نشاة العلوم الاسلامية وعصر التدوين

نشاة العلوم الاسلامية وبداية عصر التدوين
القى الدكتور محمد فاروق النبهان حديثا علميا فى مقر الاكاديمية الملكية المغربية مساء الخميس 11يونية حزيران 2015 بعنوان نشاة العلوم الاسلامية وبداية عصر التدوين الفقهي , وقد شارك فى مناقشة الموضوع والتعليق عليه عدد من اعضاء الاكاديمية الدكتور محمد بنشريفة والدكتور عباس الجرارى والدكتور محمد الكتانى والدكتور مولاي ادريس العلوى العبدلاوى والاستاذ حسين وجاج والدكتورة رحمة بورقية وتراس الجلسة الدكتور عبد الجليل الحجمرى امين السر الدائم والدكتور عبد اللطيف بنعبد الجليل امين السر المساعد والاستاذ عبد الكريم غلاب ومقرر الاكاديمية الدكتور مصطفى الزباخ , وقد شكر الدكتور النبهان فى نهاية الجلسة الزملاء على تدخلاتهم القيمة وملاحظاتهم المفيدة …وهذا نص الحديث :
بسم الله الرحمن الرحيم
نشأة العلوم الإسلامية
وبداية عصر التدوين…
ايها الزملاء الكرام
اهتم علماء الإسلام بموضوع العلم وخصصوا له فصلا مستقلا في بداية كتبهم، تعريفاً به، وبياناً لمعناه، وتأكيداً لمكانة العلم والعلماء، لتوجيه الاهتمام لأهمية العلم في نهضة المجتمعات، لأن السعادة التي يحرص الإنسان على الوصول إليها لا يمكن التوصّل إليها إلا عن طريق العلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، وإذا كان العلم هو أفضل شيء فإن تحصيل العلم هو طموح إلى الأفضل.
وقد اهتم الإمام الغزالي بمفهوم العلم، وخصص الفصل الأول من الجزء الأول من كتابه “إحياء علوم الدين” للحديث عن العلم.
والعلم عند الإمام الغزالي فضيلة في حد ذاته من غير إضافة، لأنه وصف كمال، ولا تستعمل الفضيلة إلا في حالة تشارك شيئين في أمر واختصاص أحدهما بمزيد عن الآخر، فيما يؤدي إلى كمال ذلك الشيء، ولا تطلق كلمة الفضل ما لم تكن الزيادة دالة على الكمال، كالعدْو بالنسبة للفرس، وسرعتها فضيلة في الخيول.( )
ويعود شرف العلم لأسباب ثلاثة : الغريزة أولا، والنفع ثانياً، والمحل ثالثاً، فما يدرك بالعقل أشرف مما يدرك بالسمع، وماهو أكثر نفعاً للإنسان أشرف مما هو أقل نفعاً، وما كان محله أسمى كان أشرف من غيره في الصنائع والعلوم( ).
وكلما اشتدت حاجة الإنسان للعلم كان شرف ذلك العلم أكبر وأهميته أعظم، وكلما قلّت الحاجة إلى ذلك العلم كان أقل أهمية من غيره.
وإذا كان العلم هو وسيلة التقدم إلى الأفضل كان تعلّمه واجباً على الإنسان.( )
ويرى الإمام الغزالي ان العلم الذي يعتبر فرض عين على كل إنسان هو علم المعاملة وهو العلم الذي يهتم بشؤون الاعتقاد أولا وبالحقوق والأحكام التكليفية… والعلوم إما أن تكون محمودة أو مذمومة، بحسب حاجة المجتمع إليها وبحسب نفعه، والعلم لا يكون مذموماً لذاته، وإنما يذم العلم إذا كان أثره سيئاً على الإنسان كعلم السحر الذي يؤدي لضررصاحبه أو بغيره، كما يعتبر العلم مذموماً إذا كان غير نافع أو مفيد، كالخوض في الأسرار الإلهية التي يهتم بها الفلاسفة(( .
وهذا المعيار الذي وصفه الغزالي للتفريق بين العلم المحمود والمذموم مهم جداً، ويقوم على أساس الضرر بصاحبه أو بغيره وعدم الفائدة منه، فلا حاجة لتعلم العلم الذي لا فائدة منه…
والعلوم المحمودة هي ما استمدت من الأنبياء أولاً ومن العقل ثانياً، ومن التجربة ثالثاً، وهي أنواع أربعة( ) :
أولا: الأصول : وهي أربعة : كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع الأئمة وآثار الصحابة
ثانيا:الفروع : وتشمل ما فهم من تلك الأصول، لا بموجب ألفاظها فقط، ولكن بمعان تنبّهت لها العقول، فاتسع الفهم فيها…
ثالثاً: المقدمات : وهي العلوم غير الشرعية التي تجري مجرى الآلات التي لا يمكن فهم النصوص الشرعية إلا عن طريقها، كعلم اللغة والنحو.
رابعاً:المتمّمات : وهي العلوم التي تمكن المسلم من معرفة القرآن والحديث، مثل علوم القرآن وعلم مصطلح الحديث ورواة الأسانيد( ).
وأول العلوم التي نشأت في تاريخ الإسلام هي العلوم التي ارتبطت بالقرآن الكريم، وسميت بعلوم القرآن، وتشمل كل ما يتعلق بالقرآن الكريم نزولا عن طريق الوحي وجمعاً لنصوصه، وتعريفاً بأسباب نزول الآيات، والأحرف التي نزل بها القرآن والرسم العثماني للمصحف، والإعجاز القرآني والنسخ في القرآن، والقصة القرآنية، وكيفية نزول القرآن والمكي والمدني، ويسمى هذا العلم بعلوم القرآن.
ومن أبرز الذين صنفوا في هذا العلم في القرن الثالث الهجري علي ب بن المديني شيخ البخاري الذي كتب في أسباب النزول، وعبيد القاسم بن سلام الذي كتب في الناسخ والمنسوخ، ومحمد بن خلف المرزبان الذي كتب “الحاوي في علوم القرآن”.
وممن اشتهر في القرن الرابع أبوبكر الأنباري الذي كتب في “عجائب علوم القرآن”، وأبو الحسن الأشعري الذي كتب “المختزن في علوم القرآن”، وأبو بكر السجستاني الذي كتب في “غريب القرآن”، ثم تتالت الكتب الكثيرة في علوم القرآن والقراءات وإعراب القرآن، والقراءات السبع في كتاب “التيسير” لأبي عمرو الداني… و”فنون الأفنان في عيون علوم القرآن” لابن الجوزي، و”جمال القراءوكمال الإقراء” للسخاوي.
ومن أبرز الكتب التي اشتهرت في علوم القرآن كتاب “البرهان في علوم القرآن” للإمام الزركشي” الذي يعتبر من أهم كتب علوم القرآن، وقد أكد على أهميته الإمام السيوطي في كتابه “الإتقان في علوم القرآن”، ولا يمكن لباحث في علوم القرآن أن يستغني عن أهم كتابين في هذا العلم “البرهان” للزركشي، و”الإتقان” للسيوطي( ).
والعلم الثاني هو علم التفسير، ويراد به العلم الذي يتحدث عن ما في القرآن، من حيث النزول والدلالات اللغوية لهذا النص القرآني، من حيث العموم والخصوص والمطلق والمقيد وعن المعاني المستفادة من النص القرآني من حيث الأحكام والتوجيهات والعبر والقصص.
ويمكننا تعريف التفسير بأنه العلم الذي يبحث عن المعاني القرآنية المحتملة التي تدل عليها الألفاظ ويستعين المفسر بأدوات التفسير اللغوية التي تمكنه من معرفة تلك المعاني.
ومهمة التفسير هو بيان معاني المفردات بحسب الدلالة اللغوية، والتأويل أعم وأشمل، ويعتمد على قوة الملاحظة ودقة الإشارة واستلهام المعاني الخفية.
وأول علم للتفسير، هو التفسير المأثور الذي يعتمد على الرواية، وينقل المفسّر ما قاله الصحابة والتابعون من أقوال في تفسير الآية. ومن أهم كتب التفسير المأثور هو تفسير الطبري “جامع البيان في أحكام القرآن” المعروف الذي يعتبر من أمهات كتب التفسير.
ثم تكاثرت كتب التفسير وتعددت أساليب المفسرين، وكل مفسر حاول أن يركز على جانب اختصاصه مما يراه هو الأهم في نظره، فهناك التفسير الفقهي، مثل تفسير القرطبي، وتفسير الرازي للإمام الرازي، وتفسير ابن كثير، وتفسير البحر المحيط، وهناك عشرات التفاسير المختلفة التي اشتهرت في مكتبة التفسير والدراسات القرآنية…
ولم يعد التفسير مقتصراً على التفسير المأثور وإنما تعداه إلى التفسير بالرأي، الذي وضع العلماء له مقاييس لكي لا يتحكم المفسر في النص الذي يريد تفسيره.
ومن أهم هذه الكتب : تفسير “الكشاف”للإمام الزمخشري ,ويعتبر من كتب التفسير الذي كان يحاول فيه المفسر الدفاع عن آراء المعتزلة فيه.
وبدأت حركة التدوين للعلوم الإسلامية تزدهر في الأوساط العلمية في مختلف العلوم، ابتداء من القرن الثاني الهجري، الذي شهد بداية عصر التدوين، ثم ازدهر التدوين بشكل كبير في القرن الثالث وما بعد ذلك…
سوف أتكلم عن نشأة حركة التدوين في القرن الثاني في علوم الحديث أولا، ثم ازدهرت بعد ذلك في نهاية هذا القرن وبداية القرن الثالث إلى نهاية القرن الخامس، في الفقه الإسلامي، وظهرت المدونات الفقهية الكبيرة المعدةعن فقه أئمة الفقه الذين اشتهروا بآرائهم الفقهية وقواعدهم الأصولية…..

نشأة حركة التدوين في العلوم الشرعية
ليس من السهل على الباحث أن يحدد تاريخاً دقيقاً لبدء حركة التدوين في العلوم الإسلامية، إذ من المؤكد أن هذه الحركة قد بدأت كمحاولات فردية لتدوين بعض ما يود الإنسان حفظه ويخشى نسيانه مما يحرص على الاحتفاظ به، ولما كان القرآن الكريم قد كتب بين يدي رسول الله ﷺ ثم جمع بشكله النهائي في عهدي أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان فإن البداية الأولى للتدوين الفردي قد اتجهت إلى تدوين الروايات المنقولة عن الرسول الكريـم ، ثم تدوين الآراء المأثورة المروية عن صحابته، فيما يتعلق بتفسير القرآن وبيان الأحكام، وهذه البداية هي نقطة الانطلاق لرحلة التدوين التي نشطت خلال القرن الثاني والثالث الهجري بشكل كبير…
فكرة التدوين:
لم تكن فكرة التدوين في العصر النبوي شائعة لانتشار الأمية أولا، ولضعف وسائل الكتابة ثانياً، ولورود أحاديث” عن الرسول ﷺ ينهى عن تدوين غير القرآن خشية أن يختلط ذلك بالقرآن، ولهذا فقد كان جمهور الصحابة يرفض التدوين ماعدا من سمح لهم الرسول بذلك ، واشتهروا بتدوين السنة فيما بعد…
وكانت الغاية من ذلك النهي توجيه الاهتمام كله إلى القرآن، ومتابعة آياته حفظاً في الصدور وتطبيقاً عملياً لها. وقد أدى ذلك إلى الاحتفاظ بالآيات القرآنية بعيدة عن أية شبهة فيما يتعلق بثبوتها، مما دفع الخليفة أبا بكر إلى أن يأمر زيد بن ثابت – بعد مقتل عدد من حفاظ القرآن في موقعة اليمامة – بجمع القرآن، نظراً لأنه كان من كتّاب الوحي، ومن الصحابة المشهورين بالدقة والضبط في النقل والجمع، ويبدو أن زيد بن ثابت تردد قليلاً في أن يفعل ما لم يفعله الرسول الكريم إلا أن أبا بكر استطاع أن يراجعه حتى شرح الله صدره، وعندئذ شرع في جمع القرآن( ).
ولما كان الصحابة ليسوا في درجة واحدة من حيث القدرة على الفهم والحفظ والإحاطة بكل ما يتعلق بتفسير الآيات القرآنية من حيث معرفتهم بالمفردات اللغوية ومدلولاتها على الأحكام فقد رويت عنهم روايات مختلفة تتعلق بمعاني القرآن وبيان مفرداته وأحكامه وحكمه، وقد اشتهر عدد من الصحابة بتفسير القرآن، من أمثال عبد الله بن عباس، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبيّ بن كعب، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود…
وكان علماء الصحابة والتابعون يعتمدون في البداية على الحفظ والرواية، إلا أن الاعتماد على هذا المنهج، إذا كان ممكناً في المرحلة الأولى، فإنه من الصعب الاعتماد عليه فيما بعد، وبخاصة بعد أن تفرق الصحابة في الأمصار الإسلامية، وازدهرت الحركة العلمية، وتعددت المدارس في كل من المدينة ومكة والكوفة، وأصبح التدوين ضرورة ملحة لضبط الروايات المأثورة، حفظاً لها، وضبطاً لمدلولاتها، وبخاصة بعد ظهور حركة الوضع في الحديث التي استهدفت نسبة روايات مكذوبة إلى الرسول وصحابته، بهدف تضليل المسلمين، وتعميق جذور الفتنة في المجتمع الإسلامي الوليد.
أولا: تدوين السنة:
لم تدون السنة النبوية في عصر مبكر، وكان الاتجاه العام بين الصحابة يميل إلى كراهية تدوين السنة، بالرغم من شعورهم بضرورة التدوين وخشيتهم على السنة من الضياع( )، وكان السبب الوحيد الذي يحول دون تدوينهم للسنة ما رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال : لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه( ).
وهذا النص العام يفيد منع التدوين بشكل قاطع، إلا أن هناك نصاً آخر يفيد أن التدوين بحد ذاته ليس ممنوعاً، وأن المنع لا يفيد العموم، فقد سمح الرسول ﷺ لبعض الصحابة بالتدوين، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص إذ قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا : تكتب كل شيء سمعته من رسول الله ﷺ، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فأومأ بأصبعه إلى فيه وقال : «أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق» وهناك أحاديث أخرى تفيد جواز التدوين( ).
ويمكننا من خلال الجمع بين النصوص الواردة في النهي والإباحة أن نستنتج أن النهي لم يكن مقصوداً لذاته، وأنه إنما كان خاصاً حيث يخشى منه على القرآن، فلما أصبحت الخشية غير واردة لإمكان الفصل بين القرآن والسنة، واشتهار الصحابة بكتابة القرآن أو كتابة السنة لم يعد حكم النهي قائماً، ولهذا فقد اتجهت الأنظار نحو التدوين، إلا أن ذلك الاتجاه لم يخل من قليل من التردد عند بعض الصحابة…
ونلاحظ عند كبار التابعين أنهم كانوا يكرهون فكرة التدوين أصلاً، وربما كانوا يخشون أن تنقل آراؤهم فتختلط بالسنة النبوية، وربما كانوا يخشون احتمال الخطأ فيها، وكثيراً ما كانوا يأمرون تلاميذهم بعدم كتابة آرائهم، إلا أنهم بدأوا فيما بعد يتقبلون بالتدريج فكرة التدوين.
وتشير المصادر التاريخية أن العلماء الذين كانوا يعيشون على رأس القرن الهجري الأول ابتدأوا يشعرون بأهمية التدوين، ويحضون تلاميذهم على تدوين ما يحفظونه من روايات، فالحسن البصري يقول: إن لنا كتباً كنا نتعاهدها “وعمر بن عبد العزيز يكتب الحديث، وعطاء بن أبي رباح يكتب لنفسه ويأمر ابنه أن يكتب له. وكان يقول لتلاميذه: تعالوا اكتبوا، فمن كان منكم لا يحسن الكتابة كتبنا له، ومن لم يكن معه قرطاس أعطيناه من عندنا”( ).
بداية التدوين العام للسنة:
يبدو أن حركة الوضع في الحديث لم تترك الخيار للعلماء في قبول أو رفض فكرة التدوين، وأصبح الاتجاه العام يميل إلى قبول التدوين والتشجيع عليه والمساهمة فيه، ويروى عن أبي شهاب الزهري أنه قال : «لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثاً ولا أذنت في كتابه»، وعند ذلك قام الخليفة الأموي التقي الورع عمر بن عبد العزيز بأول دعوة رسمية عامة إلى جمع الحديث وتدوينه، وكتب إلى واليه على المدينة “أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم” كتاباً يأمره فيه بكتابة الحديث وجمعه، وقال له فيه: «اكتب إليّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله ﷺ ، فإني خشيت دروس العلم وذهابه»، ولم يكتف الخليفة بهذا، وإنما أرسل كتباً أخرى إلى الأمصار الإسلامية يأمرهم فيها أن يتوزع العلماء في المساجد لإحياء السنة، وكان من أوائل من استجاب لنداء الخليفة ابن شهاب الزهري، ويقول عن نفسه : «لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني»( ) إلا أن رحلة تدوين السنة إذا كانت قد بدأت بشكل رسمي في عهد عمر بن عبد العزيز على رأس القرن الأول الهجري فإن من المؤكد أن هذه الرحلة لم تنته بسهولة ويسر، وإنما اصطدمت بعقبات كثيرة، وكان لابدّ من ظهور علم جديد سمي بعلم مصطلح الحديث، غايته تمكين رجال الحديث من تدوين السنة بطريقة صحيحة بحيث يتمكن المحدّث من تمييز الحديث الصحيح من غيره عن طريق اعتماده على منهج استقرائي في منتهى الدقة يستهدف البحث عن الرواة وتصنيف ما يروى عنهم من أحاديث بحسب درجة عدالتهم…
تدوين الفقه:
من المؤكد أن حركة التدوين الفقهي بدأت بعد التدوين الرسمي للسنة، إذ لم يكن من الممكن أن يزدهر التدوين الفقهي قبل تدوين السنة، لأن السنة هي الأصل في التدوين، وهي الأساس الذي انبنى عليها الفقه، وقد انطلق التدوين الفقهي في صورته الأولى كنوع من التدوين المنظم للسنة، من حيث تقسيمها موضوعياً إلى أبواب وفصول، وبيان معانيها المستفادة منها، وربط ذلك بالنصوص القرآنية…
ومن الصعب التمييز في القرن الأول الهجري بين رجال الحديث ورجال الفقه، ولم يكن ذلك الفصل قائماً بين العلوم الشرعية بالصورة التي بدت فيما بعد، وإننا لنلحظ ترابطاً وثيقاً بين التفسير والحديث والفقه، فالتفسير المأثور الذي يمثل الصورة الأولى الأكثر أهمية في علم التفسير لا ينفصل عن الحديث والرواية، لاعتماده الكلي على الروايات المأثورة، والفقه هو النتاج العملي الذي يمثل الأحكام المستفادة من القرآن الكريم والسنة، ولهذا فإن تدوين السنة يمثل الخطوة الضرورية الأولى للتدوين الفقهي، بل إن التدوين الفقهي في صورته الأولى لم يكن سوى تدوين السنة…
ولو تتبعنا الروايات التاريخية المتعلقة بنشأة التدوين الفقهي لوجدنا أن التدوين الأول للفقه كان قاصراً على تدوين مسائل فقهية في العبادات والأموال والإرث والأسرة، وكانت تلك المسائل والأحكام معروفة ومحفوظة منذ عصر الرسول والصحابة، فلما ابتدأت ظاهرة التدوين ابتدأ العلماء بتدوين تلك المسائل لتثبيتها وتعميم الاستفادة منها، ومن أهم تلك الكتب الأولى في الفقه، كتاب “المسائل في الفقه” لمكحول الشامي المتوفى سنة 150هـ، وكتاب “المسائل في الفقه” للأوزاعي المتوفى سنة 159هـ، وربما تكون هناك كتب أخرى في المسائل الفقهية منسوبة إلى قائلها، وهذه الكتب قد تكون أقرب إلى كتب الحديث من كتب الفقه، لأن الفقيه يعرض فيها ما يحفظ من الأحاديث وفق ترتيب موضوعي يراعى فيه أن تكون أحكاماً لمسائل فقهية…
أول تدوين في الفقه:
تميل معظم المصادر التاريخية إلى اعتبار كتاب “الموطأ” للإمام مالك بن أنس المتوفى سنة 179هـ، أول تدوين في الفقه، فهو كتاب يجمع ما بين الحديث والفقه، فيعرض مؤلفه الأحاديث الواردة في المسألة الفقهية الواحدة، ثم يذكر عمل أهل المدينة وآراء الصحابة والتابعين، ثم يرجع بين تلك الآراء مبينا الحكم الشرعي الذي يستنبطه من مجموع تلك الأدلة، ولعل الجديد في كتاب “الموطأ” أنه يختلف عن الكتب المدونة في السنة التي سبقته، في تدوينه للحديث بقصد الاستدلال به على الحكم الشرعي، ولهذا أعتبر هذا الكتاب كتاب فقه وحديث معاً، وهذا المنهج الجديد في التدوين الفقهي قد مكن لهذا الكتاب أن يشتهر في الأوساط العلمية في عصره، مما دفع الخليفة الرشيد لأن يعرض على مؤلفه أن يجعل كتاب “الموطأ” قانوناً رسمياً يلزم القضاة بالعمل بمقتضاه، إلا أن الإمام مالك رفض ذلك خشية التضييق على الناس( ).
وإذا كان المؤرخون يميلون إلى اعتبار كتاب “الموطأ” أول تدوين للفقه، فإن هذا الاعتبار لا ينفي وجود محاولات للتدوين الفقهي محدودة، ظهرت قبل تدوين “الموطأ” كالتدوين للمسائل الفقهية، وكتدوين بعض آراء الصحابة والتابعين، إلا أن تلك المحاولات كانت محدودة الأثر، وربما كانت أقرب للتدوين في السنّة من التدوين الفقهي، ولهذا لم تشتهر في الأوساط العلمية كاشتهار كتاب “الموطأ”، وربما لأن واضعيها لم يستطيعوا أن ينشروها في الأوساط العلمية، فظلت خافية، ثم اندثرت مع كثير من الآثار العلمية التي لم يكتب لها الظهور…
شبهات حول كتاب المجموع للإمام زيد:
يرى علماء الشيعة أنهم كانوا أسبق في التدوين الفقهي من علماء السنة، ويعلل بعض المؤرخين ذلك بأن اعتقادهم بعصمة الأئمة أو ما يشبه العصمة سوف يجعلهم أكثر حرصاً على تدوين كل ما يصدر عن أئمتهم من فتاوى وأقضية( )…
ومن أقدم الكتب المدونة في الفقه في نظر علماء الشيعة “كتاب مجموع الفقه” المنسوب للإمام زيد بن علي بن الحسين المتوفى سنة 121هـ، وهناك كتاب آخر منسوب إلى الإمام زيد هو “مجموع الحديث”، ومن المؤكد أن الإمام زيد قد توفي قبل أكثر من خمسين عاماً من وفاة الإمام مالك، ولو صحت نسبة كتاب “المجموع” إليه لكان أول تدوين فقهي على وجه التأكيد.
ونقطة الخلاف في كتاب “المجموع” تنطلق لا من الكتاب ذاته ولكن من الاختلاف في عدالة الراوي الوحيد لهذا الكتاب هو “عمرو بن خالد الواسطي”، فقد تفرد هذا الراوي بنقل هذا الكتاب عن الإمام زيد، فمن العلماء من اعتبره ثقة وقبل روايته كعلماء الزيدية، وابن ماجه والدارقطني، ومنهم من جرحه واعتبره غير ثقة، ورفض روايته، كعلماء الإمامية وأحمد بن حنبل…
ويبدو أن هناك عوامل خارجية قد أثرت على الحكم على “الواسطي” فمنعت من الحكم عليه موضوعياً وفقاً لمعايير الجرح والتعديل، فمن شكك في نسبة “المجموع” إلى الإمام زيد وجد دليله في تفرد “الواسطي” في نقل الكتاب عنه دون بقية تلاميذ الإمام زيد، ومن المفروض أن ينقل هذا الكتاب بشكل متواتر لمكانة الإمام زيد أولا، ولأهمية الكتاب كأول تدوين فقهي منظم، إلا أن أنصار المذهب الزيدي يدافعون عن هذه الشبهة بأن مقتل الإمام “زيد بن علي” على يد الأمويين بعد خروجه عليهم قد دفع الأمويين للإساءة لكل من انتسب إلى الإمام الشهيد، فضلا عن أن آراءه قد ضاعت بعد تشتت أتباعه وملاحقتهم والإساءة إليهم، ولو كان “الواسطي” مطعوناً فيه فإن علماء الزيدية هم أولى الناس بنقده ورفض ما ينسبه إلى إمام مذهبهم( )…
وإلى جانب النقد الموجه إلى سند ورواية كتاب “المجموع”، فهناك نقداً آخر موجه إلى متن كتاب “المجموع”، فمن الملاحظ أن كتاب “المجموع” الذي جاء قبل كتاب “الموطأ” بأكثر من نصف قرن يعتبر على درجة كبيرة من الدقة والترتيب والتصنيف الفقهي مما يؤكد تأثره بمنهج فقهاء المذهب الحنفي، وهذا دليل على أنه قد دوّن في وقت متأخر عن الوقت الذي عاش فيه الإمام زيد( ).
ويذهب الدكتور محمد يوسف إلى عدم الاطمئنان إلى صحة كتاب “المجموع” ونسبته إلى الإمام زيد وعدم اعتباره أول تدوين في الفقه، ويعتمد في هذا على دليلين أحدهما يتعلق بالراوي من حيث عدم الثقة بروايته، وثانيهما يتعلق بالمتن ويؤكد هذه الشبهة المتعلقة بالمتن بما رواه المستشرق “برجشترا سر” حول كتاب “المجموع” بقوله : «إن “المجموع” يصور لنا مجموعة لفقيه شيعي عراقي لم يتدرب الدربة الكافية، وقد استقاه من مصادر سيئة محيطة به، كما أن تعاليمه الخاصة تظهر فيه المواد الغريبة غير الأصيلة المضافة إليه، فهو يضع أمامه الفقه السنّي الموجود في هذا الوقت في ازدهاره الكامل، وإن لم يقدم لنا إلا نبذاً قليلة جدّاً منه»( ).
ويخالف الأستاذ محمد أبو زهرة هذا الاتجاه، ويميل إلى ترجيح نسبة كتاب “المجموع” إلى الإمام زيد، ويشكك في الطعن الموجه إلى “الواسطي” بأن مبحثه الأول هو الاختلافات المذهبية بين فقهاء الزيدية وفقهاء الإمامية، أما فيما يتعلق بالمتن فإن من المؤكد أن “الواسطي” قد توفي قبل تدوين الفقه العراقي بالطريقة المنظمة مما ينفي احتمال التأثر( )…
ومهما يكن من أمر، فإن من المؤكد أن كتاب المجموع – سواء صحت نسبته إلى الإمام زيد أو لم تصح – يعتبر من الكتب الفقهية الأولى التي يعتز بها الفقه الإسلامي بشكل عام والفقه الزيدي بشكل خاص، وسيبقى “أبو خالد الواسطي” الراوي الوحيد لهذا الكتاب العظيم، وإذا كان هذا الراوي قد أدخل عليه بعض التعديلات في شكله وتقسيمه فإن هذا لا ينفي صحة نسبة آرائه إلى الإمام الشهيد الذي يمثل بحق الشخصية العلمية الفريدة في عصره…
ثالثاً : تدوين علم أصول الفقه:
لم يكن علم أصول الفقه معروفاً كعلم متميّز قبل عصر الشافعي، فمن المؤكد أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي150–204هـ، هو أول من دوّن في علم الأصول، وقد دوّن كتابه المشهور ” الرسالة” ليعبّر به عن منهجه الأصولي في استنباط الأحكام…
وهذا لا يعني أن الفقهاء الذين جاؤوا قبل عصر الشافعي لم تكن لهم قواعد أصولية يلتزمون بها في استنباطهم للأحكام، فمن المؤكد أن لكل فقيه قواعده وأصوله التي تعبر عن منهجه الاجتهادي وتلك الأصول هي التي تميّز المناهج الاجتهادية وتجعلها مختلفة ومتباينة. وأن من يتابع بدقة مناهج علماء الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الفقهاء فإنه سوف يجد التزام كل منهم بمنهج متميّز عن غيره، ومن السهل علينا أن نحدد معالم تلك المناهج وأصولها وقواعدها، إلا أن تلك الأصول لم تكن مدونة ولم تكن معروفة كعلم مستقل متكامل كما حدث فيما بعد…
ومن أهم الأسباب التي ساعدت الإمام الشافعي على تدوين قواعده الأصولية: وضوح رؤيته بالنسبة لاستنباط الأحكام، وقد مكنته تلك الميزة من أن ينطلق في تدوينه للقواعد الأصولية ليكون بذلك أول مدوّن لتلك الأصول، وليكون كتابه “الرسالة” أول تدوين لعلم أصول الفقه.
وهناك روايات تاريخية تؤكد أن التدوين في علم الأصول قد ظهر قبل الشافعي على يد القاضي أبي يوسف، يعقوب بن إبراهيم بن حبيب 113 –182 ه، وكان أبو يوسف من أشهر أصحاب الإمام أبي حنيفة ومن أوائل من ألف في الفقه الحنفي، وقد تولى أكبر منصب علمي في عصره، إذ ولاه الخليفة العباسي هارون الرشيد منصب قاضي القضاة، لكي يقوم بتنظيم القضاء والإشراف عليه، وقد رويت عن أبي يوسف كتب متعددة، بعضها وصل إلينا واشتهر مثل “الخراج”، وكتب في الاختلاف بين أبي حنيفة ومعاصريه من الفقهاء. وهناك كتب اندثرت وضاعت، ومن تلك الكتب المفقودة كتاب في “الأصول”( )، إلا أن هذا الكتاب لم يشتهر في عصره، ولم يصل إلينا، والأرجح أن ذلك الكتاب لم يكن كتاب “أصول” بالمفهوم العلمي، ولو كان تدويناً أصولياً على غرار كتاب “الرسالة” للشافعي لانتشر في الأوساط العلمية , وبخاصة وأن مركز أبي يوسف الرسمي يجعل لمؤلفاته مكانة خاصة، ولهذا فإن من المرجح أن يكون هذا الكتاب – إن صحت الرواية عن وجوده – مجرد تدوين لبعض المسائل الفقهية أو لبعض الخواطر الأصولية.
المراحل المختلفة للتدوين:
مما ذكرناه سابقاً تبين لنا أن التدوين قد مر بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى:عصر ما قبل التدوين، ويمتد حتى نهاية القرن الأول الهجري، وهذا العصر إذا لم تبدأ فيه حركة التدوين بشكل واسع فإن من المؤكد أن طلائع التدوين الأولى قد بدأت فيه على شكل فردي، كما أن علماء هذا العصر إذا كانوا يرفضون فكرة التدوين في بدايته، فإنهم ابتدؤوا يتقبّلون فكرة التدوين، ويشعرون بأهمية التدوين وبخاصة بعد أن تشعبت المعارف وكثرت الروايات وأصبح أسلوب الرواية والحفظ قاصرا عن الإحاطة بآراء السابقين وجهودهم.
المرحلة الثانية:عصر نشأة التدوين : ويمتد هذا العصر من بداية القرن الثاني إلى نهايته، وقد شهد هذا العصر الرواد الأوائل الذين حملوا مشعل التدوين من رجال الفكر الإسلامي، في التفسير والحديث والفقه والأصول، من أمثال الزهري، ومالك بن أنس، وزيد بن علي، والشافعي، وأبي يوسف محمد بن الحسن الشيباني، ونستطيع أن نعتبر هذه الطبقة من العلماء هم الرواد الأوائل الذين حملوا مشعل التدوين وعبّدوا طريقه، وحددوا منهجه وأسلوبه…
المرحلة الثالثة :عصر الازدهار التدويني، ويمتد هذا العصر من بداية القرن الثالث إلى القرن الخامس وقد حفل هذا العصر بحركة تدوين واسعة شملت معظم فروع المعرفة وتعتبر هذه المرحلة من أكثر المراحل التاريخية ازدهارا في مجال التدوين وما يتعلق به من تقسيم وتبويب.
إلا أننا في الوقت الذي نقدر فيه أهمية الجهد الذي بذله علماء هذه الفترة التاريخية من حيث حسن عرضهم لآراء العلماء السابقين فإننا نلاحظ أن الحظ البياني لحركة الاجتهاد والنماء قد ابتدأ يوجه إلينا مؤشرات تؤكد أن التحرك العلمي يأخذ مداراً دائريا حول نفسه، مما ينبه الأنصار إلى أن حركة التقليد التي ابتدأت كظاهرة وفاء لآراء الأئمة انتهت بالاكتفاء بتلك الآراء، ومحاولة خدمتها عن طريق التدوين والتخريج والتفريع، وإذا كانت هناك من إضافة فلم تكن تتجاوز حدود الشروح والتعليقات والحواشي التي لا تمس الأصول، وإنما تكتفي ببيان ما خفي من تلك الآراء..
وإذا لم تكن حركة الركود قد بدأت في الفترة الأولى فإنها قد سيطرت على فكر المتأخرين من العلماء وأصبحت منهجا تقليديا متكاملا يحيط نفسه بقبس من القداسة والرهبة، لئلا يتجرأ أحد من العلماء على تجاوز ذلك المنهج التكراري الذي يعتمد على الحفظ الأمين لآثار السابقين، والعكوف على اكتشاف أسرار ما يشيرون إليه في عباراتهم من غوامض يعجز عنها من لم يكن من أهل العزم في هذا الفن…
ونحن اليوم أمام مشاكل اقتصادية وسياسية وقضائية واجتماعية، فجرتها التطورات المعاصرة، وأصبحنا نجد أنفسنا غرقى في وسط بحر متلاطم الأمواج، ومن واجب رجال الفكر الإسلامي أن يتجاوزوا مناهجهم التقليدية التي حالت دون مشاركتهم في أحداث أمتهم، وأن يتمردوا على الحواجز الزجاجية التي نصبت حول مؤسساتهم العلمية لعزلها عن دورها الريادي في المجتمع، وعليهم أن يقدموا لأمتهم تصورهم الإسلامي عن كل مشكلة من المشاكل المعاصرة، من خلال نظرة فكرية تنطلق من منطلق الإسلام، فتطرح البدائل العلمية الممكنة في المجال القانوني والاقتصادي والاجتماعي لكل ما يتناقض مع روح الإسلام…
ومن هذا المنطلق ستكون البداية لمسيرة حضارية متميزة الأسس أصيلة المنطلق تحقق التناسق والتلاحم بينها وبين تراثها الاسلامى وفكرها الذى يعبر عن قضايا شعوبها وتطلعاتهم الى الافضل الذى يضمن لهم مواكبة عصرهم بمنهج اصيل ..

 

إرفاق صورة · الإ

( الزيارات : 11٬007 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *