مدى حاجتنا إلى التربية الروحية

ذاكرة الأيام

ذكريات الأيام..أثر التربية الروحية في ثقافتي

كان أثر السيد النبهان طيب الله ثراه عميقاً في تكوين النزعة الروحية في كياني بالصورة الصافية الراقية لها البعيدة عن الانزلاقات التي اشتهر بها ااتباع الصوفية في عصور التخلف ، بالرغم من وضوح ميلي إلى الاستنتاج العقلي والاعتماد على البراهين المادية… وكنت أحب العقل وأعجب به، وما زال يغلب علي ذلك، فالعقل هو سراج ينير الطريق، ولا يجوز أبداً إغفاله وتجاوزه، وهو دليل على وعي في التكوين وقدرة على التمييز، والأمم تنهض بعقولها والثقافة هي جهد عقلي، والحضارة المادية هي ثمرة لعطاء العقول.. والعقل هو أداة التمييز وأداة التكليف، ولا يجوز لثقافة أن تقلل من دور العقل في اكتساب المعرفة، والذين اغفلوا دور العقل في المعرفة الإنسانية ضلوا الطريق والتبست عليهم الدروب، لأنهم لم يميزوا بين الحق والباطل.

والمناهج العقلية هي الأكثر عطاء، ولا تستقيم المعرفة إلا بالاحتكام إلى العقل، والاستنارة به، وثقافة الإسلام لا تنهض إلا بجهد العقول وباجتهادات عقلية رشيدة، والمعرفة الإنسانية هي ثمرة جهود العقول البشرية المؤتمنة على القيم الإنسانية والمعارف التي تنير طريق الإنسان في بحثه عن الأفضل والأكمل.

والفكر الإسلامي لا ينهض إلا بالعقل وبالاعتماد عليه والثقة برؤيته، والعقول لا تضل في مجال المعرفة الإنسانية، إلا أن العقول لا تدرك إلا ما كان داخلاً في إطار المدركات الحسية، والعقل يهدي إلى الحق ولكنه لا يمد القلوب بالمعرفة التي تؤدي إلى الطمأنينة والسكون، فذلك أمر آخر، يخص عالم القلوب.

ألا إن العقول تحتاج إلى غذاء روحي يقلم أظافرها لئلا تقتحم بموازينها حصون المدركات الكونية المتعلقة بالقضايا الغيبية، فتلك أمور لابد فيها من صفاء روحي وإشراقات خفية، ولابد من ذلك التوازن بين القوة العقلية التي زود بها الإنسان لاستقامة شؤون الخلق بنور التمييز بين الأشياء المدركة وبين القوة الروحية التي تهدىء من حدة المعايير العقلية الجافة لكي تكون أكثر إنسانية وارق طبعاً وأقل قسوة، فالحياة لا تنقاد بقوة المدركات العقلية وإلا وقع التصادم بين الثقافات والمعتقدات والأفراد، وإنما تنقاد بسيطرة القيم الإنسانية التي تحض على الخير والتسامح والاعتراف بالآخر، وهذه تحتاج إلى التربية الروحية التي ترتقي بمستوى المدركات العقلية إلى مستوى الوعي بحقيقة الإنسان وضرورة احترام إنسانيته لأنه من خلق الله، فليس هناك في الكون تفاوت بين الإنسان وأخيه الإنسان، وإنما هناك أخوة إنسانية رائعة في تميزها عن المخلوقات الأخرى…

التربية الروحية ضرورية لمواجهة أزمة التصادم بين الإنسان والآخر، وبين الأمم والشعوب والحضارات، وعلى مستوى المجتمع الواحد بين الرجل والمرأة والغني والفقير والحاكم والمحكوم، وغاية التربية الروحية هي إيجاد ذلك التواصل الإنساني لمواجهة الشر في المجتمع والقضاء على الحروب والجرائم والتفاوت المذلّ بين الشعوب والتمييز العنصري. وليست التربية الروحية هي ذلك الإنزلاق إلى المجهول الذي ترفضه العقول، وليست تلك السلوكيات المنحرفة في الطقوس الدينية، وليست تلك المواجيد المفتعلة التي تدل على جهل أصحابها، وإنما هي منهج إنساني رفيع المستوى للارتقاء بمستوى الإنسان إلى حيث الفهم العجيب لمعنى الحياة والسمو بالسلوك والتعلق بالكمال، ومواجهة قوى الشرّ في المجتمع والقضاء على الصراعات الدينية والقومية والطائفية والطبقية، لتحقيق مجتمع المحبة والألفة والتعايش والتساكن، ومجتمعنا يحتاج إلى هذه التربية الروحية لكي يتميز عن غيره من المجتمعات بصفاء النفوس وتزكيتها وطهارة القلوب ونقائها، ولا نريد التربية الروحية لكي نحلق في الأوهام الضارة، ولا نريدها لأجل الانشغال بها عن عمارة الكون بأسباب الحياة، نريد التربية الروحية لكي نحترم إنسانية الإنسان ولكي نوفر له أسباب الكرامة المادية والمعنوية، نريد الروحية التي نقاوم بها طغيان الأقوياء الذين يذلون المستضعفين بقوتهم، ونريدها حتى تنمو ضمائر البشر فينطلق من أعماق الذات الإنسانية صوت الحق يدعو إلى الخير والفضيلة في المعاملات الإنسانية.

( الزيارات : 1٬884 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *