محمد بن ابراهيم الكلا باذى الذى كان معاصرا للطوسي وكتب اهم كتاب علمى سماه التعرف لمذهب اهل التصوف , وهذا الكتاب من امهات كتب التصوف الحقيقى كما كان فى المرحلة التى اعتبرها مرحلة ازدهار علم التصوف كمنهجية تربوية راقية الاهداف خالية من الانزلاقات والشطحات التى اثقلت كاهل التصوف وابعدته عن حقيقته التربوية الى  صورة اخرى تأثرت بما كان عليه مجتمعها  من جهل وتخلف وانعكس ذلك على كثير من المفاهيم الروحية الاصيلة ..

حقيقة التصوف اليوم  ليست كما كانت عليه  بعد تراكمات وانقسامات وطرقيات لم يلتزم الكثير منها بمنهج الاولين,  ودخلت فيه الكثير من المفاهيم الفلسفية التى ابعدته عن ذلك الصفاء الروحي الذى كان عليه فى مرحلة ازدهاره فى القرن الثالث والرابع ., ولا شك ان صوفية الاولين كانت اكثر صفاءا والتزاما ودلالة مما الت اليه من بعد فى القرون التى اعقبت تلك الفترة الاولى , وصوفية كل عصر هي وليدة مجتمعها تتاثر به وتعبر عن واقعه ..

( الزيارات : 1٬238 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *