وصية الشيخ النبهان لطلاب العلم

وصية الشيخ النبهان لطلاب العلمالشيخ محمد النبهان

 خصص الشيخ رحمه الله جزءاً كبيراً من وقته لأبنائه الطلاب، فكانوا حقاً مشروعه العلمي والثقافي، لأن هذا المرشد الكبير أحبهم من كل قلبه، فكان يحدثهم في كل لقاء عن آداب العلم؛ ولا خير في علم لا يتسلح علماؤه بآداب العلم.

ولا حدود لآداب العلم، ولا يعطي العلم ثمرته إلا لمن يتأدب بأدب العلم وأهم آداب العلم ما يلي:

أولاً:

أن يتعلم العلم لله لا لشيء آخر، فمن تعلم العلم لله تعالى ألبسه الله ثوب عزّه وهيبته، فأعزه العلم ونهض بأمره، فمن تعلم العلم لأجل دنيا يصيبها في معاش أو منصب أو جاه فقد جعل العلم مطيته لما يريده، والعلم ليس كذلك، والعلم نور ولا يمكن أن يكون حجاباً لصاحبه أو مطية لمآرب أخرى، فإن أراده لغير الله كان حجاباً له عند ربه، لأن غاية العلم المعرفة وهي ثمرة العلم، فإذا كان العلم لغير الله لم يثمر تلك المعرفة.

ثانياً:

أن يتعلم العلم ليعمل به أولاً، وطريق العمل به أن يبتدىء بمحاسبة نفسه عن كل العيوب التي تصدر منه، والمحاسبة هي بداية الطريق لتزكية النفس من الآثام والسلوكيات الخاطئة والعمل هو ثمرة العلم، فلا علم بغير عمل، فمن تعلم العلم لله تعالى ظهرت أثاره على سلوكه وملامحه الظاهرة، فالباطن لا يدرك بالحواس، ولكن يدرك بما يظهر على الظاهر من آثار ما يحدث في الباطن، والظاهر هو مرآة الباطن، فإذا كان الباطن نظيفاً وطاهراً كانت أفعال الظاهر كذلك، كالطعام الذي يوجد في القدر لا يدرك لوجود غطاء القدر ولكن يدرك من خلال الرائحة التي تصدر من القدر، فإن كان ما في القدر نظيفاً وطيباً كانت الرائحة طيبة يستلذها الطبع.

ثالثاً:

أن يبتعد عن الجدل المذموم، والجدل ليس هو الحوار، فالحوار غايته البحث عن الحق ووسيلته الأدلة والمنطق العقلي والاستدلال السليم، أما الجدل فغايته الانتصار للرأي والدفاع عنه، عناداً وإصراراً وهذا يؤدي إلى المخاصمة والمنازعة والأحقاد، وطالب العلم يحاور ولا يجادل، ويتحرى الحق ولا يتجاوزه، ويكون أخلاقي الغاية والكلمة واللهجة، لا يتحدى ولا يسيء إذا انكشف له الحق والتزم به، وطالب العلم هو طالب المعرفة، فمن جادل فهو لا يريد المعرفة، وإنما يريد الانتصار لإشباع رغباته وأهوائه، وهذه هي أخطر آفات العلم والعلماء، فمن تزكت نفسه لم يجادل، لئلا ينطفىء النور في قلبه.

رابعاً:

أن يحسن الاستفادة من العلم، وذلك بالحرص على اقتناء المعارف وحسن اختيار الأفضل منها الذي يفيده في دنياه وفي آخرته، وليس هناك شيء مذموم في العلم، والمذموم هو كيفية التصرف في العلم وتوجيهه بطريقة خاطئة، ومن الاستفادة من العلم أن يساعد صاحبه على معرفة الأشياء كما هي في حقيقتها، لا كما يصورها الجهل، فالجهل يغير معالم الأشياء، فما يكون حسناً يجعله الجهل قبيحاً، والقبح ناتج عن التصور الخاطىء للأشياء ولا يمكن للعالم أن يحسن العطاء إلا أن يحسن الفهم أولاً ولا يحسن الفهم إلا بحسن التلقي، فمن تلقى العلم وهو صادق في ذلك فهم الأشياء وأدرك حسن ما هو حسن وما هو قبيح من الأمور، والعلم مرآة تنطبع فيها حقيقة الأشياء كما هي، ولابد من النور لكي تظهر الحقيقة صحيحة في المرأة من غير ما يكدر صفاءها.

ولا حدود لآداب العلم، والعلم لابد فيه من حسن التفكر فيه، لكي تنكشف الحقيقة المرجوة من العلم، والعقل هو النور الذي تدرك به المعلومات، وغاية العلم هو إصلاح النفوس بالتزام الفضائل والابتعاد عن الرذائل، فمن قصد بالعلم هذا الهدف فهو مطوق بالرعاية ومحفوف بالعناية، لأن الله تعالى يتولاه في رحلته العلمية، من ظلمة إلى نور، وإن أراد بعلمه الدنيا وزينتها طمعاً في مكانة أو جاه أو مال فقد حجبه الظلام الذي يطوقه عن النور الذي يقذفه الله في قلوب العلماء، فكان علمهم مطية لضلالهم. هذا ما كان الشيخ ينصح به طلاب العلم من أبناء المدرسة، كان يجد في ملامحهم ما كان يطمح فيه، كان يريدهم أن يكونوا أثره الباقي وكتابه المقروء.

وفي الوقت الذي كان الشيخ يحضهم على الالتزام بآداب العلم كان يحذرهم كل التحذير من أن يكونوا من علماء السوء الذين لا يخشون الله فيما يقولون وفيما يفعلون، أو يقولون ما لا يفعلون.

وقد قال الله تعالى في وصف هؤلاء الذين يحسنون القول ولا يحسنون العمل {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد} [البقرة: 204 ـ 206].

وكما أن السفهاء يجب ألا يمكنوا من أموالهم ما لم يؤنس منهم الرشد لئلا يسيئوا في استعمال الأموال ويصرفوها في غير مصارفها الصحيحة فكذلك لا يجوز أن يتمكّن السفهاء من العلم لئلا يستخدموه في غير موضعه، كي لا يبيعوا دينهم بدنياهم ويبررون المظالم والمفاسد، ويدافعون عن الباطل ويتحالفون مع رموز الشر في المجتمع، فيصدرون الفتاوى الباطلة ويستخدمون سلاح العلم لتشويه قيم الإسلام العادلة.

وعلماء السوء هم هؤلاء، يكتمون ما أنزل الله من الكتاب وقال الله فيهم: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [البقرة: 174]

وقال أيضاً: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً} [آل عمران: 187].

وكتمان العلم هو إخفاؤه وستر حقيقته، وإبراز صورة أخرى مغايرة لتلك الحقيقة، إما للتقرب من صاحب سلطة ونفوذ تملقاً له أو خوفاً منه، والتملق صفة مرتبطة بالطمع فيما عند الآخر، فمن طمع في مال تملق صاحب المال للتقرب منه رغبة في الحصول على الشيء المطموع، ومن طمع في سلطة تقرب من صاحب السلطة للحصول على الشيء المرغوب، والتملق هو صفة المنافقين الذين يكتمون الحق لكي لا يغضبوا من يخشى من الحق ويتهيب منه، فمن زهد في الشيء المرغوب فيه فلا يجد المبرر لكتمان الحق الذي أنزله الله في كتابه.

ومن أراد الحياة الدنيا وزينتها من أهل العلم فلابد له من كتمان الحق للحصول على ما يطمع فيه، وهو آثم في ذلك خائن للأمانة، لأن كتمانه للحق هو تغرير بالناس، والعامة تفترض الصدق والأمانة والنزاهة في العلماء وتثق بما يقولون.

كان الشيخ في لقاءاته بطلاب العلم يحدثهم عن مسؤولية العالم في عدم كتمان الحق الذي أمر الله أهل العلم ببيانه للناس، فالعلم ليست غايته التباهي به في المجالس ومجاراة السفهاء من الناس بمدحهم والتقرب إليهم، وإنما غايته معرفة الحق الذي أمر الله به، فمن فعل ذلك فهو من العلماء الصالحين الذين يعملون بما يعلمون ومن لم يفعل ذلك فهو من علماء السوء الذين يكتمون الحق ولا يبيّنونه للناس. لم يكن الشيخ في مجالس التربية يهدف إلى نقد أحد أو الإساءة إليه، وإنما كان يهدف إلى التعليم والتكوين، فهو في موطن المرشد، والمعلم، ولا يجوز لمرشد في موقف النصح والإرشاد أن يكتم الحق، ولابد له من التحذير والتنبيه، تلك كلمات تلقى في القلوب كما تلقى بذور الأزهار في الأرض الخصبة، وسرعان ما تنبت الزروع والأغراس الخضراء التي تورق وتزهر وتثمر، وكذلك دور المرشد أن يلقي كلمته الصادقة والناصحة في قلوب طلابه وتلامذته ومريديه، ولابد إلا أن تنبت يوماً عندما يحين موعد الربيع وهو الفصل الذي تزهر فيه الزروع وتثمر.

في مجلس الإرشاد لابد من التشجيع والتحذير، فغاية التشجيع هو أن يزداد التعلق بالفضائل الأخلاقية لكي تكون محبوبة، فإذا أحبها المتعلم تعلق بها، وغاية التحذير أن يبتعد المتعلم عنها ولا يمكن أن يبتعد عنها ما لم يجد صفة القبح فيها فإذا رأى قبح الأفعال القبيحة كرهها، والمكروه تنفر منه النفوس ولا تستلذه ولو كان لذيذاً.

وهنا يبرز دور المربي والمرشد في تكوين القابليات وفي صياغتها، لكي تكون منسجمة مع قيم الكمال التي تجسدها التربية الإسلامية وطلاب العلم هم أولى الناس بالتكوين، لأنهم علماء الغد، إذا صلحوا صلح المجتمع بصلاحهم وإذا فسدوا أفسدوا القيم وانحدروا بها وزينوا للناس سيء الأعمال.

( الزيارات : 3٬604 )

One thought on “وصية الشيخ النبهان لطلاب العلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *