غادة الشام ومحنة الايام

غادة الشام.. ومحنة الايام
تأملت فيما سيكتبه المؤرخون بعد خمسين عاما من الان عن احداث عصرنا ومحنة شعبنا ومسؤولية جيلنا عن حماية عصره وبلده , تاملت فيما سيكتب فيما بعد , فنحن لا نستطيع ان نكتب الحقيقة امّا لاننا لانعرف كل الحقيقة واما اننا لا يمكننا ان نكتب كل ما نعرف , فكل جيل لا يمكنه ان يكتشف اخطاءه الا بعد حين عندما يصبح كل شيء واضحا وعندئذ تكون النفس مستعدة لقبول الواقع كما هو وفهم لغة التخاطب والتغالب بين الاقوياء , وذلك عندما يرفع الستار عمن يقف خلف الاستار ويحرك الابطال , ما اقسى الحقيقة عندما يكتشف الانسان انه كان ضحية ناصح مريب او صديق كان يخدعه ويصفق له او جار كان يستغل سذاجته لتحقيق هدف يريده لنفسه بانانية بغيضة , عندما تتوقف العاصفة وتزول الغيوم وتطلع الشمس بعد ليلة مظلمة عابسة مخيفة يكتشف الانسان حجم ما خلفته تلك العاصفة من خراب ودمار , ويخرج من كان مختبئا فى زوايا مظلمة ليروى لمن ينصت اليه أهوال ما رآه من نافذه مخبئه من مشاهد وكوارث ودماء واشلاء , ويبحث كل انسان عن بقايا بيت كان يملكه واشلاء اسرة كان يحبها و اشياء متناثرة من متاعه كان يحتفظ بها ويسعد باقتنائها , ما اقسى مشاعر ذلك الانسان البائس المستضعف وهو يرى كل شيء كان يملكه قد اصبح فى مهب الرياح متناثرا على الشاطئ الممتد المنعزل الموحش , سيذرف دما عما فقده من مقتنيات الطفولة من ذكريات وطن وقع اغتياله فى واضحة النهار من غير ان يذرف العالم دمعة حزن عليه , ولاخيار له الا ان يمسح دموعه وينهض من كبوته متثاقلا محطما يائسا يبحث عن امل فى ابتسامة خجولة قد لا يجدها , فما وقع قد انتهى امره وجفت الاقلام , والكل قد غادر والركب قد ارتحل الى المكان الذى جاء منه حاملا معه ذكريات جريمة قد ارتكبت بظلم لا مثيل له بحق شعب لا يستحقها , وبقي المواطن المكلوم المجروح الجائع المقهور الخائف فى ارضه وحيدا غريبا كئيبا لا مكان لديه لكي يذهب اليه الا الارض التى ولد فيها وعاش فوق ترابها , ولا يمكنه ان يغادرها ولو اصبحت حطاما لانها ارضه ووطنه وانتماؤه وكرامته وهويته ولو بقيت جرداء عارية خالية من كل ما كان فيها من اشجار وازهار وانهار ..
سيرحل الركب الوافد من شرق وغرب يوما بما حمل معه من كرامة شعب ودم شهداء مظلومين ودموع اباء وامهات فقدوا فلذات اكبادهم من غير ذنب ارتكبوه , لا يهمنا من اين جاء ومن يقف خلفه , كل الغرباء سواء وكلهم مسؤولون امام الله والتاريخ , وسوف يظل الوطن وطنا لمن احبه وعاش فوق ترابه.. ذلك المواطن الاعزل المقهور المستذل المستضعف هو وارث هذه الارض فلن يرحل عنها ابدا , ستذكّره قبور الراحلين من اهله بمن رحل منهم وستخاطبه بهمس ان يعيد بناء ما تهدم من تراث الاجداد ومجد الاجيال ..
سيكتب المؤرخون يوما سجل ما حدث فى بلد كان تاجا فى جبين كل الاخرين , وسوف يسجلون فى مدوناتهم سوء ما فعله الغدروالحقد والجهل والانانية والطائفية البغيضة بفتاة الشام التى كانت مفخرة اسرتها جمالا ونضارة وحضارة واناقة فاعطت من نفسها للجميع بابتسامتها المحببة فأحالها الغدر والانانية والجهل الى هيكل عظمي لم يبق منه سوى بقايا حياة شاحبة حزينة .. ما اقسى ما فعله الحقد بك يابلدى , لقد ارادوك ان تكونى الضحية المحببة التى يلتف الكل حول جثمانها الممدد فوق الاعشاب ويحمل الكل قميصها الملطخ بالدماء باكيا عليها لتحقيق ما يريد لنفسه منها ولوبخرابها ودماء شعبها , غدا سيجتمعون بعيدا عنك يابلدى لكي يتفاوضوا باسمك وعليك , ويقتسموا اشلاءك ويكتبوا يدماء شهدائك ميثاق التوافق على اقتسام ما بقي منك من بقايا متناثرة لن يتمكن ايّ احد ان يعيد ها الى ما كانت عليه من قبل ..
لك الله يافتاة الشام ..كم قسوا عليك , فكنت بين بعيد يترصد بك ويطمع فىك ويريد ان يستحوز عليك , وقريب يريد امتلاكك غيرة منه عليك لكيلا تكونى لغيره ابدا , فادموا وجهك الجميل , وشوّهوا ملامحك الملائكية محبة بك وطمعا فيك .. وياليتهم ما أحبوك وما تعلقوا بك ..لك الله ياغاليتى كم تدفع غادات النساء من ثمن باهظ لجمالهن وابتسامتهن ولطفهن , كم من غادة شوّه وجهها محب جاهل عندما يئس من امتلاك قلبها والاستيلاء على عواطفها ..

( الزيارات : 1٬423 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *