لا اجتهاد لغير أهل الاختصاص

يجب أن تُراعَى الثوابت العلمية في مجال الأحكام الفقهية ، فالحكم الفقهي الذي بني على الظن أو الأعراف المتداولة مثل موضوع حمل المرأة وأدلة الإثبات والأنساب وكلّ ما بني على الظنّ من الأحكام ، وذلك يساعد على معرفة الحقوق بطريقة أفضل ، ويعتمد في ذلك على أهل الاختصاص والخبرة ، فالنصوص تضع الأحكام العامة والثابتة التي تحسم الخلاف وتحمي الحقوق ، وبخاصة في موضوع النسب والحمل وتأخذ بالأحوط ، فإذا تمكن العلم من معرفة الحقيقة بطريقة قاطعة لا لبس فيها فيجب الثقة برأي العلم ، ولا يعتبر هذا مخالفاً للنص ، وإنما هو تحقيق للغاية المرجوة من الحكم وهو حفظ الحقوق .

ويحاسب الطبيب على خطئه في العلاج والدواء والعمليات الجراحية والتخدير إذا أدى الخطأ إلى موت المريض ، فالخطأ الثابت الناتج عن تعمدٍ وتقصيرٍ وإهمالٍ يثبت المسؤولية ، وأهل الاختصاص هم الذين يثبتون هذا الخطأ ، وكلّ خطأ يتحمل صاحبه المسؤولية ، كمن يبني عمارة ثم تسقط لنقص في مادة الحديد أو الإسمنت أو في الأعمدة أو الهياكلّ ، وكلّ إهمال أو تقصير يؤدي إلى ضررٍ بحياة الآخرين يوجب المسؤولية ، كالحريق الناتج عن الإهمال في المصانع .

ومن أنشأ مؤسسةً نوويةً لأجل الطاقة أو لأيّ هدف سلميّ أو إنتاجي يُعتبر مسؤولاً عن الإشعاع النووي الضارّ الناتج عن إهمال أو تقصير في اتخاذ إجراءات الحماية والحيطة ، وتتحمل المصارف المالية مسؤولية حماية أموال المودعين من السرقة والحريق والاحتيال والإفلاس إذا كان كلّ ذلك بسبب الإهمال والتقصير ، ويتحمل المقصر المسؤولية الكاملة عن تقصيره وإهماله كما يتحمل الشريك مسؤولية الخسارة الناتجة عن الإهمال والتقصير ، ويحتكم في ذلك إلى أهل الاختصاص .

والأدلة الشرعيّة تضع القواعد العامة للمعاملات العادلة ، والأحكام الثابتة التي لا تحتمل التغيير ، فيما يتعلق بالأسرة والمعاملات والعقود والاتفاقات وتُحرّم كلّ أنواع المعاملات الجائرة والظالمة كتحريم الربا والاحتكار والغش وأكلّ أموال الناس بالباطل ، واحترام الإرادة في كلّ العقود ومنع الإكراه وتحريم الاستغلال ، إلا أنّ التطبيقات العملية لهذه المبادئ تحتاج إلى الاحتكام لأصحاب الخبرة والاختصاص ، وإلى الأعراف السائدة التي يمكن الاعتماد عليها في معرفة الأحكام الفقهية ، فالأطباء هم أقدر النّاس على معرفة الأخطاء الطبية ، والمهندسون هم أعرف الناس بأخطاء البناء والعمران ، والتجار هم أعرف الناس بمعايير الأسعار وأنواع الاحتكارات وموازين المعاملات العادلة والتجاوزات التي تُشكلّ خروجاً عن السلوكية التجارية العادلة .

وهذه المعايير تتغير بحسب المكان والزمان والحكم الفقهيّ يبُنىَ  على ما يحقق الثوابت الشرعية في حماية الحقوق  .

تكوين شخصية المجتهد

كثيراً ما نستعمل لفظة الاجتهاد في أحاديثنا العامة بمفهومها اللغويّ العام ، أو بالمفهوم الفقهيّ للتعبير عن الجهد المبذول من قبل العالم المتخصص للوصول إلى الحقيقة المُرادة وبخاصة في مجال استنباط المعنى المراد بالنص ، أو الدلالة اللغوية التي يفيدها النص ضمن الضوابط التي تساعد على الفهم وتمنع الانزلاق نحو الآراء والاحتمالات البعيدة ، وكلّ إنسان يجتهد ولو في أموره الخاصة والصغيرة ، وأداة الاجتهاد هي اللجوء إلى العقل للاستعانة به في الوصول إلى الاختيار الأفضل ، أو المعنى الأقرب ، وأول شرط في الاجتهاد أن يكون الإنسان يملك القدرة عليه ، عقلياً وعلمياً ، وليس كلّ الناس سواء من الناحية العقلية أو الناحية العلمية وهناك شرط آخر يساعد على الفهم وهو الثقافة العامة والمعرفة الشمولية في القضايا المطروحة للاجتهاد .

فالاجتهاد جُهدٌ عفويٌّ وتلقائي إلا أنه يُحتاج على شخصية تملك مؤهلات ذاتية بالإضافة إلى المعرفة العلمية ، ولا يمكن للمجتهد أن يكون بعيداً عن قضايا المجتمع وإدراك المصالح الاجتماعية ومتطلبات الواقع ، والمجتهد الذي ينعزل عن مجتمعه لا يمكنه فهم النصّ بالصورة التي تحقق الغايات المرجوة ، وكلّما اتسعت رؤية المجتهد اتسعت آفاق رؤيته في الفهم ، وكلّ معرفة جديدة تساعد المجتهد على الفهم الأفضل ، فالأحكام لا تنفصل عن غاياتها المرجوة منها ، فالعمل الاجتهادي جهدٌ منظمٌ ويحتاج قدرات عقلية متميزة وخبرات واسعة في المجال الذي يريد الاجتهاد فيه ، والاجتهاد الجماعي يوفر شروطاً أفضل للرأي السليم ، ولذلك كانت الشورى في الحكم للاجتهاد في اختيار المواقف السليمة ، ولا بد من مراعاة الظروف المكانية و الزمانية والمصالح الاجتماعية والغايات المرجوة ، ولا يمكن للنص وحده أن يوصلنا إلى الاجتهاد الصحيح ، ولا بد من فهم القضية الاجتهادية بطريقة سليمة ، وكلّما اتسعت مجالات العلم وكثرت يقينيّاته ساعدنا على الفهم ، فما يُقرره العلم بطريقة قاطعة يجب أن يُحترم ويُعتمد في المسائل الفقهية ، وينبني الرأي الفقهي على ثوابت العلم في القضايا التي تحتاج إلى العلم وإلى المعرفة الواقعية في المعاملات المالية والنقديّة وتحديد المواقف والمفاهيم ، ولا يقين في القضايا الاجتهادية وإنّما هي مقاربات للتوصل إلى الأهداف التي أرادتها الشريعة ، لمنع الظلم في المعاملات ، وحماية الطرف الضعيف في مجال الحقوق ، واحترام الإرادة الإنسانية ، وكلّما اتسعت ثقافة المجتهد اتسعت آفاق رؤيته ، واقترب أكثر من الفهم الشامل ، وليست الغاية التشديد أو التخفيف ، وإنما الغاية هي تحقيق الغايات المرجوة وأهمها حماية المصالح وإقرار العدالة في المجتمع ، وحماية الحقوق المشروعة.

( الزيارات : 1٬842 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *