الأكاديمية الملكية المغربية..زمالة فكر وثقافة

الأكاديمية المغربية

أعضاء الأكاديمية الملكية المغربية في صورة تذكارية في الرباط عام 1998.. في الصورة الدكتور النبهان والدكتور عبد اللطيف بربيش رئيس الأكاديمية والدكتور الحبيب بلخوجه والدكتور أحمد الضبيب مدير جامعة الملك سعود والدكتور إدريس الضحاك ورئيس البرتغال والدكتور محمد الكتاني وعدد من الشخصيات العلمية الأجنبية

أعضاء الأكاديمية الملكية المغربية في صورة تذكارية في الرباط عام 1998.. في الصورة الدكتور النبهان والدكتور عبد اللطيف بربيش رئيس الأكاديمية والدكتور الحبيب بلخوجه والدكتور أحمد الضبيب مدير جامعة الملك سعود والدكتور إدريس الضحاك ورئيس البرتغال والدكتور محمد الكتاني وعدد من الشخصيات العلمية الأجنبية

 

في شهر فبراير 1978م اتصل بي السيد احمد رضا كديرة المستشار الأول للملك الحسن الثاني، وابلغني أن الملك يدعوني لحضور اجتماع في اليوم التالي في قصره في مراكش، ولم يبلغني أي شيء عن موضوع هذا الاجتماع، اعتقدت في البداية أن الموضوع له صلة بدار الحديث الحسنية التي استلمت إدارتها قبل عام من هذا التاريخ، ولما وصلت إلى القصر وجدت الوزير الأول احمد عصمان ووزير الدولة الحاج محمد أبا حنيني ووزير التربية الوطنية الدكتور عز الدين العراقي والسيد احمد بنسودة مدير الديوان الملكي ومستشاري جلالة الملك عبد الهادي بوطالب واحمد رضا كديرة، كما حضر الاجتماع السيد موريس دوربون أمين سر الأكاديمية الفرنسية ولم أكن اعرفه من قبل…

استقبلنا صاحب الجلالة الملك بترحيب كبير وجلسنا في جلسة عادية على شكل حلقة دائرية، لم تكن جلسة رسمية، ابتدأ الملك حديثه عن الدور الثقافي والحضاري الذي يريد أن يقوم به المغرب على المستوى الدولي عن طريق إيجاد منبر للحوار الحضاري بين مختلف الثقافات الإنسانية، وان يحتضن المغرب هذا المنبر الذي سوف يسهم من خلال جهود أعضائه الذي ينتمون لمختلف القارات في صياغة فكر إنساني موحد ورؤية متقاربة لقضايا المجتمعات المعاصرة…

لم أكن سمعت بالموضوع من قبل، وفوجئت بدعوتي لهذا الاجتماع، وتساءلت عن سر دعوتي، لعل الملك أراد أن تكون دار الحديث الحسنية موجودة، وان يلفت نظر الحاضرين إلى ضرورة العناية بالقيم الروحية الإسلامية.

بعد سنتين وفي مساء يوم 12 ابريل 1980 م افتتحت الأكاديمية المغربية بصفة رسمية، وكانت تضم نخبة مختارة  من الشخصيات المغربية والأجنبية، ولما نشر القانون الأساسي للأكاديمية نشرت مقالة هامة في مجلة القدس عن فكرة الأكاديمية وأهدافها وما ترمي إليه من إيجاد منبر للحوار بين الثقافات المختلفة.

افتتحت الأكاديمية وتم اختيار نصف الأعضاء من المقيمين والأجانب، وفي كل دورة كان الملك يختار أعضاء جدد إلى أن اكتمل العدد القانوني وهو ستون شخصية، ثلاثون مغاربة وثلاثون أجانب، ويجتمعون في كل عام في دورتين الأولى في شهر ابريل والثانية في شهر نوفمبر، ويختار الملك بنفسه الموضوع الذي يجري الحوار فيه من مختلف القضايا والمشكلات الدولية، وما يطرأ على الساحة العالمية من أحداث وأخطار وما يقلق المجتمع الإنساني وما يهدد السلام العالمي، وكان الملك يختار بنفسه صيغة السؤال أو صيغة الحوار باللغة العربية والفرنسية، وتعكف الأكاديمية بعد ذلك على كتابة محاور الموضوع لمساعدة الأعضاء على اختيار موضوع تدخلاتهم، ويدعى للدورة عدد من الخبراء المختصين من مختلف بلاد العالم لكتابة أوراق رئيسية لإغناء الفكرة بتجربة أهل الاختصاص..

في ابريل 1983 م اصدر الملك أمره باختياري عضوا مغربيا مقيما في هذه الأكاديمية، وابلغني أمين السر الدائم الدكتور عبد اللطيف بربيش الطبيب الخاص لجلالة الملك بقرار الاختيار، ولم أكن أحمل الجنسية المغربية آنذاك، ولما رفع الأمر إلى الملك أصدر أمره بإعطائي الجنسية المغربية، وبعد عام من هذا التاريخ كلف الملك مستشاره المقرب إليه السيد عبد الهادي بوطالب أن يلقي خطاب الترحيب بي في رحاب الأكاديمية كعضو فيها…وقال السيد بوطالب وكان يشغل وقتها منصب المدير العام لمنظمة الإسيسكو:

 ”  برز اسم الدكتور النبهان بين علماء حلقات الدروس الحسنية كمتحدث في بيئته، جامع بين العصرنة والأصالة، متفتح على المستقبل، مشرئب إلى آفاقه، ولا غرو أن يجد فيه الملك الحسن الثاني النموذج الصالح لما ينبغي أن يكون عليه الباحث المسلم، وان يستبقيه بعد ذلك ليعهد إليه بتكوين الجيل الجديد من الباحثين الذين يتلمس فيهم جلالة الملك أن يكونوا على غراره، فيلقي إليه بمقاليد الإشراف على مؤسسة دار الحديث الحسنية التي لا شك أن جلالته يريدها أن تخرج النماذج المتخصصة لصورة عالم العصر”   [1]

  وألقيت عقب ذلك خطابي الأول في الأكاديمية، شكرت فيه جلالة الملك وعبرت فيه عن سعادتي بالثقة الملكية، وأكدت على ضرورة أن يقتحم رجال الفكر أسوار المجتمع بمثلهم وقيمهم لكي تصبح الفضيلة عنصرا فاعلا في مجال الحقوق الإنسانية، وان تكون قيدا قانونيا ملزما يتجلى أثره في احترام القيم العالية والمصالح الاجتماعية، ودعوت إلى تنمية القيم الروحية وإيقاظ أثرها الايجابي لتدعيم قيم الخير والعدالة للارتقاء بمستوى الضعفاء والفقراء والمحرومين، ولابد من الاهتمام بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات النامية والمتخلفة لمقاومة الأمراض الاجتماعية التي ستؤدي حتما إلى سلوكيات التطرف والعنف وتهديد الأمن الاجتماعي…

تلك هي كلمة البداية، هي بطاقتي الأولى التي قدمت فيها نفسي لأعضاء الأكاديمية الستين الذي ينتمون إلى مختلف القارات والثقافات والديانات والذين يشغلون في بلادهم ارفع المناصب وأسمى الرتب.

ومن ابرز الأعضاء رؤساء جمهورية في كل من السنغال واليونان والبرتغال، وولي عهد الأردن السابق الأمير الحسن ونائب رئيس جمهورية الهند وشخصيات علمية ورموز ثقافية، وابرز شخصيات المغرب العلمية والسياسية…

كنا في رحاب الأكاديمية نمثل أسرة متحابة متكافلة متعاهدة على بيان ما نؤمن به من مواقف وآراء، لم تكن أفكارنا واحدة، ولا يمكن أن تكون واحدة، وإلا انتفت الفائدة من هذه الأكاديمية، ففي ظل التعددية الثقافية تكون نوافذ الرؤية متعددة، وعندئذ يمكن أن نطل على الحديقة من جميع جهاتها، الأمامية والخلفية والجانبية..

كنت أتساءل في نفسي، وكل فرد من أعضاء الأكاديمية كان يطرح نفس السؤال، ماذا كان الملك الحسن الثاني يريد من وراء إنشاء الأكاديمية…لماذا كان يرعى شؤونها ويتابع مداولاتها ولو من بعيد، ويطلب تقريرا عن كل دورة من دوراتها، لم ينشئها عبثا على وجه التأكيد، أراد شيئا منها، لعله أراد أن يستطلع من خلال حواراتها مواقف المجتمعات المختلفة من قضايا أثارت اهتمام المجتمع الدولي، ليس هناك جدول لهذه الموضوعات، ولم يطلب من الأكاديمية أن تقدم توصيات أو تصوغ مقررات، ليست هذه مهمتها… فلا تملك الأكاديمية حق الوصاية على أي دولة أو مجتمع، وتتمثل مهمتها في إغناء الرؤية الفكرية وتوسيع دائرة الأفق لكي يتسع لكل الكون، شماله وجنوبه وغربه وشرقه…

لابد من سماع صوت إفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية وسماع صوت روسيا الشيوعية وفرنسا وانكلترا واسبانيا والصين والهند وصوت الفاتيكان، ولابد من سماع صوت العالم العربي والإسلامي من العلماء والسياسيين والأدباء والمؤرخين والشعراء والإعلاميين، ولا تكتمل الصورة إلا بسماع صوت الجميع، الكل ينصت للكل، والحرية مكفولة للجميع وحق الاعتراض مكفول أيضا، ولا وصاية لأحد على أحد…

في رحاب الأكاديمية تلغى الألقاب والمناصب، ويرفع شعار الزمالة الفكرية، يحتدم النقاش أحيانا بين الأعضاء، ثم لا يلبث أن يتوقف، ولا بد من تعدد الآراء والمواقف، ولا بد من استنتاج الموقف الأخلاقي المنصف العادل الذي يرتضيه الجميع…

ما أروع الإنسان وهو يرتقي بمستوى حواره إلى الأفق الإنساني فيحترم الآخر حيث كان ذلك الآخر، ويلتمس له العذر فيما يقول، ويعطيه فضاءه الذي يستحقه بمقتضى وجوده الإنساني، وليس هناك كائن لا فضاء له، والفضاء يتسع لكل المخلوقات، للإنسان والحيوان والنبات، ولولا ذلك الفضاء لما كان امتداد الحياة..

لماذا يُضيق الإنسان على نفسه الخناق، ويضيق صدره بالآخر الذي يحاوره أو يخالفه أو يجاوره، ألا يتسع الكون لكل آمال الإنسان، فلماذا يقع الاختلاف، ألا يدل ذلك على ضيق في الأفق…

طرح الملك وهو راعي الأكاديمية على أعضائها أن يدرسوا قضايا عصرهم، بعض هذه القضايا لم تثر اهتمامنا ثم اكتشفنا فيما بعد أبعاد الموضوع وأهميته، بل أصبحنا نطل على قضايا عصرنا المقبلة من خلال ما كان يطرح على الأكاديمية…

ومما لا خلاف فيه أن الملك الحسن الثاني كان يملك مواهب متعددة، وكانت له دراية واسعة في شؤون عصره، السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو مفكر بارع ومثقف يملك ناصية الإبداع في فهم الظواهر والسلوكيات، ويحسن التوقع ويعد لما يتوقعه قبل وقوعه، عندما عقد الفلسطينيون والاسرائليون اتفاقية السلام الأولى في واشنطن أرسل الملك إلى الأكاديمية عنوان الدورة المقبلة للأكاديمية بعنوان: ” وماذا لو فشل السلام ” ولم يكن احد يتوقع فشل السلام، واجتمعت الأكاديمية في عمان في ضيافة الملك حسين، وناقشت احتمالات الفشل… وفشل السلام…

قرابة أربعين موضوعا ناقشته الأكاديمية خلال عشرين عاما في عهد الملك الحسن الثاني، شاركت في معظمها بكتابة ورقة تلقى أثناء الدورة أمام الأعضاء ثم تنشر ضمن كتاب عن كل دورة…

ومن أهم الموضوعات التي شاركت فيها ببحث ما يلي:

حق الشعوب في تقرير المصير، مفهوم العدوان في القانون الدولي، قضية الأجنة وتقنيات الإنجاب، الاجتياح العراقي لدولة الكويت، الاستنساخ البشري، السيادة والهيمنة في السياسة الدولية، المسؤوليات القانونية الناتجة عن الكوارث النووية، العولمة والهوية، التنمية والبحث والجامعة، الوحدة الأوربية والآخرون، مستقبل العلاقة بين دول الحوض المتوسطي، مستقبل الحوار بين الشمال والجنوب.

كنت احرص على كتابة ما أومن به من مواقف، وبخاصة بالنسبة للقضايا التي فرضت نفسها علينا، ولا خيار لنا إلا أن نسمع صوتنا لذلك الآخر الذي يتجاهل حقوقنا ووجودنا..

وفي اجتماعات الأكاديمية في الدورة الربيعية والخريفية كان الحوار جادا ومفيدا، وكان من اليسير اكتشاف اختلاف وجهات النظر بين الأعضاء الذين ينتمون إلى البلاد العربية والإسلامية وبين الأعضاء الذين ينتمون إلى البلدان الأوربية والأمريكية وبخاصة في الموضوعات التي تمس المصالح الغربية مثل موضوع الإرهاب والمقاومة المشروعة، والعلاقات بين دول الحوض المتوسطي، وقضايا الهجرة وحقوق المهاجرين والعولمة والهوية، والحوار بين الشمال والجنوب، وموضوع السيادة والتدخل الخارجي، والشرعية الدولية…

دول الغرب أو ما يسمى بمحور الشمال لا يساوم في مصالحه ولا يهادن ولا يتنازل، ويحكم مواقفه ويدافع عنها بعبارات هادئة ولكنها ثابتة، لا عاطفة في مجال المصالح الحيوية، ولا تسامح في الثوابت التي تمس سيادة بلدهم، ويفترضون أن دول الجنوب وهي الدول الأخرى أو المعسكر الآخر هو من يجب أن يقدم التنازل، وهو من يجب أن يرفع شعار التسامح، ولا حدود للتسامح المطلوب، أليس الغرب هو النموذج الأفضل والأكثر رقيا وحضارة وقوة…

الغرب على اختلاف دوله موحد الكلمة في مواجهة طموحات العام الإسلامي، وليس من حق الدول الإسلامية أن تطالب بحق السيادة على أراضيها وقراراتها ومواقفها وثرواتها..

كنا نشعر ونحن نتحاور في رحاب الأكاديمية بتلك النفسية الاستعلائية لدى زملائنا الأوروبيين، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بمواقفهم السياسية، وآرائهم التي تبرر سياسة بلدانهم، وبالرغم من نقدهم للسياسات الاستعمارية ولتجاوزات دولهم في كثير من المواقف وإقرارهم بسيادة الدول الصغيرة فإنهم يلتمسون العذر لمواقف الدول الغربية وبخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتحيزهم الواضح لتأييد المواقف الاسرائلية التوسعية….

مازال الغرب يعيش هاجس الحروب الصليبية، وعقدة الفتوحات الإسلامية، وتخيفهم كلمة الإسلام وما تعنيه دعوة الجهاد في سبيل الله والاستشهاد والتضحية للدفاع عن العقيدة…

ويخفي الغرب نواياه ودوافعه الحقيقية وتعصبه ضد الإسلام، ويأخذ بمبدأ ” التقية ” لكي لا يظهر هذا التعصب في مواقفه السياسية المعلنة، وأحيانا تنفلت من أفواههم لفظة معبّرة عن هذه النوايا والدوافع، وسرعان ما يتراجعون عنها لكيلا تثير مشاعر المسلمين، وتقية المفكرين الأوربيين ذكية وتخفيها حجج منطقية ودعوة لاحترام حقوق الإنسان.

ومن المؤكد أن هناك شخصيات غربية منصفة ومعتدلة، ويتحكم في مواقفها إيمان بحق الشعوب في دفاعها عن حقوقها المشروعة، والعقلية الغربية تحكمها المصالح وليس المبادئ، وتلتزم بالمبادئ التي تحمي مصالحها الحيوية، فهم مع الدفاع عن حقوق الإنسان ما دام ذلك الموقف يمكنهم من التدخل في شؤون الآخرين، وأحيانا يتجاهلون هذا المبدأ كليا ويحمون الأنظمة الاستبدادية التي تحمي مصالحهم الحيوية…

كنا في رحاب الأكاديمية نتحاور ونتناقش، ويدلي كل عضو بما يراه من الآراء والأفكار بعبارات هادئة مهذبة، وقلما وجدنا في حوار الزملاء الأعضاء ذلك الانفعال المذموم، ولعل هذا ما أراده الملك من إنشائه لهذه الأكاديمية.

اجتمعت الأكاديمية في عدة عواصم خارجية، لمناقشة قضايا معاصرة، فلقد اجتمعت الأكاديمية في باريس لمناقشة الكوارث النووية التي وقعت في تشير نوبل، وقدمت بحثا عن المسؤوليات القانونية الناتجة عن الكوارث النووية، كما اجتمعنا في عاصمة البرتغال لشبونة في رعاية رئيس جمهورية البرتغال الذي أصبح عضوا في الأكاديمية، واجتمعت بعد ذلك في مدريد وغرناطة وعمان…

وأشهد أنه خلال مشاركتي في اجتماعات الأكاديمية في الدورات الرسمية وفي الاجتماعات الأسبوعية وفي الندوات العلمية لم توجه إلى احد من الأعضاء أي ملاحظة حول آرائه وتدخلاته لتقييد حريته فيما يقول، وهذا منهج كان يثير إعجابي وتقديري، فحرية الرأي مكفولة، ويملك العلماء والمفكرون ما لا يملكه غيرهم من هذه الحرية البانية المعبرة عن تطلع الإنسان إلى الأفضل، بشرط أن تمارس هذه الحرية بأخلاقية وأدب وبألفاظ وعبارات دالة على سمو الخلق وحسن التعبير…

لقد تعلمت من الأكاديمية أشياء كثيرة، وتعمقت رؤيتي لكثير من القضايا التي لم أكن أعيرها أي اهتمام، وزادت ثقافتي وترسخت لدي قناعات بأهمية الفكر وضرورة الحوار، والحوار القائم على الاحترام المتبادل والاعتراف بحق الآخر في امتلاك الحقيقة أمر ضروري ومفيد، وهو غاية مرجوة وهدف يجب أن يسعى إليه، ليس من العيب أن نعترف بقصورنا في مجال الحوار، ومناهجنا التربوية يجب أن توجه اهتمامنا إلى أهمية الحوار، مع ذاتنا أولا، ومع أسرنا الصغيرة ثانيا، ومع مجتمعنا ثالثا، ومع السلطة التي تحكمنا رابعا، ولابد من الحوار لكشف الحقيقة ولمنع الاحتقان الضار.

الحوار منهج سليم ويحتاج إلى تربية خاصة، وهو أداة للتواصل الإنساني ولمنع الاشتباك وسوء الفهم، ولعل العقلية الغربية قد احتكمت لمنطق الحوار تعبيرا عن احترام الآخر المستضعف، فالقوي بحكم العادة لا يلجأ إلى الحوار لأنه يعتقد أن القوة تمكنه من تشديد قبضته على الطرف الضعيف، والحوار يضعف القوي لأنه يخفف من شدة قبضته، ويسوقه إلى مجلس الحوار لكي يتنازل عن بعض ما يملكه من آراء وأفكار ومواقف، ومن طبائع البشر الاستبداد والطغيان، وهذا الطبع يمنع صاحبه من الاحتكام للحوار، فإذا اشتدت قبضة الضعفاء بسبب وحدة كلمتهم واستعدادهم للتعبير عن باسهم بأساليب قهرية لجأ الأقوياء إلى الحوار وهم يتوقعون أن يربحوا في ظل الحوار ما يمكن أن يخسروه في حالات المواجهة..

دعوة الحوار محمودة، ونصيحتي للضعفاء ألا يخسروا في مجالس الحوار ما يمكن أن يربحوه بجهدهم خارج الحوار، والحوار هو منقذ الأقوياء المتسلطين من قبضة المستضعفين المتمكنين من إحكام الحصار على حصون خصومهم.

وفي رحاب الأكاديمية تكونت أسرة فكرية قوامها ستون شخصية عالمية، ينتمون لمختلف الشعوب، ويجتمعون لمدة ثلاثة أيام لكي يتحاوروا في موضوع مطروح للمناقشة، وهذا الاجتماع بحد ذاته مفيد، لأنه يزيل الحواجز النفسية بين هذه الشخصيات المتباعدة، ويتيح لكل فريق أن يسمع كلام الآخر من ينابيعه من غير تحريف أو تزييف، عندما يرحل احد الأعضاء إلى رحاب الله كنا نبلغ برحيله، ونشعر بالحزن عليه، ونتكلم عنه بما علمناه عنه، وكأننا أسرة واحدة، كانت كل الخلافات تزول في لحظة الرحيل، ونطل من جديد على هذا الراحل فنراه في صورة مغايرة لما كنا نراه من قبل، نرى فيه الجوانب الايجابية، تستيقظ في أعماقنا الروابط الإنسانية…

لولا هذا التدافع بين الشعوب وذلك التغالب الذي يمارسه القوي على الضعيف لكانت الروابط الإنسانية أقوى مما عليه، لماذا الحدود بين الدول ولماذا الحروب المدمرة ولأجل ماذا؟

إن كانت الحروب لحماية مصالح الأقوياء من الطغاة فلماذا يساق الأبرياء من الشباب إلى الموت وهم لهذه الحروب كارهون…

وان كانت الحروب لإذلال الشعوب المستضعفة وإفقارها واستنزاف ثرواتها فمن واجب المستضعفين أن يقاوموا الظلم حيث كان، ولا يقاوم الظلم إلا بالقوة…

والحرب المشروعة هي الحرب التي يدافع بها المستضعف المستذل عن ذاته وحريته وأرضه وحقوقه الإنسانية، ولا شرعية لأي حرب عدوانية..

عندما تنتهي الدورات العامة الربيعية والخريفية يرحل الأعضاء الأجانب إلى بلدانهم، وتجتمع أسرة الأكاديمية من الأعضاء المغاربة الثلاثين كل أسبوعين في لقاء الخميس، لسماع حديث من احد الأعضاء حول موضوع محدد يعد بعناية ويقدم فيها المتحدث بحثه الذي اختاره، ثم تجري المناقشة بعد ذلك…ويسجل الحديث والمناقشات في محاضر توزع على الأعضاء..

أهم ما في هذه الاجتماعات الدورية هو الاجتماع ذاته، وهو لقاء كنا نشتاقه كل أسبوعين، نلتقي فيه مع هذه الأسرة الفكرية التي تضم نخبة مختارة من ابرز الشخصيات المغربية، ومعظمهم كان يشغل أسمى المناصب القيادية في المغرب، وقد تم اختيارهم بقرار من الملك تكريما لهم ووفاء لإخلاصهم واعترافا بكفاءتهم في مجال الفكر والثقافة…

تذكرت أصدقائي المغاربة من أسرة الأكاديمية، منهم من رحل إلى رحاب الله من أمثال الأستاذ عبد الله كنون والشيخ إبراهيم الكتاني والحاج محمد باحنيني والأستاذ محمد الفاسي والأستاذ عبد الرحمن الفاسي والشيخ عبد الله شاكر الكرسيفي والشيخ عبد الرحمن الدكالي والفيلسوف محمد عزيز الحبابي والشيخ محمد مكي الناصري والشيخ الرحالي الفاروق والأستاذ عباسي القيسي، والأستاذ محمد ميكو ومازلت اذكر ملامح كل فرد منهم ومواقفه وفكره وأسلوبه في الحوار، وأتذكر بعض المواقف والذكريات الخاصة به…

وتضم الأكاديمية نخبة مختارة من كرام الرجال من أعلام المغرب ومفكريه، وكلهم تربطني به أحسن الصلات، اذكرهم من بعيد إذا غبت عن المغرب بملامحهم المعتادة وانفعالاتهم المحببة وخصائصهم في الحديث والمناقشة وأفكارهم الخاصة.

تذكرت الزميل الصديق الدكتور عبد اللطيف بربيش أمين السر الدائم للأكاديمية وهو يعرض على أعضاء الأكاديمية اقتراحاته التنظيمية والأستاذ عبد الوهاب بنمنصور وهو يحدثنا عن لمحات مهمة من تاريخ المغرب وأعلامه، والأستاذ أبو بكر القادري وهو يقدم لي مذكراته عن تاريخ المغرب وجهاده في سبيل الاستقلال، والأستاذ عبد العزيز بنعبد الله وهو يحدثنا عن المعاجم التي وضعها لخدمة التراث المغربي، والدكتور عز الدين العراقي وهو يحدثنا عن تجربته في الحكم والسياسة، والدكتور عبد الهادي التازي وهو يأتينا بالنوادر من الوثائق الدبلوماسية، والدكتور عباس الجراري وهو يحدثنا عن التراث الملحون والأدب المغربي، والدكتور ادريس العبدلاوي وهو يحدثنا عن تاريخ القضاء في المغرب والدكتور إدريس الضحاك وهو يحدثنا عن قانون البحار والممرات المائية الدولية…

مازلت اذكر ملامح أصدقائي الذين اعتز بصداقتهم في الأكاديمية ومن أبرزهم الأستاذ محمد شفيق والشيخ محمد حسين دجاج والدكتور عبد اللطيف بن عبد الجليل والدكتور المهدي المنجرة والدكتور عبد الله العروي والدكتور الحبيب المالكي والأستاذ العربي الخطابي والدكتور علال سيناصر والدكتور محمد الكتاني وعميد الصحافة المغربية عبد الكريم غلاب…

أجمل ما في الأكاديمية أنها أوجدت تلك اللحمة من المودة والصداقة بين باقة مختارة بعناية من رجال الفكر والأدب والقانون والتاريخ والشريعة والقضاء والطب والعلوم والإعلام والسياسة، كان الملك الحسن الثاني يريد ذلك التفاعل الفكري وبخاصة وان هذه النخبة المختارة لا تنتمي لثقافة واحدة وإنما تنتمي لثقافات إنسانية متباعدة في منطلقاتها، وكل منها تعتقد أنها الثقافة الأصدق والأجمل والأكثر خدمة لتراث الإنسانية.

وهنا تكون المعادلة الصعبة، فأي الثقافات هي الأعلى مكانة، والأسمى منزلة، وما معيار التفاضل والتمايز، والإنسان بطبيعته الفطرية معني بإنتاج الثقافة التي تخدم مصالحه وتعبر عن أهوائه وميوله الغريزية، ولذلك لا يمكن الاطمئنان إلى الثقافة التي ينتجها الإنسان لأنها ثقافة الإنسان الأقوى صاحب السلطة والمال والنفوذ، ولذلك لابد من الاحتكام إلى الثقافة التي تستمد مبادئها وملامحها من تعاليم السماء ومن الأديان السماوية التي تدافع عن العدالة والحرية وحقوق الإنسان والفضائل الأخلاقية.

كنت أرى في ثقافة الإسلام المستمدة من القرآن الكريم تلك المعاني الإنسانية السامية، وثقافة الإسلام نقية نظيفة إنسانية الملامح مراعية مصالح المجتمع مقاومة للظلم والطغيان داعية إلى الالتزام بالقيم الأخلاقية في السلوك الاجتماعي، أما ثقافة المسلمين فينتجها واقعهم المتخلف وتقاليدهم السائدة وقيمهم التي تجسد حياتهم اليومية، ولابد من تصحيح هذه الثقافة لكي تكون اقرب إلى ثقافة الإسلام.


 [1] انظر وثائق الأكاديمية خطابات استقبال الأعضاء الجدد

( الزيارات : 1٬002 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *