أصدقائي المغاربة..ذكريات مضيئة

في زيارتي الأولى إلى المغرب بدأت الصداقات الأولى، واقتصرت على الشخصيات الرسمية التي عرفتها من خلال مشاركتي في الدروس الحسنية، واعترف أن الشخصية المغربية محببة وودودة ومنفتحة، ومن اليسير على أي زائر للمغرب أن يجد صدورا رحبة، والمغاربة يحبون المشارقة ويعجبون بهم ويعرفون الكثير عن المشرق العربي وشعوبه ومجتمعاته وخصائصه…

أول من عرفته من المغرب هو الأستاذ محمد المكي الناصري، وكان يومئذ وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية ووزيرا للثقافة، وهو شخصية متميزة في مواقفها الوطنية ورئيس حزب وطني وهو عالم ومفكر إسلامي، وخطيب متمكن، عرفته أولا في الكويت خلال مؤتمر وزراء الأوقاف العرب، ودعاني لأول مرة للمشاركة في الدروس الحسنية، وخلال هذه الزيارة الأولى بدأت صداقاتي الأولى، عرفت الحاج محمد أبا حنيني وهو الوزير القوي وصاحب النفوذ الكبير، ثم عرفت السيد الداي ولد سيدي بابا وكان وزيرا للتربية وهو من الشخصيات المحترمة والمعروفة بالاستقامة والنزاهة والدبلوماسية، شغل مناصب قيادية وآخرها منصب رئيس مجلس النواب.

وأتيحت لي في زيارتي الأولى للمغرب أن أتعرف على الأستاذ علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال والشخصية الوطنية الأولى المعروفة بجهادها في سبيل التحرير والاستقلال، ودعاني لحفل إفطار في داره الواسعة في طريق زعير، وتوفي في العام التالي…ومازالت آثاره واضحة ومواقفه في موطن الإشادة والتقدير…وشاركت عدة مرات في ذكراه السنوية كما شاركت في ندوة للتعريف بأفكاره ومواقفه…

وعرفت الأستاذ احمد بنسودة وكان يشغل منصب مدير الديوان الملكي ثم منصب مستشار الملك، وكان من اعز الأصدقاء وأكثرهم وفاء ومودة، وينتمي لأسرة علمية عريقة اشتهرت بمدينة فاس بعلمائها في القرويين، وحمل الأستاذ بنسودة هذا التراث الأصيل، وكان يفخر به ويفخر بتاريخ أسرته العلمي، وهو كاتب لامع وخطيب مفوه ووطني شارك في مسيرة الاستقلال، كنا نصلي الجمعة معا في مسجد أهل فاس في المشور السعيد داخل أسوار القصر، وهو المسجد الرسمي الذي يصلي فيه الملك صلاة العيد…وكنا نجلس متجاورين في المسجد لمدة عشرين عاما، ثم نتابع جلستنا بعد صلاة الجمعة لمدة نصف ساعة نتحدث في موضوعات ثقافية وسياسية، كما نتحدث في بعض القضايا العربية التي كانت تشغل اهتمامنا…

ويحلو له أن يحدثني عن تاريخ الأسرة السودية وهي أسرة بنسودة، وعن أجداده الذين كانوا يعملون في خدمة ملوك الدولة العلوية، واشتهر الأستاذ بنسودة بحبه للعلماء وكان يفتح لهم صدره وقلبه ويحل لهم مشاكلهم، ويدافع عنهم، ويرشح من يراه جديرا لمسؤوليات إدارية، وكانت له صداقات قوية وكثيرة مع عدد من ملوك ورؤساء الدول العربية ومع القيادات الفلسطينية، ولما أقعده المرض أقامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية حفل تكريم له، وكلفوني أن القي كلمة في هذا الحفل، وأحيل على التقاعد في عهد الملك محمد السادس بسبب مرضه…

ومن ابرز أصدقائي الأستاذ عبد الوهاب بنمنصور مؤرخ المملكة ومدير  الوثائق الملكية، وكنا على اتصال دائم، وهو رجل عاقل وذو تجربة واسعة وخبرة وكفاءة، وهو حجة في تاريخ المغرب وفي معرفة الوثائق المغربية والمراسلات السلطانية، عرفت الأستاذ بنمنصور منذ الأيام الأولى في المغرب، واستمرت الصداقة بيننا، وكنت أثق به وأستشيره فيما لا اعلمه من تقاليد القصر، وهو من أقدم العاملين في القصر منذ أيام المرحوم محمد الخامس واستمر في مهماته في عهد المرحوم الحسن الثاني والملك محمد السادس، وكان يصدر كتابا وثائقيا بعنوان انبعاث امة عن النشاط الملكي، كما اصدر موسوعة عن الوثائق وأعلام المغرب…ولما أقامت كلية الآداب بجامعة الدار البيضاء حفل تكريم له دعتني لإلقاء كلمة في هذا الحفل…

وممن عرفته الوزير الحاج محمد با حنيني الرجل القوي وصاحب النفوذ الأول بين الوزراء، وكان من رموز العهد الحسني وأعمدته، وتولى عدة وزارات وهو الوزير على امتداد العهد الحسني إلى أن توفاه الله، كانت تربطني به صلة وثيقة وصداقة قوية، وكان مكلفا بالمصالح الإدارية والمالية للقصر، وعندما استلمت إدارة دار الحديث الحسنية كلفه الملك أن يرأس حفل التنصيب وألقى كلمة رائعة وهي قطعة أدبية تدل على جزالة أسلوبه وأناقة تعبيره.

وكان من أكرم الرجال خلقا وأكثرهم نبلا، كان يحبني وأحبه، وكان الأقرب إلي، واشتهر بالنزاهة والاستقامة، وكان الملك يثق به ويعهد إليه بالمهمات الصعبة، وكان ولاؤه للقصر لا حدود له، وكنت التقي به باستمرار، وأطلعه على كل ما يصادفني من عقبات، وفجأة تغيرت القلوب على غير توقع، وحاولت إصلاح الأمر بكل طاقتي ولم استطع، وحزنت الحزن الكبير لأنني فقدت صديقا كنت احرص على صداقته، ولما التقينا بعد فترة طويلة تعاتبنا وتصارحنا وأفضى كل منا إلى الآخر بما أدى إلى تلك القطيعة، وعادت الصداقة والمودة، ولما انتقل إلى الرفيق الأعلى عام 1990 م ألقيت في حفل تأبينه كلمة مؤثرة أشدت فيها بما اعرفه من خصاله الرفيعة..

وكانت هذه الواقعة هي الأكثر صعوبة ومشقة في حياتي الأولى في المغرب، وقد تكون الأقسى في الحقبة المغربية كلها، تعلمت منها ما يجب أن أتعلمه من دروس وعبر… أصبحت فيما بعد أكثر حذرا، واكتشفت ما يجب أن أعرفه من تيارات متناقضة، وتقاطعات قد لا تكون ظاهرة..

وهذه الواقعة كانت هي المنعطف الأهم في تلك الحقبة الأولى، وحاولت بعدها أن أعتمد على نفسي في حكمي على الأشياء، وان اعتمد مبدأ التوازن في علاقاتي الشخصية، وان احكم خطواتي في مجال العمل.

ومن أصدقائي المقربين الدكتور عباس الجراري وهو من الباحثين الجادين في مجال الأدب المغربي، وكان يطلق عليه لقب عميد الأدب المغربي، كنا نلتقي باستمرار، في المجالس الخاصة وفي رحاب الأكاديمية وفي الأسفار والمؤتمرات، وكان يتميز بالأدب والخلق والنبل، وهو صديق وفي، وكنا نسافر معا إلى عمان لحضور اجتماعات المجمع الملكي لبحوث الحضارة، ونقضي حياتنا معا ونتبادل الأحاديث الودية…

ولما أقامت له كلية اللغة بمراكش حفلا تكريميا دعتني لإلقاء كلمة في هذا الحفل، وقد تكلمت عنه بما اعرفه من علمه وخصاله الرفيعة، وفي بداية عهد الملك محمد السادس عينه مستشارا له وكلفه بالإشراف على الشؤون الإسلامية والثقافية..

وكانت تربطني صلة صداقة ومودة بالدكتور عبد الهادي بوطالب السياسي المغربي البارز المعروف بمشاركته الثقافية في مختلف اللقاءات الفكرية، وتولى أعلى المناصب في المغرب، سفارات عدة ووزارات مختلفة ورئاسة مجلس النواب ومدير عام لمنظمة الإيسيسكو ومستشار الملك، وكان وثيق الصلة بالملك الحسن الثاني ويثق به ويكلفه بالمهمات الرسمية، وكنا زملاء في الأكاديمية المغربية وفي المجمع الملكي الأردني، وهو يتمتع برؤية سديدة وبسعة أفق في القضايا الإسلامية، ويتميز بالصراحة والشجاعة في إبداء رأيه، وكنت احترمه واقدره، وعندما عينت في الأكاديمية كلفه الملك أن يلقي خطاب الترحيب بي كعضو جديد في الأكاديمية..

أما أصدقائي في الأكاديمية المغربية فهم كثر واعتز بهم، فهم زملاء لمدة عشرين سنة في الأكاديمية، نجتمع كل أسبوعين لمناقشة بحث يقدمه احد الأعضاء، نتحاور ونتناقش، نتفق ونختلف، وفي حال الاختلاف يكون الحوار لطيفا ومهذبا، وقلما لاحظت شططا أو إساءة في النقاش، بالرغم من تعدد المدارس الفكرية التي ينتمي إليها الأعضاء، وكل عضو يتميز بموقف خاص به، ويعرف بدفاعه عن قضية معينة، ومع هذا فالحوار مفيد ودال على احترام هذه التعددية…

كنت أحيانا أتأمل فيما كنت أراه في لقاءات الأكاديمية، من تناقضات مثيرة للانتباه، وبخاصة عندما كنت أجد حوارا جادا بين شخصيتين ينتمي كل منهما إلى خط فكري مغاير كل المغايرة للخط الأول.       

رأيت مرة الشيخ عبدا لله شاكر الكر سيفي الفقيه المالكي الذي ينتمي إلى علماء سوس في الجنوب المغربي وهو يجلس على مائدة الطعام مع رائد الفضاء الأمريكي اومسترونج الذي هبط على القمر، وهما يتحاوران، أثار هذا المشهد انتباه أعضاء الأكاديمية الآخرين، والتقط احدهم صورة تذكارية لهذا اللقاء…

مما كان يثير إعجابي شخصية الأستاذ عبدا لله كنون الأمين العام لرابطة علماء المغرب، كان شخصية متميزة واسعة الأفق ويملك خبرة واسعة في مجال العمل الإسلامي، وكانت مشاركته في دورات الأكاديمية جيدة وعميقة، وكانت تربطني به صلة وثيقة وصداقة متينة، وكان يدعوني باستمرار لحضور اجتماعات رابطة علماء المغرب، ويحرص على أن أكون إلى جانبه، وكنت معجبا بحكمته وسداد رأيه، وبخاصة في إدارة شؤون الرابطة، وليس من اليسير التحكم في اندفاعات العلماء وجموح عواطفهم في بعض المواقف، وكان يتدخل بحكمته لوقف تلك الاندفاعات في التوصيات، ولما انتقل إلى رحاب الله فقدت الرابطة قوتها وضعف نفوذها …

كما كنت انظر بإعجاب إلى الصديق المجاهد أبي بكر القادري، وكان من رموز حزب الاستقلال التاريخية، وممن سجلوا تاريخ الحركة الوطنية، كان رجلا نشيطا ومسلما ملتزما ومغربيا أصيلا، ووطنيا مخلصا، وكنت أحبه وأقدر جهاده، كان يحدثني عن أسرار الحركة الوطنية ورموزها، وفيما كتبه عن الحركة الوطنية كان منصفا ونزيها، وحظيت مذكراته عن تاريخ الحركة الوطنية باهتمام المؤرخين المعاصرين…

وكانت تربطني صلة صداقة بمعظم قيادات حزب الاستقلال، وكنت احترم مبادئ الحزب وأقدر جهاده في سبيل الاستقلال، والمغرب مدين لجهاد هذا الحزب، ولمواقفه الشجاعة، ويضم هذا الحزب أفضل الكفاءات الوطنية المخلصة، ومعظم الشخصيات الوطنية تربت في أحضان الحزب قبل الاستقلال ثم وقع الانشقاق الكبير بعد الاستقلال وأدى ذلك إلى قيام أحزاب جديدة…

وكنت اعتز بصداقة الأستاذ محمد بوستة الأمين العام لحزب الاستقلال وخليفة الأستاذ علال الفاسي، وهو شخصية وطنية اشتهرت بالنزاهة والاستقامة والحكمة، وتولى وزارة الدولة للشؤون الخارجية، وكنا نلتقي في المناسبات الخاصة والعامة، وكان يزوروني وأزوره، وكنا نتبادل الأحاديث في الشؤون السياسية، كنت أجد فيه حكمة واعتدالا، وكان واضح الاعتزاز بالقيم الإسلامية، مدافعا عن اللغة العربية مؤمنا بفكرة التعريب، وهي مبادئ حزب الاستقلال، ويرفع حزب الاستقلال شعار التعادلية كبديل عن شعار الاشتراكية.

ولما استقال الأستاذ محمد بوستة من رئاسة حزب الاستقلال انتخب الأستاذ عباس الفاسي وهو صهر الأستاذ علال الفاسي، وهو من أعز الأصدقاء وأكثرهم مودة ووفاء، كنت أقدره منذ عرفته في الأيام الأولى في المغرب، وكان وزيرا للسكنى ثم أصبح سفيرا في تونس وفرنسا، وهو الآن وزير في حكومة التناوب الثانية ..

وممن اعتز بصداقته أخي الدكتور إدريس الضحاك الرجل الفاضل النبيل الذي كنا نلتقي باستمرار، وأحمل له في نفسي كل المحبة والتقدير، إنه يمتاز بالخلق الرفيع، والنبل والوفاء، عرفته لأول مرة عندما كان مديرا لمعهد القضاء، ثم أصبح سفيرا بدمشق، ثم تولى رئاسة المجلس الأعلى للقضاء وهو زميل في الأكاديمية…كنت أدعوه أحيانا للمشاركة في النشاطات العلمية والثقافية لدار الحديث، وكان مختصا بالقانون البحري والشواطئ البحرية والممرات الدولية، كما كان مهتما بحقوق الإنسان…

ومن أصدقائي الدكتور محمد بنشريفة المختص بالدراسات الأندلسية والأستاذ عبد العزيز بنعبد الله الباحث المغربي، والدكتور عبد الهادي التازي المختص بالتاريخ الدبلوماسي للمغرب والدكتور إدريس العلوي العبدلاوي الرئيس السابق لجامعة القرويين والدكتور آمال جلال رئيس جامعة فاس ووالي فاس، والمجاهد الكبير الدكتور عبد الكريم الخطيب والأستاذ محمد شفيق صاحب قاموس اللغة الأمازيغية والدكتور إدريس خليل عالم الرياضيات والدكتور احمد رمزي الوزير السابق والمدير العلمي للأكاديمية، والدكتور يوسف الكتاني المحدث والدكتور حمزة الكتاني الوزير السابق .

لا حدود لصداقاتي في المغرب، ولست مبالغا إذا قلت أن أصدقائي في المغرب لا يحصون، ذكرت أسماء مائة منهم في كتابي الآخر بعنوان: ” ربع قرن في ضيافة ملك المغرب ” والفضل في ذلك لهؤلاء الأصدقاء الذين طوقوني بثقتهم ومحبتهم، فلم أشعر قط أنني في بلد غريب، كانت قلوبهم مفتوحة لي، كنت إذا دعوتهم إلى داري لبوا الدعوة مسرورين و إذا دعوني إلى دورهم أحاطوني بالتكريم، كنت أحبهم ويحبوني، لم نختلف قط على أمر من الأمور، و إذا ما وقع سوء تفاهم فسرعان ما تنجلي الأمور عندما تتضح الحقيقة..

ما أجمل الصداقة إذا كانت خالية من الأغراض، وما أدومها إذا احترم كل فريق حقوق الآخرين عليه، كنت اعلم أن رصيدي هو ذلك الحب الذي املكه في قلوب الآخرين، وتلك السمعة التي تسبقني إلى كل مجلس أرتاده، ذلك هو رصيدي، وذلك ما كنت أحرص عليه… كنت في نظر المغاربة الضيف الذي اختاره الملك، وكانوا يرقبون حركتي، فان أحسنت فان الحسنة سوف تكبر عشر أمثالها، وإن أسأت فإن الإساءة ستكبر مائة مرة، كنت أحرص على أن أكون الضيف الذي لا يخيب الظن به، هذا ما كنت أحرص عليه ..

لا أدري إلى أي مدى وفقت إلى تحقيق ذلك… ومن المؤكد أن المغرب أعطاني الكثير من المحبة والمودة والوفاء، وأنا مدين بذلك، ولم أستطع أن أعطي المغرب إلا مشاعر المحبة الصادقة، والإعراب عن الاعتزاز بهذه الحقبة التاريخية التي قضيت فيها ربع قرن في المغرب ..

عندما أتذكر ملامح أصدقائي المغاربة ومواقفهم اشتاق لتلك الفترة واسترجع ذكرياتي السابقة، ذكريات الأمس الجميل لن يطويها الليل أبدا، ستظل قبسا منيرا يطل من خلف الأفق يلوح لي بيديه كما تذكرته، ويخاطبني بلغة هامسة ويوقظ في كياني الشعور بالفرحة والسرور..

عندما أمشي في مدينة الرباط وفي أحيائها وشوارعها أتذكر شيئا جميلا، هناك في الزاوية يسكن صديق وهنا على اليمين أو على اليسار وقفت يوما لأمر ما أو مررت من هذا المكان قبل سنوات، و عندما تذكر مدينة مغربية في الشمال أو الجنوب أو الشرق أتذكر ملامحها وشوارعها ومن عرفته فيها من الأصدقاء .

ما أزال أتذكر منطقة سوس الجنوبية، ومدنها العريقة، ومدينة تارودانت التاريخية شهدت لقاءا ثقافيا هاما نظمته وزارة الشؤون الثقافية، مازلت اذكر فيها الأستاذ محمد بن عيسى وزير الثقافة آنذاك وهو يطوف بين رموز الثقافة المغربية والعربية، ومدينة اكادير وقد شهدت عشرات اللقاءات الثقافية والمؤتمرات الدولية، مؤتمر رابطة العلماء ومؤتمرات إسلامية وندوات فكرية وتذكرت زيارتي لبعض المدن في سوس والمدارس العتيقة، والأسر السوسية المحبة للعلم والعلماء، في سوس تجد المغرب الأصيل بتقاليده العريقة، والحوارات الثقافية في أمسيات العشاء، و في مراكش الحمراء تجد الفرحة والسرور والبهجة، هناك تقام أفضل المؤتمرات وأحسن اللقاءات، لا تشعر بجفاف المؤتمر ولا تضيق بجدول أعماله، يكفيك أن ترى مراكش البهجة تناديك لياليها أن تمشي في شوارعها ونسمات الليل تداعبك، وتعترضك عربة تقليدية سوداء تجرها الخيول، وتضعف إرادتك، وتستجيب لنداء سائقها الذي يأخذك إلى ساحة جامع الفنا، هناك تنسى نفسك ومن أنت، وتعيش لحظات حالمة وأنت تتسكع بين الحالمين الذين يطوفون حول الساحة باحثين عن تراث المغرب كما يقدمه أبناؤه .

في أقصى المشرق وعلى الحدود الجزائرية تجد مغربا مغايرا ومختلفا، في لهجته وملامح أهله وعاداته، هناك مدينة وجدة وما حولها من مدن، التقاليد الأصيلة والقيم الإسلامية الراسخة، فقد زرت وجدة مرات عديدة وحضرت عدة ندوات ثقافية نظمتها جامعة وجدة في كلية الحقوق وكلية الآداب، والمراكز الثقافية، وفي كل زيارة إلى وجدة كنت اكتشف خصوصيات المنطقة الشرقية الغنية بتاريخها وتراثها، كانت المدينة ترقص فرحا عندما تقام فيها ندوة ثقافية أو تظاهرة علمية، وقد نظمت جمعية علماء خريجي دار الحديث الحسنية احد مؤتمراتها في مدينة وجدة، كانت المدينة كلها تشارك في هذه التظاهرة الثقافية التي ضمت أكثر من ثلاثمائة خريج وألقيت كلمة في هذا المؤتمر وبالقرب من وجدة شاركت في مؤتمر علماء المغرب الذي عقد في مدينة الحسيمة والناظور، وما أزال اذكر دور الأستاذ عبد الله كنون في تنظيم هذا المؤتمر الذي حضره احمد بن سودة مستشار الملك و عدد من الوزراء و كبار المسؤولين بالإضافة إلى أكثر من ثلاثمائة عالم من علماء المغرب…

و لو انتقلنا إلى المنطقة الشمالية المطلة على البحر الأبيض المتوسط لوجدنا مدينة تطوان العريقة ذات التاريخ العلمي والثقافي والتي تحتضن كلية أصول الدين وهناك عدد كبير من طلابي الذين أشرفت على أطروحاتهم  في دار الحديث، كانوا باقة مختارة من أفضل علماء المغرب، كنت اعتز بهم وافتخر بإنتاجهم العلمي، وكان عميد الكلية الأستاذ محمد حدو امزيان من الشخصيات الوطنية والعلمية الذين يملكون الذكاء والعلم والتجربة وسعة الأفق، ولما انتقل إلى رحاب الله خلفه في العمادة الدكتور إدريس خليفة وهو أحد طلابي الذين اعتز بهم، علما وأدبا وخلقا، وفي طنجة التي كنت أزورها  باستمرار كنت أجد آثار الحضارة الأوربية في تخطيط شوارعها وأبنيتها وأسواقها، وكانت خاضعة لوصاية دولية على شؤونها وكنا نحضر باستمرار في قصر مرشان الشهير اللقاءات الثقافية والمؤتمرات الوطنية، و كان الأستاذ عبد الله كنون الأمين العام لرابطة علماء المغرب يقطن في هذه المدينة في دار عربية جميلة تذكرك بالدور الأندلسية العريقة، ولما انتقل إلى رحاب الله أقيمت في قصر مرشان حفلة لتأبين الفقيد الكبير حضره علماء المغرب ووفد رسمي كبير أوفده الملك للمشاركة في هذا الحفل، وألقيت في هذه المناسبة كلمة مؤثرة عن شخصية الفقيد الكبير الذي كنت قد زرته قبل وفاته بأيام، ولم أكن اعلم أنها الزيارة الأخيرة التي ودعته فيها، وانتخب العلماء الشيخ محمد مكي الناصري لكي يكون الأمين العام للرابطة، كما زرنا طنجة عندما أبحرت بنا سفينة الوحدة المغاربية التي كانت تضم خمسمائة شخصية من دول المغرب العربي، وزارت السفينة عواصم المغرب العربي، الجزائر تونس وليبيا، من غير جوازات سفر، واستقبلت من رؤساء الدول، كما استقبلت بحماس من الجماهير التي احتشدت في الموانئ التي مرت بها السفينة، ألقيت خلال الرحلة محاضرة في السفينة عن المغرب العربي الموحد[1] ، لقيت استحسانا من المشاركين في الرحلة. ..

كما حضرت إلى طنجة مرتين على متن القطار الوطني الذي مر على مدينة أصيلة والذي يحيي ذكرى رحلة الملك محمد الخامس إلى طنجة  قبل نصف قرن للتأكيد على وحدة المغرب والمطالبة بتحرير المدينة من الإدارة الدولية، وسميت الرحلة التي نظمتها جمعية رباط الفتح بقطار الوحدة، وقد استقبلت جماهير المنطقة الشمالية قطار الوحدة بالحماس والفرحة ..

أما فاس وما أدراك ما فاس، والكل في فاس كما كانت من خلال تاريخ المغرب، هي بلد القرويين وبلد العلم والثقافة والحضارة، هي بلد الأسر المغربية العريقة، والعادات الراقية، والفاسي مرفوع الرأس دائما تعبيرا عن شموخ متوارث مازال حتى اليوم ملاحظا في سلوكيات الفاسيين، لم تعد فاس كما كانت، هاجر كثير من الأسر الفاسية إلى الرباط العاصمة والى الدار البيضاء بلد التجارة والصناعة والمال والثراء والترف..

كل مغربي يتطلع إلى فاس، وأهم المؤتمرات السياسية والوطنية تعقد في فاس، وأجمل القصور الملكية في فاس، والأفراح الكبيرة تقام في فاس أو مراكش،  هما مراكز السلطة على امتداد التاريخ المغربي.

حضرت في فاس عشرات اللقاءات العلمية والثقافية، مؤتمرات سياسية، تظاهرات وطنية، ندوات إسلامية، اجتماعات الأكاديمية، تأبين شخصيات فاسية، نشاطات جامعة القرويين..

ومعظم أصدقائي كانوا ينتمون في أصولهم وعائلاتهم إلى فاس، ومعظم الشخصيات المغربية من أصول فاسية…

وتتميز الشخصية الفاسية بالذكاء والحيوية والدبلوماسية والثقافة والأخذ بأسباب الحضارة في نمط الحياة اليومية، والمرأة الفاسية معروفة بقوة الشخصية وحسن التدبير ومسايرة سلوكيات التقدم، وتطوير التقاليد إلى الأفضل، وقد لا تكون الشخصية الفاسية أكثر وفاءا من غيرها، إلا أنها معروفة باللباقة الاجتماعية، وهذا من اثر الثقافة في السلوكية الإنسانية ..

في فاس يقدم العشاء على أنغام الموسيقى الأندلسية، تعزفها فرق فاسية متخصصة ومتميزة والفاسيون يعشقون الموسيقى الأندلسية ويتمايلون فرحا وطربا وهم يسمعون ذلك التراث الفني الذي يحفظون ألحانه منذ طفولتهم الأولى، ويرددون كلماته بعفوية وفرحة، انه يوقظ في أعماقهم شعورا جميلا بالانتماء إلى ثقافتهم الوطنية، لا احد يمكنه أن يتجاهل اثر هذه المشاعر الصادقة في إيقاظ العواطف الكامنة في كيان الإنسان..

عندما كنت التقي مع الأستاذ احمد بنسودة في جلساته الخاصة كان يحدثني عن أسرته في فاس وعن طفولته الأولى في أحياء فاس وأسواقها ودروبها، وعادات الفاسيين في أعيادهم وأفراحهم وعن تقاليدهم العريقة، وزرنا فاس معا وأخذ يطوف بي في المدينة القديمة ويدلني على داره التي نشأ فيها وعن الكتاب التي تعلم فيها القرآن، وعن الأسر الفاسية العريقة، وذهبنا معا إلى داره الجميلة المكونة من طابقين مطلين على الساحة الداخلية المغلقة من أطرافها الخارجية وتطل من نوافذها على الفضاء الداخلي للدار، وهي مغلقة من الأعلى بسقف جميل، وقد أوقفها لكي تكون مكتبة ثقافية عامة..

ولا يخفي الفاسي حنينه إلى مرابع الطفولة في فاس، ولم اشعر بمثل هذا الحنين لدى سكان المدن الأخرى، قد يكون لديهم نفس الحنين ولكنهم لا يعبرون عنه..

أما حبي الآخر فكان لمدينة الرباط، كنت أراها الأجمل بين المدن المغربية، كنت اشعر أنها مدينتي، وهي مكان سكني، وكان أصدقائي من الرباطيين هم الأكثر، ويمتاز أهل الرباط بالجدية والاستقامة، وهم أهل إدارة وتنفيذ وانضباط، ولذلك يعتمد عليهم القصر في المهمات الإدارية، ومعظمهم ينتمي لأسر أندلسية هاجرت من الأندلس في أيام المحنة، وبعضهم ما زال يحمل نفس الاسم الأندلسي، وهم يختلفون في طبائعهم عن أهل سلا المجاورة، وكان أصدقائي من الرباطيين يدعونني لأفراحهم وأشاركهم أحزانهم، ومن ابرز الأسر الصديقة أسرة فرج وأسرة الحكم وأسرة دينيا وأسرة بيرو وأسرة الجراري وأسرة بربيش وأسرة كراكشو وغيرهم..



[1]  صدر كتاب يوثق هذه الرحلة بتأليف الدكتورة فاطمة الحبابي

( الزيارات : 896 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *