اصدقاء الفكر ومقومات الصداقة

: أصدقاء الفكر

لا يستقيم الحديث عن الصداقة والأصدقاء إلا في ظل المحبة المتبادلة بين الناس، فالمحبة توجد الاستعداد للتعاون والتقارب، ومع وجود المحبة تقل الحاجة للعدالة القانونية والفقهية، فالمتحابون يحتكمون لميزان أخلاقي يعمق أواصر المودة، وليس إلى ميزان العدالة القضائية الزجرية، ففي ظل المحبة يوجد التناصف أولا ويوجد الإيثار ثانيا، وبفضل المحبة تسهل المطالب وينمو الشعور بالتعاون.

والمحبة قد تنعقد سريعة وتنتهي سريعة إذا ارتبطت بالمنافع والملذات، وقد تنعقد سريعة وتنتهي بطيئة إذا ارتبطت بفعل الخير ولأجل الخير، والخير شيء ثابت وغير متغير، ولذلك فالمحبة تبقى ثابتة وغير متغيرة، وتولد الصداقة الدائمة..

قال ابن مسكويه:

الإنسان محتاج إلى الصديق عند حسن الحال وعند سوء الحال، لحاجته إليه في كلتا الحالتين، وذلك انه عند سوء الحال يحتاج إلى معونة الأصدقاء وعند حسن الحال يحتاج إلى المؤانسة…

والصداقة هي بحث عن السعادة، وهي انتقال من النقص إلى الكمال، والإنسان يجد تمامه في الآخر، ولهذا فلا يتحقق الاجتماع الإنساني إلا بالمحبة والصداقة…

كنت اعتز بأصدقائي واجد لذة في هذه الصداقة، بالرغم من قلة التواصل، ومع هذا فان الصداقة تبقى دائمة… ولا شيء يزعجني كالعداوة والجفاء والخلاف…

في كل بلد كنت أعيش فيه كنت احرص على تكوين مجتمع خاص بي، أتحرك في فضائه واشعر انه مجتمعي الذي يشعرني بالدفء، ولذلك لم أضق بإسفاري وبالغربة التي دامت أكثر من خمسين عاما، منذ أن كنت في الثامنة عشرة من عمري …

كنت أحب الإبحار، واقف في كل الموانئ التي مررت بها، واترك في بعض زواياها بقايا من ذكرياتي، وأسجل بعض كلماتي على جدرانها الأثرية، لعلها أن تقرأ يوما، وهي ذكريات سائح يبحث عن ضالته.. 

لا ادري حتى اليوم .. ما هي ضالتي التي أرهقني الجري وراءها، وأصبحت ألهث ولا اتعب، قد توقفني الشيخوخة يوما ولابد من ذلك، ولكن هل سأكون سعيدا إذا توقف قطاري يوما في محطته الأخيرة…

وجوه كثيرة مرت بي…مازالت ملامحها كما رأيتها لأول مرة في ذاكرتي، لو رأيتها اليوم لما عرفتها…واحسبها مازالت كما كانت في نضرتها وشبابها…

زرت صديقا لي في القاهرة، رأيته جالسا على نفس الكرسي الذي كان يجلس عليه قبل ثلاثين عاما، وفي نفس الزاوية المظلمة، مازال الكرسي كما هو لم يتغير، ولكن الصديق لم اعرفه، … أصبح شيخا مقعداً يحدق بي من خلف نظارته الطبية الغليظة، ويتأملني من جديد، أخافتني نظراته اليائسة المحبطة بعد أن كان في قمة شبابه ونضارته… 

ثلاثون عاما وهو يجلس على هذا الكرسي من الصباح إلى المساء، لم يتغيب يوما عن عمله، وما ضاق بعزلته هذه… هذا هو عالمه وهذا هو كونه…

كنت أحب زيارة كل بلد كنت فيها من قبل، وكل درب مشيت فيه، وكل زاوية جلست فيها، كنت ابحث عن داري القديمة التي ولدت فيها ولعبت في فنائها الخارجي وجريت في دروبها الضيقة في أيام الشتاء الباردة في طريقي إلى المدرسة صباح مساء…

كل شيء كما كان… الدروب والدور والجدران والأشجار العتيقة والمآذن الأثرية والحوانيت المتهالكة في المدينة القديمة، لاشيء تغير سوى الإنسان، والإنسان هو الوحيد الذي يضعف ويشيخ ويصاب بالعجز ويستسلم ويرحل، ويخلفه جيل جديد وكأنه أقوى من الزمن، وأكثر خلودا من المباني الحجرية القوية…هو الحياة وأداة استمرارها…

وإنسان اليوم هو إنسان الأمس بإرادته وعقله وقوته، إلا أن اختياراته مختلفة، هو نفسه وهو غيره، في استعدادات جديدة وقابليات غير محدودة…ولابد من الاعتراف به ليس كامتداد للسابقين وإنما كوريث شرعي انتقلت إليه مسؤولية الحكم والتدبير، لقد توقف عهد السابقين وبدأ عهد اللاحقين…ولا سلطة لسابق على لاحق…

أصدقائي القدامى هم كما كانوا من قبل..كنا نلتقي فجأة وعلى غير توقع…كل واحد منا تغيرت ملامحه وأصبح عبئا على ذاته…لم تعد ابتسامته كما كانت من قبل عريضة قوية حية، لقد ثقل عليه حمله، وضاقت به أرضه، وأرهقته الأيام ورأى من قلة وفاء الأقربين ما جعله يتطلع إلى كلمة وفاء من الأبعدين، ما لأجل هذا كان الجهد والشقاء، وابتدأت ابتسامة الأمل يخبو بريقها وكأنها شعلة نفد زيتها…

كنا نلتقي من بعيد…نستعيد ذكريات الأمس الجميلة.. والعيون تنطق بما تخفيه الألسن من هموم الأيام…وقلما يحدث احد صديقه بما يقلقه أو يعذبه، وتغيب الشمس خلف الأفق وينكفئ كل فرد إلى ذاته يحدثها بما يثقل كاهله من هموم الأيام…

ما أروع دروس الحياة وهي تقص علينا قصص الأولين… وتعلمنا أن الحياة مهما أشرقت شمسها فلابد ألا أن تغيب يوما، وينطفئ في الكون ذلك الوهج الذي ينير الأرض بالضياء والأمل…

ليست الصداقة مجرد لقاء تعارف، وإنما هي علاقة اجتماعية دافئة مع إنسان يفهمك جيدا وترتاح إليه وتلتقي معه في آمالك، تحدثه عما يجول في خاطرك، وتكاشفه بما لا تستطيع البوح به من أفكارك وآرائك… واعترف أن هذا النموذج من الناس قد يكون ناذرا، إلا انه لابد من وجوده، لان الإنسان يحتاج إلى غيره…

في كل بلد عشت لمدة قصيرة أو طويلة تركت فيه ذكريات خاصة ولقاءات أخوية، وربما يكون المغرب هو البلد الذي شهد أجمل لقاءاتي واعز أصدقائي، فقد كنت في حركة اجتماعية متواصلة، ونشاط ثقافي مستمر، وكنت أتنقل بين المدن المغربية، للمشاركة في الندوات والمؤتمرات واللقاءات الثقافية، وكنت سعيدا بذلك، وفي كل مدينة في المغرب كان لي أصدقاء، كنت احضر استجابة لهم وحرصا مني على أن أشاركهم في نشاطاتهم الثقافية، ولم أضق قط بما كان يصيبني من تعب ومشقة وما أحس به من إرهاق، فقد كان هناك شعور داخلي يدفعني لهذه المشاركات، التي كنت أجدها جزءا من مسؤولياتي الأخلاقية، وكنت أجد حرجا في الاعتذار أو التخلف، فما كنت أحس به من محبة الآخرين كان يدفعني لكي أكون معهم في آمالهم..

لا شيء أجمل من أن تشعر بمحبة الآخرين لك، وكنت الضيف المرحب به في كل اللقاءات الثقافية، وكان هذا مما يشعرني بالمسؤولية…

ويجب أن أشيد بما كنت المسه من أصدقائي المغاربة من محبة صادقة ومن رحابة في الصدر ومن عواطف التقدير، وهذا يدل على أصالة القيم المغربية وعلى مكانة العلم في قلوبهم، ولن أنسى أبداً ما كنت اشعر به من سعادة وسرور…

ومن الصعب أن اذكر أصدقائي، وهم كثر، واعتز بهم، إلا أنني سأذكر بعضهم، بحسب بلادهم، وكان لكل فترة تاريخها، ومن المؤكد أن معظم أصدقائي في المغرب نظرا لأنها الفترة الأطول في حياتي، أما في سوريا فكان معظم أصدقائي هم أصدقاء الطفولة وأصدقاء القرابة والانتماء…

( الزيارات : 724 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *