مستقبل العالم الإسلامي بين التخطيط والارتجال

مستقبل العالم الإسلامي

بين التخطيط والارتجال

العالم الاسلامي

 

ندوة المحاضرات – رابطة العالم الإسلامي – موسم حج 1387 هـ

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

أيها السادة:

لو أردنا أن ندرس أحوال العالم الإسلامي، لوجدنا أنه يعيش اليوم في محنة قاسية، بسبب الرواسب التي تخلفت عن الماضي، بعد فترة من الصراع كبيرة بين الإسلام وأعداء الإسلام، استخدم فيها أعداء الإسلام جميع الأسلحة المادية والمعنوية لشلّ حركة العالم الإسلامي، والقضاء على مقوماته الحضارية.

ويحسن بنا أن نعود قليلاً إلى الوراء، لنرى التطورات التي حدثت في العالم الإسلامي خلال القرون الماضية، ثم نعقب ذلك بذكر المخططات الحديثة التي لجأ إليها أعداء الإسلام، لإضعاف الإسلام في نفوس المسلمين.

الهجوم الصليبي على العالم الإسلامي:

لو عدنا إلى التاريخ لوجدنا أن الفتح الإسلامي في صدر الإسلام كان مثار الإعجاب والدهشة، وفي الوقت ذاته ترك في نفوس أعداء الإسلام حقداً دفيناً وألماً شديداً، ولم يظهر هذا الحقد في ذلك الحين بسبب قوة المسلمين ولكنه تجمّع في شحنات كبيرة فكانت نتيجته الهجوم الصاعق الذي قامت به أوروبا على العالم الإسلامي في تسع حملات مركّزة اتجهت إلى شواطئ الشام وفلسطين ومصر وتركيا من عام 1098 إلى عام 1251 وهي ما يُسمى بالحروب الصليبية.

نتائج الحروب الصليبية:

ولم تكن نتيجة هذه الحروب متوقعة لأعداء الإسلام، لأنهم ظنوا أنها سوف تقضي على الإسلام بشكل نهائي، لتحقق الانتصار الباهر للكنيسة المسيحية، وكانت النتيجة أن هذه الحروب كانت ناقوس الخطر الذي دَقَّ في أرجاء العالم الإسلامي يُعلِن الهجوم الصليبي على الإسلام، فانتبه النيام بعد نومٍ عميق، وتوحّد الناس بعد فرقة طويلة، ووقفوا في وجه العدوان، يدافعون عن بلادهم باسم العقيدة، وباسم الإسلام.

وكانت النهاية أن انخذل العدوان ووقع قادة الجيوش الصليبية أسرى بيد المسلمين واندحر البقية يهيمون على وجوههم وهم يلعقون أصابع الندم، بعد أن تبيَّنَ لهم بشكلٍ قاطع وجازم أن الإسلام يملك من إمكانيات القوة ما يدفع به جميع الأخطار التي يتعرض لها، ولو كان في أسوإ الظروف، وأدركوا أنَّ سِرَّ قوة المسلمين هو الإسلام، وأنهم لن يستطيعوا الوصول إلى المسلمين إلاَّ بعد أن يجرّدوهم من مصادر قوتهم.

ظهور الدولة العثمانية والزحف الأوروبي عليها:

وظهرت الدولة العثمانية بعد انتهاء الحروب الصليبية، فاستطاعت أن تجمع الشعوب الإسلامية في دولة واحدة، ثم بدأت تتوسع على حساب البلاد الأوروبية حتى دقت أبواب فيينا، فانتشر الفزع والرعب في نفوس الأوروبيين، وعندئذٍ استجمعوا قواهم ووحّدوا جيوشهم، وحاربوا الدولة العثمانية وهي على أبواب “فيينا”، واستطاعوا أن يردوها عن تلك المدينة المحصورة في معركة (سان جوتارد) عام 1668، ثم تتالى الزحف الأوروبي على الدولة العثمانية في الداخل والخارج عن طريق الامتيازات الخاصة، والتدخل في الشؤون الداخلية، وإثارة الصراع الطائفي والقومي بين سكان الدولة.

الصراع بين الدول الاستعمارية على مراكز النفوذ:

ومن حسن الحظ أن الصراع على النفوذ كان قوياً بين الدول الأوروبية، وبصورة خاصة بين فرنسا وإنكلترا. ففي عام 1798 أراد (نابليون بونابرت) أن يقيم امبراطورية واسعة في الشرق، فنزل في مصر وبقي سنوات فيها، ولكنه خرج ليترك المنطقة للنفوذ الإنكليزي الذي كان يريد أن يحتفظ بمصر ليؤمن طريق الهند، وتأكد هذا النفوذ بعد حفر قناة السويس إلى أن تمَّ احتلال بريطانيا لمصر عام 1882.

ولكن الصراع بين الدولتين الكبيرتين لم يطل طويلاً إذْ سرعان ما أدركت هاتان الدولتان أن مصلحتهما تقتضي منهما أن يتفقا على مناطق النفوذ في العالم العربي والإسلامي. وكانت نتيجة ذلك أن احتلت فرنسا كلاً من الجزائر وتونس والمغرب، ثم سوريا ولبنان بعد الحرب العالمية الأولى، وقامت بريطانية باحتلال مصر والسودان ومناطق الخليج، ثم العراق والأردن وفلسطين.

وهكذا، أصبحت البلاد العربية خاضعة للاحتلال الفرنسي والإنكليزي.

ما هي النتيجة؟

هذا مجمل لتاريخ بلادنا؛ لتاريخ الهجوم الصاعق على عالمنا، الهجوم المركّز الذي قامت به أوروبا وأرادت به تدمير هذه البلاد، فماذا كانت النتيجة؟

إن التاريخ يحدثنا عن البطولات التي شهدتها هذه البلاد، تلك البطولات التي وقفت أوروبا تتحدث عنها بإعجاب، ولكنها مع الأسف لم تكن منظمة ولم تكن مخططة، بل كانت ردود فعل عاطفية تحركها العقيدة ويقودها رجال العلم والدين.

وقامت في ذلك الحين حركات فكرية تجديدية كانت تدق ناقوس الخطر لتوقظ النيام، هذه الحركات انطلقت من المساجد باسم الدين وباسم العقيدة كالدعوة الوهابية في نجد، والدعوة السنوسية في ليبيا، والدعوة المهدية في السودان، وثورة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في مصر، ثم اشتعلت بلاد الشام والعراق بموجة من الثورات المتتالية التي انطلقت من كل ميدان، تندد بالمعتدين وتنزل بهم الموت والفناء.

الغزو الصليبي في العصر الحديث:

أيها السادة:

قد تتساءلون الآن، وقد يعتقد بعضكم أن الهجوم على العالم الإسلامي قد توقف في العصر الأخير بعد أن نالت البلاد العربية والإسلامية استقلالها الكامل.

ولكن الواقع -أيها السادة- أن الهجوم لم يتوقف في لحظة من اللحظات، وهو الآن أعنف مما كان، فهناك قوى تعمل في الخفاء للقضاء علينا نهائياً ونحن لا نشعر بها.

كانوا في الماضي يشهرون السلاح فنشهر في وجههم السلاح، واليوم يمدون لنا يداً رقيقة ناعمة ولكنها سامّة، يداً تحمل الموت والفناء والدمار لعالمنا ولبلادنا ولعقيدتنا، ولكل ما نحمل من مقومات الحياة.

أخطار الحركة التبشيرية:

فباسم العمل وباسم الثقافة تؤسَّس في بلادنا دور التبشير التي تخدم مصالح الدول الاستعمارية المعادية للإسلام، الدول التي قادت الحروب الصليبية في يوم من الأيام لتقضي على الإسلام في دياره. تلك الدور تحتل مركز الصدارة من مؤسساتنا التعليمية وتدخل إليها الفئة المختارة من أبنائنا وشبابنا يتعلمون منها ما يضرهم ولا ينفعهم ويتخرجون منها وقد حملوا أسوأ فكرة عن دينهم وعقيدتهم.

والهدف الرئيسي الذي تسعى إليه الحركات التبشيرية في العالم الإسلامي هو إيجاد شخصيات مسلمة تتبنى الأفكار والمبادئ المعادية للإسلام. لأن تلك الشخصيات ليست مجالاً للطعن بها، ولأن كلامها أقرب إلى النفوس وأبعد عن الشبهة، وكثيراً ما تتبوأ مثل هذه الشخصيات مراكز القوة والحكم في البلاد. وعندئذٍ يستطيع دعاة التبشير أن يحققوا عن طريق هؤلاء ما يريدون دون أن يشعر بهم أحد.

ومن أهم المؤسسات التبشيرية الموجودة في العالم الإسلامي الجامعات الأمريكية الموجودة في كلٍّ من بيروت والقاهرة وحلب واستانبول وبغداد بالإضافة إلى الجامعة اليسوعية الموجودة في بيروت.

الجامعة الأمريكية تعترف بأهدافها:

ويحسن بنا أن نطلع على منشور أصدرته الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1909 يرد بكل وقاحة على احتجاج الطلاب المسلمين الذين أضربوا عن الدراسة بسبب إجبارهم على الدخول يومياً إلى الكنيسة للصلاة، ويحتوي هذا المنشور على ما يلي:

“إن هذه كلية مسيحية، أسست بأموال شعب مسيحي، هم اشتروا الأرض، وهم أقاموا الأبنية، وهم أنشأوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء، ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده، فتعرض منافعه الحقيقية على كل تلميذ، وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب عليه أن يعرف مسبقاً ماذا يطلب منه”.

وأعلن مجلس الأمناء في الكلية في هذه المناسبة ما يلي:

“إن الكلية لم تؤسس للتعليم العلماني ولا لبثّ الأخلاق الحميدة، ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة وأن تكون مركزاً للنور المسيحي وللتأثير المسيحي، وأن تخرج بذلك على الناس”.

الهدف الرئيسي للعمل التبشيري هو سلب الفكر الإسلامي من عنصر القوة:

ويجدر بنا أن نتساءل: ما هو السبب الذي دعا تلك الدول للإنفاق على هذه المؤسسات؟ هل يريدون من ذلك نشر التعليم فقط؟ طبعاً لا. فالهدف الرئيسي لهذا العمل أكبر وأعمق مما يتصوره مَن يُحسنون الظن، ويتضح هذا الهدف من خلال ما أفصح عنه القس “كالهون سيمون” بقوله:

“إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السود، وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية، لذلك كان التبشير عاملاً هاماً في كسر شوكة هذه الحركات، ذلك لأن التبشير يعمل على إظهار الأوروبيين في ثوبٍ جديد جذّاب، وعلى سلب الحركة الإسلامية من عنصر القوة والتمركُز فيها”.

مبشّر يدخل الإسلام:

ويحسن بنا أن نرجع إلى كتاب (المبشّرون والمستشرقون في العالم العربي والإسلامي) الذي قام بتأليفه إبراهيم خليل أحمد الذي أُعِدَّ ليكون مبشّراً ومسؤولاً عن الحركة التبشيرية في مصر.

وفي صدر كتابه تحدث عن حياته بأنه تعلم في المدارس المسيحية حتى حصل على شهادة الماجستير في العلوم اللاهوتية ومارس التدريس في كلية اللاهوت في مصر، وكان له نشاط تبشيري واسع، مما دعا الإرسالية التبشيرية الألمانية والسويسرية لانتدابه أميناً عاماً لها.

ثم تكلم عن نقطة التحول في حياته التي جعلته يعتنق الإسلام، وذلك عندما كان يُعِدّ رسالة علمية ليحصل بها على درجة الدكتوراه في الفلسفة واللاهوت، ويقول في ذلك:

“أردت الهجوم على الإسلام بمهاجمة القرآن الكريم، ويشاء الله أن يقهرني بالقرآن”.

فدخل في الإسلام وكتب كتاباً يفضح فيه الأساليب الاستشراقية والتبشيرية التي يتبعها علماء التبشير والاستشراق في عالمنا العربي والإسلامي.

الفرق بين الحركة التبشيرية والحركة الاستشراقية:

وقد وصف هذا المبشّر الحركة التبشيرية والاستشراقية بقوله: “إن التبشير والاستشراق كليهما دعامة الاستعمار في الشرق الإسلامي. كلاهما دعوة إلى توهين القيم الإسلامية والغضّ من اللغة العربية الفصحى وتقطيع أواصر القربى بين الشعوب الإسلامية والتنديد بحال الشعوب الإسلامية الحاضرة والازدراء بها في المجالات الدولية العالمية”.

والتبشير والاستشراق في ذلك سواء، والفرق بينهما هو أن الاستشراق أخذ صورة البحث العلمي، وادّعى لنفسه الطابع العلمي الأكاديمي، بينما بقيت دعوة التبشير في حدود مظاهر العقلية العامية الشعبية.

وقد استخدم الاستشراق الكتاب والمقال في المجالات العلمية، وكرّس التدريس في الجامعة والمناقشة في المؤتمرات العلمية العامة، بينما سلك التبشير طريق التعليم المدرسي في دور الحضانة والمراحل الابتدائية، كما سلك سبيل العمل الخيري في المستشفيات ودور الضيافة والملاجئ ودور اليتامى.

ثم أكد بكل صراحة أن البلاد العربية والإسلامية في يقظتها الحالية تتعثر في خطاها نحو التماسك الداخلي بسبب الرواسب التي تخلفت عن التبشير والاستشراق، وبسبب آخر له وزنه وأثره، وهو ضعف المواجهة التي يلقاها في البلاد الإسلامية.

شخصيات استشراقية وتبشيرية:

واسمحوا لي أيها الأخوة أن أعرض لكم بعض الشخصيات التبشيرية والاستشراقية التي لعبت دوراً كبيراً في عالمنا الإسلامي.

أولاً- صمويل زويمر:

يعتبر “صمويل زويمر” رئيس المبشرين في الشرق الأوسط منذ أوائل القرن، وهو من أجرأ المبشرين على الإسلام، عاش فترة من الزمن في البلاد الإسلامية وعقد عدة مؤتمرات تبشيرية في كلٍّ من القاهرة والهند والقدس، وتولى تحرير مجلة العالم الإسلامي، وله عشرات الكتب عن الإسلام حاول فيها أن يشوّه الإسلام عن طريق إلقاء الأضواء على بعض الشبهات التي يضعف أمامها بعض الناس.

هدف التبشير في رأي زويمر هو التنكُّر للقيم الإسلامية:

اعترف زويمر في تقريره الذي قدّمه عام 1911 إلى المؤتمر التبشيري الذي عقد في الهند أن الإسلام بدأ يتنبه لحقيقة موقفه من الحملة عليه ويشعر بحاجته إلى تلافي الخطر عن طريق إفراغ العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول.

وكانت كتاباته ترمي إلى إثارة الشبهات حول إمكانية مجاراة تيار الحضارة مع الاحتفاظ بمبادئ القرآن الكريم. وكان يرى أن اتساع نطاق الحضارة من شأنه أن يقضي على الإسلام، وأعلن في بعض كتاباته أن هدف التبشير ليس إدخال المسلمين في المسيحية، وإنما إثارة الشبهات أمامهم ليحتقروا أمتهم وليتنكّروا لقيمهم الأساسية وليصبحوا ملحدين إباحيين.

الخطة التدميرية لنسف العالم الإسلامي:

وفي عام 1924 كشف زويمر عن خطة التبشير الجديدة في المؤتمر التبشيري الذي عُقِدَ في القدس. وهذه الخطة تعتمد على الأساليب الخفية الحتمية عن طريق المناهج والصحف لإثارة الشبهات حول قضايا الدين واللغة والتاريخ، وقال في ذلك المؤتمر موجهاً كلامه للمبشرين:

“لقد صرفنا من الوقت شيئاً كثيراً، وأنفقنا من الذهب قناطير مقنطرة، وألّفنا ما استطعنا أن نؤلّف، ومع ذلك كله فإننا لم ننقل من الإسلام إلاّ عاشقاً بنى دينه الجديد على أساس الهوى”.

وبعد أن اعترف بفشل الحركة التبشيرية دعا إلى إخراج المسلمين من دينهم فقط دون أن يطالبوهم بالدخول إلى المسيحية لأن عملية الهدم في رأيه أسهل من عملية البناء.

ثانياً- كرومر والمخطط الاستعماري:

يُعتبَر “افيلنج يارنج كرومر” وهو المندوب السامي البريطاني في مصر بعد الاحتلال البريطاني لها عام 1882 من كبار دعاة تغريب الفكر الإسلامي لتركيز النفوذ الاستعماري في الشرق الإسلامي. وقد ظهرت آراؤه في كتابه “مصر الحديثة” الذي عرض فيه للمخطط الذي يراه للقضاء على الإسلام، ويتمثل هذا المخطط بما يلي:

1- إثارة الشبهات حول الإسلام عن طريق تأكيد منافاته للمدنية.

2- حقن عقول الناس بأن الطريق إلى الحضارة لن يكون إلاّ بترك الإسلام لأنه سبب التخلف الذي يعاني منه المجتمع الإسلامي.

3- إلقاء الأضواء الساطعة على بعض المشاكل الموجودة في العالم الإسلامي لإظهارها بمظهر سيء مع إلحاق سبب ذلك بالإسلام.

وقد استطاع “كرومر” خلال وجوده في مصر أن يوجد اتجاهاً فكرياً معادياً للإسلام يحقق مصالح الاستعمار في المنطقة، ويقوم هذا الاتجاه على أساس عزل البلاد العربية والإسلامية عن بعضها البعض، وظهرت في أيامه بعض الاتجاهات التي دعت إلى الإقليمية الضيقة منها: مصر للمصريين، ومصر فرعونية وليست عربية مسلمة.

ومن جملة آرائه الدعوة إلى إلغاء اللغة العربية الفصحى، والاعتماد على اللغة العامية، ليقطع الصلة بين ماضي هذه الأمة وتراثها، وبين حاضرها الذي تعيش فيه، ولا نزال حتى اليوم نجد رواسب تلك الأفكار تنطلق بين وقتٍ وآخر، تنادي بإلغاء اللغة الفصحى والاعتماد على العامية، لتأكيد النزعات الإقليمية، ولإيجاد لغات عربية محلية.

ثالثاً- جولد زيهر وآراؤه في الشريعة الإسلامية:

“جولد زيهر” مستشرق يهودي درس الإسلام في سوريا على يد الشيخ طاهر الجزائري، ثم رحل إلى مصر ودرس الإسلام على يد شيوخ الأزهر، واشتهر من خلال كتابه “العقيدة والشريعة في الإسلام”، وهو الكتاب الذي حمل فيه على الإسلام باسم البحث العلمي، وباسم البحث العلمي الحر حرّف النصوص واختلق الأكاذيب.

حاول جولد زيهر أن يصوّر للناس أن الشريعة الإسلامية هي من صنع الصحابة والتابعين، وأن الصحابة هُم الذين وضعوا السنّة النبوية، وادّعى أن الفقه الإسلامي مُستمَدّ من القانون الروماني.

ولما أراد أن يطعن بالمصدر الأول من مصادر الشريعة وهو القرآن حاول أن يبيّن للناس أن ابن عباس وهو من أكبر علماء التفسير كان يأخذ تفسير القرآن من علماء اليهود والنصارى. ومن المؤسف أن بعض المؤرخين المسلمين تأثروا بآراء جولد زيهر ونقلوا بعض أفكاره.

الإسلام هو السد المنيع في وجه الحركات المعادية:

أيها السادة..

لا حاجة بنا إلى الرد على هؤلاء المستشرقين والمبشرين، فلقد تصدى للرد عليهم علماء أفاضل، فنّدوا مزاعمهم، وكشفوا عن أهدافهم، وأوضحوا أن الدافع لهم ليس هو البحث العلمي كما يدّعون، وإنما هو الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين.

 ولن يُرضيهم أبداً إلاّ أن يتخلى المسلمون عن دينهم ليكونوا مُلحدين، وهم يعرفون جيداً أن أكبر خطر يهدد المصالح الأجنبية والأفكار الإلحادية في بلادنا هو الإسلام لأنه السد المنيع والجدار الحصين الذي تنهدم على أسواره جميع مخططاتهم الإجرامية، وإننا شعب مسلم نعتز بالإسلام ونؤمن بأن حياتنا مرتبطة بالإسلام ولا حياة لنا بدون الإسلام، وأن تلك الشبهات التي يُثيرها أولئك المستشرقون والمبشرون لن تزيدنا إلا إيماناً بديننا وتراثنا وعقيدتنا.

لا بد من أسس جديدة للعمل:

أيها السادة:

واليوم لا بد لنا من تفكير لعمل جديد، يقوم على أسس تتلاءم مع الخطة الجديدة التي لجأ إليها أعداء الإسلام، فخطة المواجهة المباشرة لم تعد قائمة لأن الخطة الجديدة تعتمد على طرق ملتوية مختلفة، تحقق نفس الأهداف السابقة، وهذه الطرُق لا تقل بشاعة وشناعة عن المواجهة المباشرة. فعلينا إذن أن نكون واعين كل الوعي لهذه الحملات المركّزة المغلّفة التي تريد أن تخدعنا ببريق الصداقات المتبادلة، فالغرب والشرق يقفان اليوم على أبواب العالم الإسلامي، يُريدان الولوج إليه لاستنزاف خيراته وللقضاء على مقومات القوة فيه.

إن الحضارة الحديثة تُظهِر لنا بريقاً لماعاً جذّاباً، يأخذ بأبصار البعض، ليتخلى عن دينه وتقاليده وعقيدته. فعلينا أن نكون حذرين كلّ الحذر وإلاّ وجدنا أنفسنا في يومٍ من الأيام ضائعين في صحراء واسعة، تائهين لا نقوى على مسايرة الحضارة الغربية، وفي الوقت ذاته لا نقدر على الرجوع إلى حضارتنا وعقيدتنا التي هجرناها فنكون كالشجرة القوية التي أُزيلَ التراب عن جذورها في الأرض فأصبحت مهددة بالسقوط.

واليوم يقف عالمنا على مفترق طرق، وعليه أن يقرر الاتجاه الذي يُريد أن يسير فيه، وعليه أن يفكر كثيراً قبل الإقدام على الاختيار، وإلاّ فاتت لحظة الاختيار، وأصبحنا في مهبّ الرياح.

الحضارة الحديثة وخطرها على المجتمع البشري:

أيها السادة:

لم تستطع الحضارة الحديثة أن تقدم الخير للإنسان وإنما استطاعت أن تحفر له قبراً لتدفنه فيه. إن وسائل الدمار والخراب تنمو بأضعاف ما تنمو به وسائل الخير، وإن البشرية اليوم مهددة بالفناء في أية لحظة من اللحظات، ولن تقتصر الحرب المقبلة على الجند المتحاربين ولكنها ستشمل الأطفال والنساء والعجائز.

ومهما حاولت الحضارة الحديثة أن تتخلى عن الدين فلن تستطيع إلى ذلك سبيلاً، لأن الحياة البشرية لا يمكن أن تقوم على أساس مادي بحت، وإلاّ انتشرت في العالم شريعة الغاب، شريعة القوي الذي يعتدي على الضعيف بسبب ضعف الدوافع الأخلاقية التي تنمّيها الأديان السماوية.

مرحلة التحرر ومرحلة البناء:

أيها السادة:

إن عالمنا اليوم يمر بمرحلة جديدة هي مرحلة البناء بعد أن انتهى من مرحلة سابقة هي مرحلة التحرر، ولا بد لمن يجتاز هذه المرحلة من أن يجد بعض الصعوبات التي تعترض طريقه. ومرحلة البناء تحتاج إلى عملية تخطيط سابق وإلاّ كان البناء مزيجاً من الفوضى وربما انقضّ على ساكنيه، ولذلك يجب أن تكون عنايتنا بهذه المرحلة كبيرة، ويجب أن تكون الخطوات التي نسير عليها مدروسة واعية.

بين الاستقلال والتبعية:

ويجب علينا أن نختار الآن بين طريقين: الاستقلاب والتبعية، فإذا اخترنا الاستقلال فعندئذٍ يجب علينا أن نعود إلى تراثنا العظيم لنستمدّ منه القوة لمواجهة التحديات التي تعترض طريقنا، فبالإسلام انتصرنا في الماضي، وبالإسلام سوف ننتصر في المستقبل، وبالإسلام نستطيع أن نحقق الاستقلال الكامل والسيادة المطلقة والحرية والكرامة في جميع الميادين.

وإذا كان بعض الناس يعتقدون أن طريق النجاح والتقدم هو التبعية للغرب أو للشرق، فعليهم أن يذكروا جيداً أن تلك المجتمعات تعاني من مشاكلها الخاصة التي ينوء بحملها أي مجتمعٍ آخر.

وإن مجتمعنا قادر على أن يخطّ طريقه في المستقبل بنفسه دون الاعتماد على أية قوة خارجية عنه، فنحن نملك من الإمكانيات المادية والبشرية والروحية والحضارية ما يمكننا من أن نبني مجتمعنا الجديد على أسسٍ جديدة، تستمد من ماضينا القوة والإرادة لبناء المستقبل الذي نستطيع به أن نعيش بين الشعوب، ونحن نشعر بالاعتزاز والفخر والكرامة.

إن تشريعنا تشريعٌ إلهيّ، وإن تاريخنا تاريخٌ ناصع، ونحن بين الشعوب نعتز بهذا الماضي، ولكن لا ينبغي لنا أن نعيش على أحلامه وذكرياته، بل يجب أن نخطّ طريق المستقبل بالعمل الجاد والتفكير الواعي والجهد المخلص، وبذلك ننتقل من طورٍ إلى طور لنبني شخصيتنا المستقلة الواعية.

مستقبل العالم الإسلامي:

ولا بد لنا في مسيرتنا المقبلة من أن نخطط للمستقبل بعقلٍ واعٍ وتفكيرٍ متّزن، فمرحلة البناء من أخطر المراحل وأشدها صعوبة وقسوة.

ونقطة البداية يجب أن تنطلق من الداخل، فنحن بحاجة إلى عقلية جديدة تناسب الصراع القائم في العالم، لأننا لا نستطيع أن نواجه هذه التيارات المسلحة بكل وسائل العلم والمعرفة بتفكير سطحي وعمل عفوي وحماسة عاطفية، ومجتمع اليوم يختلف كلياً عن مجتمع الأمس، ووسائل العمل اليوم يجب أن تختلف عن وسائل العمل في الأمس، وإذا أنكرنا هذه الحقيقة فكأننا نغمض أعيننا عن الواقع الذي نعيش فيه، ونستسلم لما يخبئه لنا المستقبل من مفاجآت لن تبقي لنا من عقيدتنا شيئاً ولن تذر.

أولاً- الناحية التشريعية

يُعاني التشريع الإسلامي اليوم من أزمة كبيرة هي أزمة الجمود التي لازمته منذ قرون طويلة.

فقد استطاع هذا التشريع خلال القرون الأولى أن ينطلق بخطوات كبيرة، وأن يلبي حاجات المجتمع الإسلامي، واستطاع الفقهاء أن يكوّنوا من النصوص الأصلية كتباً في الفقه والأصول كوّنت تشريعاً عظيماً تفخر به أمتنا في جميع الأجيال السابقة واللاحقة.

ولم تمضِ فترة من الزمن حتى وجدنا هذه النهضة العلمية تتوقف شيئاً فشيئاً، وانتقل العمل العلمي إلى ترديد ما كتبه الأولون أو التعليق عليه بشرح أو حاشية، مما أدى إلى وجود فجوة واسعة بين الفقه الإسلامي بأسلوبه القديم وبين المجتمع المعاصر الذي دخلت عليه أنواع جديدة من التقاليد والعادات ووسائل الحياة.

اهتمام المؤتمرات الدولية بالفقه الإسلامي:

ونحب أن نبين هنا أن المؤتمرات الحقوقية الدولية أكدت اهتمامها بالفقه الإسلامي، ودعت إلى العناية به. فالمؤتمر الدولي للقانون المقارن المنعقد في مدينة (لاهاي) عام 1935 أعلن على لسان الفقيه الفرنسي “لامبير” تقديره للفقه الإسلامي، ثم قرر هذا المؤتمر ما يلي:

أولاً- اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً هاماً من مصادر التشريع العام.

ثانياً- اعتبار الشريعة الإسلامية حية صالحة للتطور.

ثالثاً- اعتبار الشريعة الإسلامية قائمة بذاتها وليست مأخوذة عن غيرها.

وفي عام 1948 قرر مؤتمر المحامين الدولي المنعقد في “لاهاي”، أهمية التشريع الإسلامي، وأوصى بتبنّي الدراسة المقارنة لهذا التشريع.

وفي يوليه عام 1951 عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمراً في كلية الحقوق من جامعة باريس للبحث في الفقه الإسلامي باسم (أسبوع الفقه الإسلامي) برئاسة المسيو “ميو” أستاذ التشريع الإسلامي في كلية الحقوق بجامعة باريس، وحضر هذا المؤتمر عدد كبير من رجال الفقه الإسلامي ورجال القانون في العالم، وقدّم بعض علماء مصر وسوريا أبحاثاً عن الملكية، والمسؤولية الجنائية، وتأثير المذاهب الفقهية في بعضها البعض، ونظرية الربا.

وبعد الانتهاء من تقديم هذه الأبحاث وقف نقيب المحامين في باريس ليقول بصراحة أمام المؤتمرين بأنه كان يسمع بأن الفقه الإسلامي لا يصلح أساساً لتشريع يفي بحاجات المجتمع، ثم عقب على هذا بأن ما سمعه من أبحاث تثبت خلاف ذلك. ثم قرر هذا المؤتمر أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية وتشريعية كبيرة، وأن اختلاف المذاهب الفقهية ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات هي مناط الإعجاب، وبها يتمكن الفقه الإسلامي من أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة.

أهمية الاجتهاد في العصر الحديث:

أيها السادة: نحن اليوم بحاجة إلى الاجتهاد، والاجتهاد مصدر من مصادر الشريعة، وهناك أدلة عليه من الكتاب والسنة، وقد جعل الله الإسلام خاتم الأديان، وجعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ونصوص الشريعة من الكتاب والسُنّة محدودة، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة، ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة إلاّ إذا اعتمدنا على الاجتهاد الذي هو قياس النظائر على النظائر إذا توافقت العلة.

وقد اجتهد النبي e وأمر أصحابه بالاجتهاد، واجتهد أبو بكر في كثير من المسائل، وواجهت عمر بن الخطاب مسائل كثيرة متجددة، فاجتهد في فهم النص بما يحقق المصلحة للناس كمنعه حذيفة بن اليمان أن يتزوج من كتابية حتى لا يقتدي به المسلمون، وأوقف قطع يد السارق عندما حلّت المجاعة بالناس، ومنع المؤلفة قلوبهم من حقهم في الزكاة لأن الله قد أعزَّ الإسلام، ومنع تقسيم الأراضي المفتوحة في العراق والشام بين الغانمين وتركها بأيدي أصحابها على أن يدفعوا عنها الخراج لبيت المال.

وقد استطاع الفقه في صدر الإسلام أن يخطو خطوات كبيرة بفضل الاجتهاد لأنه يجب على الفقيه أن يجد الحلول المناسبة للمشاكل الجديدة.

ومن الطبيعي ألا يمكّن من الاجتهاد إلاّ مَن توافرت فيه شروط الاجتهاد من العلم والعقل والدين.

مجمع للفقه الإسلامي:

وهنا أقترح أن يؤلف مجمع للفقه الإسلامي مكوّن من كبار العلماء المتفرغين لدراسته دراسة جادة، وعرضه بأسلوب جديد يفهمه الناس مع وضع الفهارس والمعاجم لتسهيل الرجوع إلى جزئيات الأحكام التي يحتاج إليها الناس، بالإضافة إلى دراسة أهم المشكلات الحديثة التي جدَّت في المجتمع الإسلامي.

ويحسن بنا أن نذكر أن أول مَن دعا إلى إنشاء هذا المجمع هو الشيخ سعيد الباني الدمشقي في كتابه “عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق” وأطلق على هذا المجمع اسم “لجنة الشورى الشرعية”.

ومنذ ثلاث سنوات تقدم الأستاذ الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا باقتراح إلى مؤتمر رابطة العالم الإسلامي هنا لإنشاء مجمع فقهي يضم أشهر فقهاء العالم الإسلامي لدراسة المشكلات التي جدَّت في مجتمعنا.

وقد قامت كلية الشريعة بجامعة دمشق بإنشاء قسم خاص أطلقت عليه اسم “موسوعة الفقه الإسلامي” في محاولة جادة لإحياء التراث الفقهي ووضع الفهارس ليكون ميسَّراً لطلاب المعرفة. وكان يرأس هذه المجموعة الأستاذ الدكتور معروف الدواليبي مع كبار العلماء في سوريا ومصر، ثم تبنت وزارة الأوقاف في الكويت فكرة الموسوعة الفقهية، وكلفت الأستاذ الزرقا بالإشراف على هذا العمل الكبير. ويقوم معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة بمحاولة وضع موسوعة فقهية يشرف عليها الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو زهرة.

ثانياً- الناحية الاقتصادية

تعتبر المشكلة الاقتصادية من أهم المشاكل وأعقدها، والغاية من ذلك رفع مستوى الدخل لدى الأفراد لتحقيق الرفاهية في المجتمع.

ولو نظرنا إلى حال البلاد الإسلامية لوجدنا أنها تملك إمكانياتٍ مادية وبشرية كبيرة، ومع ذلك فإن نسبة الدخول فيها ضعيفة. والسبب الرئيسي في هذا يعود إلى عدم الاستفادة من تلك الإمكانيات استفادة كاملة.

وإنتاج الفرد في بلادنا ضعيف إذا ما قيس بإنتاج الفرد في البلاد الأخرى، والموارد الطبيعية لا تكفي أبداً لتحقيق الرفاهية في مجتمع من المجتمعات ما لم تنضم إليها الموارد الإنتاجية التي تحققها القوى البشرية.

ولذلك يجب على الحكومات الإسلامية أن تهتم بالإنتاج عن طريق تحسين الزراعة في البلاد الزراعية، وتوسيع الصناعة في البلاد الأخرى، لأن الصناعة تستطيع أن تمد البلاد بكل ما تحتاجه من سلع ضرورية أو كمالية، بالإضافة إلى أنها تقضي على البطالة المنتشرة في بلادنا بسبب الاستفادة من القدرة البشرية لدى الفرد، وهي بالتالي تحافظ على رؤوس الأموال للاستفادة منها داخل البلاد بدلاً من أن تكون قيماً للبضائع الاستهلاكية التي تغرق الأسواق.

أهمية الدراسات الاقتصادية في العصر الحديث:

أيها السادة:

تحتل الدراسات الاقتصادية مركز الصدارة بين الدراسات الحديثة، وتشغل اهتمام رجال السياسة والمال وعلماء الاجتماع والاقتصاد، ولعلَّ من أكبر أسباب الصراع القائم بين المعسكرين الغربي والشرقي يعود إلى طريقة معالجة المشاكل الاقتصادية القائمة.

فالنظم الفردية تحاول إعطاء الفرد الحرية الكاملة في تصرفاته وتسمح له أن ينمّي ملكيته بكل الطرق دون تقييد أو تحديد، بخلاف النظام الشيوعي الذي ينادي بإلغاء الملكية الفردية إلغاءً تاماً، وبذلك يقضي على الحافز الفردي والدافع الذاتي الذي يدفع الفرد إلى العمل رغبةً بمزيد من الربح.

ويقف الإسلام بين هذين النظامين، فيسمح بالملكية الفردية ويشجّع النشاط الفردي ويعاقب مَن يعتدي على ملكيات الأفراد بأشد العقوبات، ثم يسمح بأن تنتقل هذه الملكية من المالك الأصلي إلى ورثته الذين هم أحقّ الناس بالاستفادة مما خلّفه الراحل، وبذلك يطمئن الفرد إلى أن الجهد الذي يبذله لن يضيع هباءاً منثوراً وسينتقل إلى أولاده وأسرته، وعندئذٍ يندفع إلى العمل بهمة وعزيمة ونشاط.

ولكنه حدّد تصرفات الفرد فلم يسمح له أن ينمّي ملكيته عن طريق الربا أو الاحتكار أو الإضرار بالناس، لأن هذا الطريق لا يُعتبَر طريقاً طبيعياً لنمو المال، بالإضافة إلى أنه يكون على حساب الآخرين.

تدريس مادة الاقتصاد الإسلامي:

ومن المؤسف أن الجامعات المنتشرة في العالم الإسلامي تدرّس الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الشيوعي وتُهمِل الاقتصاد الإسلامي، ويتخرج الطالب من تلك الجامعات وقد عرف كل شيء عن الاقتصاد المعاصر ونظام البنوك والفوائد دون أن يعرف حُكمَ ذلك في الإسلام فيظن أن الإسلام خالٍ من هذه الدراسات.

وإنني أقترح على الجامعات والكليات المنتشرة في بلادنا أن تقرر تدريس مادة الاقتصاد الإسلامي كمادة مستقلة، ولن يكون عدم وجود الكتب التي تعرض لهذا الجانب، أو المدرّسين الذين يقومون بتدريس هذه المادة حائلاً دون ذلك، لأن إقرار هذا الموضوع سوف يُلزِم المدرّس بأن يبحث عن مادته في الكتب الصفراء القديمة وأن يكتب فيها، وبعدئذٍ سوف نرى أن المكتبات الإسلامية قد حفلت بكثير من الكتُب التي تتحدث عن الاقتصاد الإسلامي لأن البناء لا يكتمل دفعة واحدة.

ويجب أن يشمل منهج الاقتصاد الإسلامي الأبحاث التالية:

1- نظرية الملكية الفردية والجماعية مع دراسة القيود المفروضة عليها، والحقوق المترتبة على المالك.

2- دراسة النظم المالية كالزكاة والنفقات والتكافل الاجتماعي، والأعمال الخيرية كالوقف والوصية، مع دراسة أبحاث الخراج والجزية وما يتعلق بهما من حقوق وما يترتب عليهما من آثار.

3- دراسة نظرية الأموال في الفقه الإسلامي، وتشمل الموارد المالية للدولة الإسلامية والمصارف التي تنفق فيها.

4- دراسة نظرية الربا وما يتعلق بها من أبحاث مع التعرُّض لحكم الإسلام على المعاملات المصرفية الحاضرة.

5- دراسة الوظائف الاقتصادية للدولة الإسلامية ومتى يحق لها أن تتدخل في المجالات الاقتصادية والأسواق مع التعرُّض لنظام الحسبة في الفقه الإسلامي وأثره في مراقبة العمليات الاقتصادية.

6- دراسة نظام الشركات في الفقه الإسلامي مقارناً مع النظام الحالي للشركات المساهمة مع بيان إمكانية الاستفادة من النظام الإسلامي للشركات في تصحيح وتقويم النظام القائم.

وإنني أقترح على رابطة العالم الإسلامي أن تتبنى مثل هذا الموضوع وأن تطالب رسمياً الجامعات المختلفة بالعناية بهذه الدراسات، لأنه لا يجوز أبداً أن نُغفِل دراسة الاقتصاد الإسلامي في عصرنا الحديث.

الاقتصاد الإسلامي لدى علماء الغرب:

أيها السادة:

إن الاعتراف بعظمة الاقتصاد الإسلامي ليس مقصوراً علينا فحسب بل إن علماء الغرب يعترفون أيضاً بعظَمة هذا الاقتصاد، ويجدون فيه النظام الوحيد الذي يمكن أن يقضي على التناقضات القائمة في النظُم الاقتصادية المعاصرة.

فالباحث الاقتصادي الفرنسي (جاك أوستردي) في كتابه (الإسلام أمام التطور الاقتصادي) أكد عجز النظام الاقتصادي المعاصر عن حل مشاكل العالم، ثم دعا إلى التماس المذهب الثالث في الإسلام لأنه ليس فردياً ولا جماعياً بل يجمع حسنات كل من المذهبين.

ثم وقف هذا الكاتب محذراً المسلمين وقائلاً لهم بأنهم إذا لم يأخذوا بالنظام الإسلامي فسوف يجبرون على قبول تغييرات غير سليمة في أنظمتهم الأساسية. وذلك نتيجة لاتّباع منهج في الاقتصاد مفروض عليهم من الخارج، وفي هذه الحالة سيقضى على الإسلام كمنهج حضاري مستقل.

أثر العلماء المسلمين في إيجاد علم الاقتصاد:

ولم يكن علم الاقتصاد بعيداً عن العلماء المسلمين كما يدّعي ذلك علماء الغرب، فالتاريخ يؤكد لنا أن ابن خلدون هو أول مَن كتب في علم الاقتصاد وليس آدم سميث، وقد كتب مقدمته في القرن الثامن الهجري وتحدث فيها عن الظواهر الاقتصادية وبَيَّنَ ما بينها من ترابُط وتلازُم معتمداً في ذلك على الاستقراء والقياس.

وقد أكد هذا المعنى الدكتور محمد علي نشأت الذي كتب رسالته للدكتوراه عن الفكر الاقتصادي في مقدمة ابن خلدون قال فيها:

إن كتابة ابن خلدون جديرة بأن تكون نقطة للبدء للمدرسة العلمية في الاقتصاد، فهي ليست مجرد جمع لمعارف منوعة ولكنها مجموعة معارف منظمة ومرتبة ينطبق عليها لفظ العلم في معناه الدقيق.

وهكذا يتبين لنا بما لا مجال للشك فيه أن علماءنا قد استطاعوا أن يكونوا رواداً للبشرية في كل مجال، فما أجدرنا نحن اليوم أن نسير على نهجهم وأن نتابع الطريق الذي خطّوه لنا لنقدم للبشرية الحلول المناسبة التي تقودها إلى الخير، لنثبت بحق أننا خير أمة أُخرِجَت للناس.

ثالثاً- الناحية الاجتماعية

أما الناحية الاجتماعية فتشمل العناية بالفرد المسلم، وبناء الفرد هو بناء للمجتمع، لأن المجتمع يتكون من مجموع الأفراد، ولا يكون ذلك إلاّ عن طريق بثّ الوعي الثقافي والعلمي في نفوس المسلمين.

ففي مجال التعليم تجب العناية بالمدارس والجامعات على اختلاف أنواعها لأنها لا تستطيع أن تمد البلاد بأصحاب الكفاءات العلمية التي تحتاج إليها كل دولة متطورة.

وينبغي أن تكون العناية بالمناهج كبيرة، لأن المناهج هي التي تكوّن الجيل الجديد، وبالتالي تكوّن المجتمع الجديد. ومن الطبيعي أن المناهج يجب ألاّ تنفصل عن المجتمع الدولي الذي نعيش فيه وإلاّ رَبّينا جيلاً ضعيفاً ينهار سريعاً لأول مواجهة من التطورات التي تحدث في العالم. وبذلك نستطيع أن نحصّن الجيل المقبل عن طريق المناهج الصحيحة بالإيمان الراسخ والخلق الرصين.

وإن تخطيط المناهج في المدارس والجامعات هو الذي يحدد لنا طريق المستقبل، كما أن الخطأ في التخطيط أو الارتجال فيه ربما يعطي نتائج عكسية قد تؤدي بالمجتمع المقبل في المدى البعيد إلى مفاجآت لم تكن متوقعة.

رابعاً- الناحية الدفاعية

ويجب على العالم الإسلامي أن يهتمّ بالناحية الدفاعية للدفاع عن البلاد ضد الغزو الأجنبي والأطماع الاستعمارية والدعوات الإلحادية العقائدية التي تحاول غزو هذه البلاد.

ولو نظرنا الآن إلى العالم الإسلامي لوجدنا شعوبه مهددة من قِبَل دول أخرى طامعة في أجزاء منه كالهند مع الباكستان، والحبشة مع الصومال، واليونان مع مسلمي قبرص، بالإضافة إلى مشكلة العرب مع إسرائيل.

والحل الأوحد في جميع هذه المشاكل لن يكون في الأمم المتحدة ولن يكون عن طريق المؤتمرات السياسية التي هي عملية تخدير للشعور المتوثّب لدى الناس، وإنما يكون عن طريق الكفاح والقتال ومواجهة العدو بنفس الطريق الذي واجهنا به، وإلاّ استبيحت الحمى وضاعت الكرامة.

وعلى ذلك يجب أن نعبئ جيشنا تعبئة نفسية وتعبئة عسكرية. فالتعبئة النفسية تكون عن طريق إعداد الجندي المقاتل نفسياً، ولا يكون ذلك إلاّ بأن نشعره بأنه يقاتل عن عقيدة، وتلك العقيدة تدفعه إلى الموت في سبيل الدفاع عنها.

أما التعبئة العسكرية فتكون عن طريق استخدام أحدث الأسلحة وتدريب الجيش عليها بالإضافة إلى وجود إقامة مصانع للسلاح في البلاد الإسلامية حتى لا تتحكم فينا الدول التي تحتكر السلاح.

نداء إلى الشعوب المسلمة:

أيها السادة: هذه لمحات أعرضها لكم، وهذه معالم يجب أن نستفيد منها ونحن نخطّ طريق المستقبل، فالأمة الواعية هي التي تخطط لمستقبلها كما تخطط لحاضرها على ضوء الاستفادة من تجارب الماضي.

ونحن في طريق البناء، وطريق البناء يكلفنا جهداً لا يقل أبداً عن عملية التحرر الذي كافحنا لأجله طويلاً.

وإنني أخاطب الشعوب الإسلامية في كافة أقطار المعمورة أن تكون واعية للمرحلة المقبلة وأن تكون متماسكة حتى لا يدخل عليها دخيل يسيء إليها أو يعطل مسيرتها، فأعداء الأمة يقفون بالمرصاد لكل حركة بنّاءة ولكل دعوة يُراد بها الخير، وينبغي ألاّ نسمح لدعاة التفرقة ولدعاة الهزيمة أن يهدموا وحدة هذه الأمة، وأن ينتزعوا ثقتها في قدرتها على بناء المستقبل.

وبالرغم من جميع ما نراه اليوم من أسباب تدفعنا إلى اليأس والقنوط فإن ثقتنا بالله كبيرة وسوف ننتصر بإذن الله.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

( الزيارات : 3٬865 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *