معايير تحديد الأجور في الفقه الإسلامي

العدالة الاجتماعية

معايير تحديد الأجور في الفقه الإسلامي .

الدكتور محمد فاروق النبهان….

بحث علمي مقدم الى المؤتمر الإسلامي في القاهرة الذى نظمه المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية في القاهرة

معنى لفظة العدل

حظيت لفظة ” العدل ” باهتمام علماء الفلسفة، واعتبروا العدل من الفضائل الأربع التي ترتكز عليها القيم الأخلاقية، وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل، والعدل نقيض الجور، فالعدل فضيلة والجور رذيلة، فإذا استقامت النفس البشرية ونمت نموها الطبيعي في ظل بيئة تربوية نظيفة صدرت عنها أفعال الفضائل بطريقة عفوية لا تكلف فيها، والفضائل تتمثل في سلوكيات الاعتدال التي ترفض التطرف بزيادة أو نقصان، فالحكمة هي اعتدال القوة العقلية، وينتج عنها التعقل وجودة الفهم وانقداح الرأى السديد فى العقل، فإذا خرجت القوة العقلية عن دائرة الاعتدال أدت في حال زيادتها إلى السفه وفي حال نقصها إلى البله والخمول وسوء التصور وفساد الرأى. والوسطية المتمثلة في الاعتدال السلوكى تعبر عن الفضيلة بمفهومها الأخلاقي ، والفضيلة مشتقة من الفضل وهو الزيادة المؤدية إلى الكمال، فكل زيادة مؤدية إلى الكمال بالمفهوم العقلي والشرعي فهي فضيلة، فإذا لم تؤد تلك الزيادة إلى الكمال معنى لفظة العدل

حظيت لفظة ” العدل ” باهتمام علماء الفلسفة، واعتبروا العدل من الفضائل الأربع التى ترتكز عليها القيم الأخلاقية، وهى الحكمة والشجاعة والعفة والعدل، والعدل نقيض الجور، فالعدل فضيلة والجور رذيلة، فإذا استقامت النفس البشرية ونمت نموها الطبيعى فى ظل بيئة تربوية نظيفة صدرت عنها أفعال الفضائل بطريقة عفوية لا تكلف فيها، والفضائل تتمثل في سلوكيات الاعتدال التي ترفض التطرف بزيادة أو نقصان، فالحكمة هي اعتدال القوة العقلية، وينتج عنها التعقل وجودة الفهم وانقداح الرأى السديد في العقل، فإذا خرجت القوة العقلية عن دائرة الاعتدال أدت في حال زيادتها إلى السفه وفي حال نقصها إلى البله والخمول وسوء التصور وفساد الرأى. والوسطية المتمثلة في الاعتدال السلوكى تعبر عن الفضيلة بمفهومها الأخلاقي، والفضيلة مشتقة

فهى من الغلو كالزيادة في الشجاعة تؤدي إلى التهور، والزيادة في الكرم تؤدي إلى السفه، وهكذا تبرز العدالة المتمثلة في الوسطية والاعتدال كمعيار أخلاقي لمعرفة معنى الفضائل.

ولا تبرز الفضيلة كقيمة أخلاقية إلا في إطار الاجتماع الإنسانى المتمثل في العلاقات التبادلية بين أفراد المجتمع، ففي ظل الاجتماع الإنساني يتميز الإنسان بخلق الفضيلة من خلال احترامه لحقوق الآخرين، واعترافه بحقهم الإنساني في التفكير والتعبير وبشرعية دفاعهم عن حقوقهم المشروعة في الحرية والكرامة والمساواة، ولا قيمة للفضيلة في ظل العزلة عن الناس، فالفضائل لا يمكن معرفتها إلا من خلال التعامل مع الآخرين، وهنا تبرز معاني النجدة والحلم والشهامة والسخاء والحياء والدماثة والإيثار والسماحة والألفة والصداقة.

العدالة فى نظر ابن مسكويه

والعدالة كما يقول ” ابن مسكويه ” فى كتابه ” تهذيب الأخلاق ” هيئة نفسانية أدبية تصدر عنها أفعال الإنسان في نطاق التوسط والاعتدال، بحيث يكون صاحب هذه الهيئة في حالة تمكنه من رد الزائد واسترداد الناقص، بحيث تتحقق المساواة في النسب الملائمة للفطرة والمحققة للفضيلة والمعبرة عن التزام الإنسان بحقه، فيما يأخذه وفيما يعطيه، في الأموال والعقود والمعاملات الإنسانية، ففي ظل العدالة يرفض الإنسان الظلم ويضيق به، لأن الاجتماع الإنساني لا يتحقق التعاون فيه إلا في ظل عدالة مريحة للنفوس محققة للاستقرار.

رأي ابن خلدون في ارتباط العدل بالعمران:

واعتبر ” ابن خلدون ” أن العمران البشري لا يتحقق إلا في ظل العدل الاجتماعي، لأن الظلم مؤثر في السلوك البشرى يضعف النفس ويجعل مزاجها مريضا، ويهدم قيم الخير في الطبيعة النفسية، ويؤدي ذلك إلى الانقباض عن الكسب وذهاب الآمال في تحصيل الأموال، فيقعد الناس عن العمل والكسب وتكسد أسواق العمران، ويخرج السكان من الأمصار فيؤدي ذلك إلى تراجع العمران وفساد الحضارات (1).

وأكد ” ابن خلدون ” أن انتقاص قيمة العمل كله أو جزئه من الظلم الواقع على الرعية (2)، فمن استخدام أجيرا وأعطاه أقل من أجره الذي يستحقه فقط اغتصب جزءا من حقه، والأجر الذي يستحقه العامل على عمله يجب أن يساوي قيمة ذلك العمل، فمن أعطى الأجير أو العامل أقل من قيمة عمله فقد ظلمه، والظلم مفسد للنفوس مضعف للعمران مهدد للاستقرار الاجتماعي (3).

دور الدولة في تحقيق العدل الاجتماعي:

وهنا يبرز دور الدولة كمؤسسة قيادية ذات شرعية تمثيلية، وذات قوة رادعة في تحقيق العدالة الاجتماعية وفي إقرار نظم وقوانين عادلة ومنصفة، والدولة في هذه المواقف مؤتمنة على حماية المصالح العامة، ومدعوة لرفع الظلم فى المجتمع، والتصدى بكل موضوعية وحزم لكل مظاهر الظلم الاجتماعى من خلال إقرار النظم والقوانين التى تحمى بها مصالح المستضعفين من أبناء المجتمع، وتحقيق التوازن الذى يؤدى إلى الأمن والاستقرار، ومحاربة الفقر والمرض والظلم، وإتاحة الفرص المتكافئة للتنافس الشريف فى مجال التعليم والتوظيف والتشغيل.

وقد كرم الإسلام الإنسان، وأحاطه بسياج قوى من العناية بإنسانيته، واعتبره خليفة فى الأرض، وسخر كل شىء له لكى يعمر الأرض وينيرها بعقله وفكره ومعرفته، وأرسل الله تعالى الرسل وأنزل معهم الكتاب والميزان لتصحيح المسيرة الإنسانية، ولتعريف الإنسان بمكانته وحقوقه، لكى يتحرر من الخوف والجهل فى عقيدته وفكره، ولكى يقاوم الظلم الذى يطوقه بسبب طغيان القوة، وأناط به مهمة الدفاع عن حياته وكيانه وحقوقه المشروعة، لكيلا يستبد قوى بضعيف، وجاءت الأديان السماوية لتحرير الإنسان من العبودية والظلم والقهر، وأقرت هذه الأديان حق الإنسان فى الحياة والكرامة، ولا تتحقق الكرامة إلا بالحياة الكريمة التى توفر للإنسان كل ما تتطلبه الحياة من حاجات ومتطلبات تحقق إنسانيته كالتعليم والتشغيل والعلاج.

ارتباط الكسب بالعمل:

والكسب هو قيمة العمل، ولا يتحقق العدل إلا أن يكون الأجر مساويا لقيمة ما يؤديه العامل من جهد، والحد الأدنى لقيمة العمل هو الحد الأدنى لكفاية الإنسان، ولا يمكن تصور أجر يقل عن حاجة الإنسان لتلبية متطلبات وجوده الإنسانى، ففى مجال الصناعة يحدد أرباب العمل قيمة السلع الصناعية بمقدار ما يبذل فيها من جهد وما ينفق فيها من تكلفة وما يدفع عليها من أجر، ولا يمكن أن تباع السلعة بأقل من تكلفتها الضرورية، فإذا قلت القيمة عن التكلفة اختل التوازن وتوقف المصنع عن الإنتاج، والإنسان له تكلفة حقيقية تتمثل فى متطلبات وجوده الإنسانى، وتشمل قيمة طعامه ولباسه وسكنه، كما تشمل تكلفة تكوينه العقلى وتكلفة عجزه عن العمل فى سن الشيخوخة، فإذا قلت الأجور عن تكلفة تكوين الإنسان كان ذلك مؤشرا على خلل فى تقويم قيمة الأعمال، ولا يمكن للعامل وحده أن يدافع عن حقه الطبيعى فى أجر عادل يكفيه لحياة كريمة إلا فى ظل توفره على قوة تفاوضية قادرة على الدفاع عن حقه، وكل إرادة يعبر عنها العامل فى ظل انعدام قدرته على التفاوض تعتبر إرادة باطلة لأنها تتم فى إطار الإذعان، ولا تعتبر عقود الإذعان التى تفرضها حاجة العامل إلى الأجر ملزمة، لوضوح انتفاء صفة العدل فيها، ولوضوح الظلم فى مضمونها، ولانعدام التوازن فى القدرة التفاوضية بين طرفى العقد، الأجير ورب العمل، ولابد فى هذه الحالة من حماية الطرف الضعيف المذعن عن طريق القوانين الاجتماعية التى تفرضها الدولة وتسهر على حمايتها، سواء ما يتعلق منها بالأجور وساعات العمل أو ما يتعلق منها بالشروط الإنسانية التى توفر للعامل الكرامة فى أداء عمله، وأهمها الاعتراف بإنسانيته وعدم إذلاله، واحترام خصوصياته المشروعة ومطالبه العادلة فى كل ما يتعلق بحقه وحق أسرته فى التعليم والعلاج والسكن اللائق، والتماس العذر له فى حالات المرض والشيخوخة بحيث يكون العمل ملائما لطاقته منسجما مع قدرته العقلية والبدنية.

ولا يمكن تجاهل حقوق العامل فى الأجر العادل الملائم لجهده، فالأجر مرتبط بحجم العمل وقيمته الحقيقية، ولا يمكن أن تحدد الأجور من خلال عقود الإذعان التى تنتفى فيها القدرة التفاوضية لدى العمال لعجزهم الفعلى عن فرض الشروط العادلة فى عقود العمل، ويجب على الدولة أن تتدخل كطرف يملك سلطة قانونية ومادية لحماية الطرف الضعيف وإقرار التوازن فى العقود التفاوضية، لئلا يتحكم قوى فى ضعيف تحت تأثير الحاجة الملحة إلى العمل، وفى ظل انتشار البطالة التى تجعل الأجير فى موطن الإذعان لكل العقود المجحفة والمذلة.

معايير قيمة العمل:

معايير قيمة العمل عند ابن خلدون:

أكد ” ابن خلدون ” أن قيمة العمل تتحدد من خلال عوامل ثلاثة:

العامل الأول: مقدار العمل، وهو المعيار الزمنى المنضبط الذى يمكن التحكم فيه، فقيمة العمل لمدة ساعة تختلف عن قيمة العمل لمدة يوم، ولابد من مراعاة ذلك فى تحديد قيمة ذلك العمل.

العامل الثانى: شرف العمل، مكانته، وهذا معيار تتحكم فيه العادات والقيم الاجتماعية، والمهن فى نظرة المجتمع ليست فى درجة واحدة، فمنزلة مهنة الطب ليست كمهنة الحداد والنجار، بالرغم من أن الإسلام لا يقر بفكرة التفاوت المهنى كمعيار أخلاقى للتفاضل الاجتماعى، كمبرر لاختلاف المنزلة الاجتماعية وقد عرض ” الإمام الغزالى ” خلال بحثه عن العلم لمفهوم الشرف فى العمل، وأوضح أن الأعمال قد تكون مطلوبة لذاتها وقد تكون مطلوبة لغيرها، وما هو مطلوب لذاته من الأعمال أشرف مما هو مطلوب لغيره، ويدرك شرف العمل بما يلى:

إما بالالتفات إلى الغريزة كفضل العلوم العقلية على العلوم اللغوية التى تدرك بالسمع لأن العقل أشرف من السمع.

وإما أن يدرك شرف العمل بعموم نفعه وحاجة الناس إليه، كفضل الزراعة على الصناعة نظرا لحاجة الناس إلى الغذاء.

وإما أن يدرك شرف العمل من خلال ملاحظة ” المحل ” كفضل الصياغة على الدباغة، ولا شك أن معيار الحاجة يعتبر عاملا مهما فى معرفة قيمة الأعمال وشرف تلك الأعمال.

أما العامل الثالث: الذى ذكره ابن خلدون لتحديد قيمة العمل فهو ندرة العمل ومدى حاجة الناس إليه، وهو معيار سليم وواقعى ، ويلتقى هذا المعيار مع رأى الإمام الغزالى فى اعتبار الحاجة إلى العمل من مبررات التفاضل بين الأعمال.

ولا شك أن ندرة العمل وحاجة الناس إلى ذلك العمل من المعايير العادلة، وهو يلتقى مع المعيار الاقتصادى الذى يعتمد على نظرية العرض والطلب، وهذا المعيار لا يخلو من استغلال وظلم، لأن الحاجة إلى العمل تعطى لأحد الطرفين الفرصة لاستغلال تلك الحاجة لإملاء شروط مجحفة بحق الطرف الآخر، ففى ظل الحاجة يذعن الضعيف لشروط القوى، نظرا لحاجته الملحة إلى العمل، ولابد فى هذه الحالة من ضبط المعايير المادية، لكيلا يقع الظلم فى حالات التفاوت فى القدرات التفاوضية.

ربط الأجور بقيم الأعمال:

ولا يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية فى مجال الأمور إلا عندما تراعى قيم الأعمال فى تحديد الأجور، لأن الأجر هو قيمة العمل، ومن حق الأجير أن يبحث عن قيمة عمله، وأن يطالب بالأجر العادل الذى يلائم العمل المبذول، ومن الظلم أن يقع تجاهل قيمة الأعمال فى تحديد الأجور، لأن ذلك يؤدى إلى مشاعر الإحباط لدى العمال، والإحباط شعور نفسى ينتج عن الظلم الذى يحس به العامل وهو يؤدى عمله ولا يتقاضى الأجر الذى يلائم ذلك العمل، وهذا التفاوت بين الأجور وقيم الأعمال يؤدى بطريقة حتمية إلى تكديس الأموال لدى أرباب العمل وزيادة ثروتهم فى الوقت الذى يزداد فيه فقر العمال الأجراء، وعندئذ تزداد الفجوة بين طبقتى المجتمع، ويقع التطاحن والتباغض، وفى ظل احترام العدالة والكفاية فى تحديد الأجور تزداد روابط التعاون والتكافل بين العمال وأرباب العمل.

والإسلام يدعونا إلى الالتزام بشريعته العادلة، والتمسك بأحكامه التى أقرت حقوق الإنسان فى حياة كريمة، تتحقق فيها الكفاية المادية كحد أدنى لتحقيق الكرامة الإنسانية ثم ترتقى الأجور لكى تكون عادلة ملائمة لقيمة الجهد المبذول، وإذا كانت الكفاية مضمونة بحكم الوجود الإنسانى للعجزة والأطفال والشيوخ، فإنه من الطبيعى أن يكون للقادرين على العمل أجر يوفر الشعور بالكرامة فى الطعام والملبس والمسكن.

والعدالة فى الأجور هى المنطلق الأول لبناء لبنات التماسك الداخلى الذى ينميه شعور المواطن بعدالة توزيع الثروات وكفاية الأجور للمتطلبات الضرورية التي توفر الكرامة الإنسانية، والدولة بحكم صفتها التمثيلية عن إرادة الأمة مؤتمنة على تحقيق هذه المطالب المشروعة من خلال النهوض بمستوى القوانين الاجتماعية التي تكفل للمستضعفين من الأجراء والعمال والموظفين حماية قانونية تضمن لهم حقوقهم فى التشغيل الذي يمكنهم من الشعور بالكرامة الإنسانية التي أقرها الإسلام لكل إنسان، وجعلها من أهم مرتكزات الاستقرار والتماسك الداخلى في بناء المجتمع الإسلامي.

المراجع

(1) انظر مقدمة ابن خلدون ص 333.

(2) انظر نفس المصدر ص512.

( الزيارات : 3٬760 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *