اثر السيد النبهان فى تربيتى الروحية

لكل صحبة أثر في حياة الإنسان، قد لا يدرك المرء ذلك الأثر في أثناء الصحبة، ولكن لابد له من إدراك ذلك فيما بعد، وصحبة الطفولة هي الأكثر أثراً، لأنها تمثل المرحلة الزمنية التي يكون فيها الطفل في مرحلة القابلية للاستفادة، مرحلة الادخار والاكتناز، كل شيء يراه يطبع في ذاكرته، ويبقى طويلاً في تلك الذاكرة، إلى أن يأتي الوقت الملائم لاستخراج ما في الذاكرة مما اختزن فيها في زمن الطفولة من مشاهدات وأقوال وأفعال…

كلمات كثيرة سمعتها وظننت أنها ماتت في كياني، لأنها لم تترك في نفسي أثراً في حينها، وقد أكون قد قبلتها على مضض، وقد أكون قد نسيتها، ثم فجأة اكتشف بعد عشرات السنين أنها موجودة، أستعيدها، أخرجها من مخبئها، أراها ما تزال حية قوية، أقوى مما كانت، تلك مرحلة الادخار وقد مضت، ثم تكون مرحلة الإنفاق، حيث تخرج ما ادخرته من مستودعه، لكي يلهمك موقفاً أو يعلمك حكمة.

ذلك هو الإنسان، ما كان في عالم الطفولة لا ينسى أبداً، بكل مكوناته وبكل تفاصيله، وكأنه ادخر ليوم ما في مستقبل الإنسان، يستعيد ذلك الموقف أو تلك الكلمة، يكررها في ذاته، يرددها، يتلذذ بدلالاتها التي لم تكن مفهومة في حينها، وكأنها قيلت للغد وللمستقبل، لكي تنفع صاحبها في ذلك الليل المظلم الذي يحتاج فيه الإنسان إلى شمعة تضيء ليله، قد يكون وحيداً وقد يكون حزيناً وقد يكون بحاجة إلى كلمة تواسيه وتفرحه، هذا هو الإنسان يدخر ثم يستهلك وينفق مما ادخره لنفسه، من ماله لا من مال الاخرين، هو الوحيد الذي يمكنه أن يعرف ما يحتاج إليه، هو يعرف جيداً داءه وآلامه، ويعرف الدواء الذي يريحه، كلمة مواساة قد تريحه، كلمة أخرى قد تميته، هو الذي يعرف ولا أحد غيره يعرف، هو صاحب التجربة، هو الذي يختار من مستودع ذاكرته مدخرات الطفولة، مواقف، ذكريات، جراح، كل ذلك هو رصيده الباقي، هو ثروته التي يمكن أن يحافظ عليها، وهي ثروة لا تنضب أبداً، قد تفتح له باب الأمل وباب الغد وباب المستقبل.

الإنسان لا يتعلم من غيره أبداً، وإنما يتعلم من ذاته، من تجربته الخاصة، من آلامه، كل شيء يمكن أن يكون ثروة، ليست الثروة هي المقتنيات فقط، هذه قد تزول وقد تسرق وقد تشوه، أما ما في النفس فلا يزول، يستعيدها الإنسان لكي تمده بأمل جديد، وتفسر له غامضاً من المواقف، تعلمه كيف يحيا، وكيف يوقد الشمعة في ليلة مظلمة، وكيف يقف على رجليه بعد سقوط كبير، تعلمه أنه محمول على الأكتاف بفضل العناية الإلهية التي تطوقه في الأوقات العصيبة، تعلمه أن الحياة لا تتوقف أبداً، ليل يعقبه نهار يعقبه ليل ولولا الليل لما عرف الإنسان فضل النهار عليه وانتظر قدومه لكي يشرق في قلبه… ليس المهم الليل والنهار، وإنما المهم أن يشرق النور في القلب المظلم، وأن يضيء ظلمة اليأس وأن يحيي الأرض بعد مواتها، ذلك هو أثر ذلك الرصيد المدخر في مستودعات الذاكرة، ذلك هو الموروث الذي ينتقل من الآباء إلى الأبناء ومن المعلم إلى المتعلم، ومن المرشد إلى المسترشد.

تذكرت كل ذلك.. الطفولة بكل ذكرياتها استيقظت، وكأنها أمس قريب، تخاطبني، تعلمني، تنصحني، تسدد خطاي، نسيت الأمس القريب وأصبح بعيداً، وتذكرت الأمس البعيد وقد أصبح قريباً مني، أصبحت اشتاقه واستلذه.. بعدما كنت زاهداً فيه، مفرطاً بكل ما ارتبط بذلك الماضي… تذكرت الشيخ وأنا أحدثه عن المستقبل وكيف يجب على الإنسان أن يفكر فيه ويخطط له، كنت أظن نفسي سأسعده بما أقول، أردته أن يكتشف في شخصيتي وعياً مبكراً وطموحاً محموداً إلى الأفضل، غضب الشيخ وأعرض، وحسبته أنه يريد لي المستقبل الأكبر.

قال لي: لا ولدي. المستقبل بيد الله وليس بيدك، بجهدك الشخصي وبنباهتك وذكائك لن تحصل على شيء، فكثيرون من أمثالك خططوا لمستقبلهم بطريقة أفضل، وكانوا يملكون كل مقومات النجاح من الذكاء والعلم والطموح، ولكنهم لم يحصلوا على ما يريدون، دع الأمر لله تعالى، هو الذي سيختار لك المستقبل وسيشرح صدرك لما هو مقدر لك، فإن كنت صالحاً فالله سيتولاك، وسيعطيك أفضل مما تطمح فيه، وسيسدد خطاك وسيفتح القلوب لك وسيجعل لكلامك حلاوة، تدخل بها القلوب، فيألفك من لم يعرفك، ويحبك من كان يكرهك، ويظهر الله حسنات أفعالك ويستر ما ساء من خصالك..

ولاحظت فيما بعد أن كل ما أخططه لنفسي لا يعطي ثمرته المرجوة، وكل ما أسلم أمري فيه لله تعالى كان يجري على أحسن ما يكون من السداد والتوفيق، وكأن يداً خفية تخطط لي وتقودني إلى الأفضل..

فإذا جاءتني محنة كانت جسراً ضرورياً لمنعطف جديد هو الأفضل، فأصبحت أتفاءل بالمحنة والابتلاء، شعوراً مني بأن ذلك هو الطريق إلى الأفضل.

وتذكرت كلمة الشيخ وهو يقول لي: ما أراده الله لك يحمله عنك ويسدد خطاك به، وما تريده لنفسك يسند أمره إليك وتمتحن فيه، فالله هو المدبر لشؤون الكون وأمر العباد… وهو الأعلم بما يصلحهم والأرحم بهم، فعطاؤه عطاء، ومنعه هو عطاء، ويجب أن نشهد العطاء في المنع كما نشهده في العطاء.

( الزيارات : 1٬295 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *