الانسان ..والكون

الإنسان والكون

الإنسان هو كونٌ كامل ، وهو جزء صغيرٌ جداً من هذا الكون ، ولكنّه يملك في ذاتيته كلّ مقومات الكون ، وذلك بما يملكه من قدرات عقليّة ومشاعر وعواطف وانفعالات ، والكون هو ما يراه الإنسان وما يشعر به ، ولولا الإنسان لما كان الكون يملك كلّ هذه الأسرار ، والكون عظيمٌ بالإنسان الذي يحكمه ، ولا حدود لقدرات الإنسان ، وما اُكتشف حتى الآن هو القليل ، والإنسان هو أداة فهم الكون ، والعقل هو أداة التمييز والمدركات الحسية, وهناك قدرات لم تُكتشَف وأسرار لم تُعرَف ، وكلّ الدراسات العلمية عن العقل والنفس ما زالت عاجزة عن تقديم أجوبة قطعيّة عن أسرار الكون وأسرار الحياة وعجائب الإنسان ، والمعرفة العقلية تعتمد على معايير ماديّة ، أما المعرفة الذوقيّة فليست لها معايير ، ولا حدود لمداركها وآفاقها ، ومن خاض في رحاب المعرفة الذوقية فمثله كمن يخوض في أعماق بحرٍ لا شاطئ له ، وقد تأخذه الأمواج بعيداً عن شواطئ الأمان ، ولذلك وضعت الشريعة مساراتٍ معبدة لكي لا يضلّ الإنسان الطريق ، والذين توغلوا في رياضة النفوس من المفكرين والعباد والزهاد أثرَوا الفكر الإنساني بآراء وتصورات ومشاعر وأحاسيس لم يستطع العقل الإنساني أن يتوصل إليها ، وربما لا يمكنه فهمها واستيعابها ، لأنّها لا تخضع للمعايير الحسيّة ، فلا تُرَى ولا تُسمَع ولا تُلمَس ولذلك رأى هؤلاء أنَّ العقل حجاب  عن الحقيقة ، والحقيقة لا تُدرك بأدوات العقل الحسية ، وإنما تُدرك بقدرات خفيّة يملكها الإنسان في كيانه ، وتكلّم الغزالي عن علم المكاشفة وقال إنّه لم يؤذن لنا بالحديث عنه ، لأنه يعتمد على الأذواق التي يحس بها العباد في خلواتهم التأملية .

وقد اعتمد الفكر الصوفيّ على هذه المعرفة الذوقية ، وركَّز على أهمية المجاهدات النفسية في السلوك الإنساني ، للارتقاء بمستوى المفاهيم الإيمانية ، وأول خطوة في ذلك هو مقاومة النَّفس للتحكم في الإرادة ثم الانتقال بعد ذلك إلى طهارة القلوب من الأمراض التي تمنعها من معرفة الحقيقية ، والحقيقة موجودة في قلب الإنسان وتنطبع في القلب كانطباع الصورة في المرآة إلا أنها قد تُحجب وقد لا تُرى ، وقد تنطبع بطريقة خاطئة إذا كانت المرآة وسخة .

والمعرفة بالله تعالى هي الغاية المرجوة من خلْق الإنسان ، والإيمان بغير معرفة لا يعتبر إيماناً كاملاً ، وهو إيمان عقلي ، وكلّ إيمان لا يمكن أن ينتقل من مرحلة الإيمان الظنيّ إلى مرحلة اليقين إلا باعتماده على الذوق والمعرفة الذوقية ، فالغيبيات لا تُدرك بالأدلة العقليّة لأن العقول تحتاج إلى أدواتها في المعرفة وهي الحواس والمشاهدات والقرائن .

فالكون يتطور مادياً بالعلم والعقل والتجربة ، إلا أنَّ الفراغ الروحيَّ الذي تشعر به الإنسانية يمكن أن يؤدي إلى استثمار هذا التقدم العلمي لتدمير هذا الكون بالمخترعات والسلاح النووي والحروب ، ولكي تتقدم البشرية نحو ترسيخ القيم الإنسانية  يجب عليها تعميق الععاني الروحية ، كالإيمان بالله ومحبّة الخير والأخوّة الإنسانيّة وكرامة الإنسان ومقاومة غرائز النفوس التي تدفع إلى الشرور والآثام ، وهنا تبرز أهميّة الخشية من الله ومحاسبة النفس في تكوين المجتمع الإنساني الذي استخلفه الله على هذا الكون .

( الزيارات : 1٬559 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *