الدرس الحسنى الاول امام الملك

الدرس الحسني الأول

في الموعد المحدد للدروس اصطحبني أحد المرافقين إلى القصر في ضريح مولاي الحسن الذي يقع في مدخل قصر الرياض، وقادني أحد المكلفين بالتشريفات الملكية إلى المكان المخصص لي، وكان المدعوون يتوافدون على المكان بملابسهم المغربية البيضاء ,الجلابة والسلهام، ويحمل كل واحد منهم بيده “بلغته” الصفراء ويضعها أمامه ، وهو يرفع السلهام على كتفه الأيمن وفقاً للتقاليد المخزنية وكلمة مخزن تطلق على القصر وتحترم تقاليد المخزن في اللباس والجلوس والسلوك , وعندما يحضر الملك أي حفل تتولى التشريفات الملكية مهمة تنظيم الاستقبال وتوزيع المقاعد ومراعاة البروتوكول في الجلوس ، ولا يجوزلأحد أن يجلس في غير المكان المخصص له ، ويخضع توزيع الجلوس وفقاً لمعايير موضوعية عادلة ، لئلا تقع الفوضى في الجلوس، وكل مدعو يذهب إلى مكانه المخصص له ، فلا يقع أي تنازع في الجلوس ، وجلست في المكان المخصص لمن يلقى الدرس في وسط الصف الأول بحيث يكون أمام الملك مباشرة ، ويجلس الجميع على الأرض, وجلس سارد الدرس على يساري ، وهو يحسن أداء المقدمة باللهجة المغربية الأصيلة ، وجلس الشيخ عبد الرحمن الدكالي ابن شيخ الإسلام الشيخ شعيب الدكالي العالم المغربي الذي يحظى باحترام المغاربة الى جانبى، وجلس كبار المدعوين من المغرب والمشرق في الصف الأول ، شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود ومفتي تونس السيد الحبيب بلخوجه، وكان الشيخ محمد مكي الناصري وزير الأوقاف يطوف بين الحضور بانتظار وصول الملك ، وكان قلقاً وينظر إَليَ بمودة واضحة ، وكنت أتفهم مشاعره فقد كان هو الذي رشحني لهذا الدرس ، ويتحمل مسؤولية ذلك امام الملك ، وتبادلت الحديث خلال فترة الانتظار مع  المدعوين من العلماء  الاستاذ عبد الله كنون والدكتور عبد الحليم محمود  والشيخ عبد الرحمن الدكالي , وكان قريباً من الملك , ويحضر مجالسه المسائية , وانطلقت الأصوات المؤذنة بوصول الملك ونهض الجميع ودخل الملك وجلس في مكانه يحيط به ولي عهده سيدى محمد وشقيقه مولاي عبد الله، وأعطى إشارة البدء بالدرس, وبدأ السارد بقراءة المقدمة المعتادة , ولما انتهى نظر الملك إليَ وأشار برأسه أن أبتدئ وبدأت الدرس بتقديم الشكر لجلالة الملك بإتاحة الفرصة لي للحديث في مجلسه, ثم شرعت في الحديث عن الاقتصاد الإسلامي, ولم أشعر بأيّ حرج أو هيبة أو تردد , وأخذت أشرح الافكار التي أعددتها عن الموضوع بعفوية وتلقائية وطلاقة , وكنت أنتقل من فكرة إلى أخرى وأضيف ما يتطلبه التوضيح من إضافات واستطرادات واستشهاد وأضفت أفكاراً لم تخطر ببالي من قبل , ولا أعددت لها, وجاءت في سياق الحديث , وكان الملك يتابع الدرس باهتمام كبير و يتابع كل فكرة بروية واهتمام  , وهذا مما شجعني على الاسترسال ,وعرضت كلّ ماكنت أفكر فيه من غير تردد , وهذا مما جعل الموضوع أكثر وضوحاً وصدقاً , وكنت مؤمنا بما أقول , وكأنني أعرض مشروعاً فكريا ًمتكاملا ًبمنهج علمي ، ولما انتهى الدرس نهض الملك وتقدمت نحوه وعانقني بمودة ظاهرة وعاطفة عفوية , وقال لي: لقد أحسنت وأجدت وسمعت عنك الكثير وما سمعته منك هو أفضل مما توقعت , وأخذ يناقشني في بعض الأفكار وركز بصورة خاصة على الاقتراح الذي قدمته له بإنشاء المجمع الفقهي لإغناءالبحوث الفقهية بآراء العلماء المعاصرين , وقال لي: أريد أن أستقبلك قبل سفرك لكي أتعرف على شخصيتك وأفكارك ، وأنا مستعدٌ لكي أتبنى هذا الاقتراح , وأقيم هذا المجمع في المغرب ، وطلب مني أن أعدّ له مشروعاً كاملاً حول فكرة المجمع الفقهى، ولما أخبرته أنني سأغادر المغرب إلى الكويت غداً التفت إلى سفير الكويت وقال له ابلغ الكويت أنني أريد أن يبقى  الدكتور النبهان في المغرب لمدة عشرة أيام اخرى ، لأنني أريد أن أراه، وطلب من وزير الأوقاف أن يعدّ لي برنامجاً لإلقاء محاضرات في المدن المغربية …

وكان الحاضرون  فى المجلس يتتبعون هذا الحوار  ويسمعون الحديث , وكان التلفزيون ينقل كل ذلك مباشرة ، ولما غادر الملك المكان تقدم شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود, وكان رجلاً قليل الكلام ومن الرجال المشهود لهم بالولاية والصفاء الروحى، عانقني وقال لي : لقد رأيت الشيخ النبهان يتكلم، وكان قد سمع عنه ولم يلقه من قبل، ثم جاء الأستاذ علال الفاسي وهنأني بالدرس وقال لي: لقد كنت موفقا  وأسعدت المغاربة بما سمعوه منك ، ونحن نريد هذا الفهم للإسلام ، ونريد أن يعرف المغاربة حقيقة الإسلام،كما أشيد باقتراحك عن المجمع الفقهي ودعوتك للاجتهاد الفقهي والخروج من دور الجمود الفكري إلى دور البناء الحضاري ، وقال الأستاذ عبد الله كنون رئيس علماء المغرب: لقد قلت ما لا نستطيع أن نقوله ، وأثلجت قلوبنا بما سمعناه منك ، وقال الحاج محمد باحنيني كبير وزراء المغرب وعميدهم وصاحب النفوذ القوي لدى الملك : تأبى الشام إلا أن تكون سابقةً ورائدة…

وكانت فرحة وزير الأوقاف السيد محمد المكي الناصري كبيرة ، وقد أمسك بيدي ورافقني إلى الفندق، وقال لي : لقد كنتُ في غاية القلق وكنت خائفاً  أن تثير بعض الأفكار الاجتماعية حول الاصلاح حساسيات وإحراجات ، وبخاصة وأن المغرب يعيش في صراعات أيدلوجية ، ومعظم المغاربة يعتقد أنّ الإسلام يهتم بأحكام العبادات والاخلاق، ولا يقدم أيّ أفكار لمعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية ، وهذا مما يفسرّ اهتمام الملك بهذا الدرس ، وحرصه على أن تلقى عدة محاضرات في المدن المغربية …

وقمت بإلقاء عدة محاضرات في طنجة وتطوان وفاس ومراكش وبني ملال والرباط ، وكان يحضرها عامل المدينة ورجال السلطة والعلماء وجمهوركبير، كما قمت بتسجيل عدة مقابلات تلفزيونية ولقاءات صحفية , وحظي هذا الدرس باهتمام شعبي كبير ، وهذا أمرٌ أسعدني إلى درجة كبيرة، وجعلني أكتشف الكثير من أصالة الشعب المغربى وتعلقه بالعلم والعلماء , واعتزازه بالإسلام ، وأهمّ ما اكتشفته أنّ لاصحة لما كان يروجه البعض من خصوم الملك أنه يريد تقديم صورة نمطية تقليدية للإسلام لكي يتمكن من خلالها من ترسيخ قيم الطاعة ، وأنّه يضيق بكل فكر إسلاميٍّ أو تصور للإسلام يخرج عن هذا المنهج الذي يقدمه خطباء المساجد فى الوعظ والارشاد ، والملكية في المغرب تعتمد أساساً على الإسلام، ويعتبر الملك في نظر الشعب المغربي إماماً وأميراً للمؤمنين، ويمتلك سلطة دينية واسعة، ويمارس سلطة الإشراف المباشر على كل الشؤون الدينية ، ولا يتم اعتماده كأمير للمؤمنين إلا ببيعة من العلماء مكتوبة وموثقة، ويُدعى له على المنابر بهذه الصفة ، ويشرف بطريقة مباشرة على شؤون الأوقاف والشؤون الإسلامية والمساجد ، ولا يقرّ قانوناً مخالفاً للإسلام ، ويخظى العلماء برعاية الملك ويكرمهم في مجالسه ، ويرعى من احتاج إليه ، ولايرضى أن يصييهم ظلم ومن لجآ اليه منهم انصفه ، والعلماء في المغرب هم الأكثر وفاء للملك وأكثرطاعة له واحتراما …

  وأكد لى هذا الموقف ومواقف اخرى فيما بعد ان الملك  يحترم حرية الفكر ويشجع كل الأفكار الإسلامية التى تدعو الى الاصلاح الاجتماعى ,  وأنه مع  التجديد والتحديث في الأفكار والتصورات، وعندما تطرح هذه الأفكار في مجلس الملك ويشجعها فهذا دليلٌ على رغبته في التجديد وتطلعه إلى إسلام الفكر الذي ينهض بالمجتمع ، والإسلام الذي يرفع راية الإصلاح الاجتماعي…

لقد ترك هذا الدرس في نفسي أثراً كبيراً وأحدث تحولاً في قناعاتي ، وأعجبت بشخصية الملك وذكائه، ولم يكن الملك بحاجة لمجاملتي ، ولا أشك في صدق موقفه ، وهو يدل على رغبة صادقة في تقديم صورة إسلامية أكثر اهتماماً بالقضايا الاجتماعية المعاصرة ، وفي الوقت الذي كانت الأحزاب اليسارية تقدم مشروعها الاجتماعي في الإصلاح وبخاصة في مجال الأجور والملكيات العامة والإصلاح الزراعي ومقاومة الفساد والاحتكار والثروات الظالمة ،كان علماء الشريعة يخافون من الخوض في هذه القضايا مكتفين بتقديم الصورة التقليدية لدور العلماء في الوعظ والإرشاد الديني ، وهذا مما أقصى علماء الدين عن المشاركة الفعالة في  قضايا مجتمعهم ، والإسلام يقدم مشروعاً متكاملاً للحياة من جميع جوانبها ، وهذا المشروع الاسلامي هو أكثر عدالة وواقعية وقبولا من المجتمع , فلماذا نخاف من  المشروع الإسلامى ونركز اهتمامنا على صورة للإسلام قاصرة ومبتورة ، وكأن الإسلام لا يملك أية رؤية لتكوين مجتمع ناهض، وأية إمكانية للتعايش مع الحضارة المعاصرة ومطالب الانسان فى الحرية والعدالة والديمقراطية …

 

 

أهم أفكار الدرس مايلى:

أولاً: الدعوة للاهتمام بدراسة الاقتصاد الإسلامي، وتوليد رؤية إسلامية جديدة مستمدة من ثوابت الشريعة المتعلقة بالمال والحقوق والملكيات والثروات والاحتكارات والأجور والعقود تراعى فيها المصالح الاجتماعية ومبادئ العدالة والتوزيع العادل للثروات واحترام الطبيعة الجماعية للحقوق والملكيات والاموال..

ثانياً: التركيز على أهمية فكرة الاستخلاف على الأموال واعتبار الملكية الواقعية ليست مطلقة وإنما هي مقيدة بالاعتراف الشرعي بها ، من خلال التزامها بأمرين، تنميتها عن طريق شرعي لا احتكار فيه ولا استغلال ولاظلم ، وأداء حقوق الله والمجتمع فيها   واحترام الضوابط الشرعية ، وكلّ ملكية تمت عن طريق الظلم والاحتكار واستغلال النفوذ فلا عصمة لها ولاشرعية ، ومن حقِّ المجتمع أن يسترد كلّ مال اغتصب منه بغير حق ، والإسلام لا يحمي الملكية الظالمة ابدا, ولا يعترف بأي  ملكية إلا إذا روعيت الضوابط الشرعية فيها.

ثالثاً: الحق في نظر الإسلام له طبيعة جماعية، فليس هناك حق مطلق، فالحقوق ممنوحة للإنسان من الله تعالى، والله سبحانه وتعالى قد قيًد صاحب الحق واوجب عليه أن يستخدم حقه المشروع في إطار احترامه لمصالح المجتمع ، والحقوق مقيدة بالمصالح الاجتماعية ، سواء حق الملكية أو حق الحرية أو حق الحاكم في ممارسة سلطته ، ومن استخدم حقه ولو كان مشروعاً في غير الغاية المرجوة منه فقد أساء استعمال حقه، فالمشروعية لا تعني الظلم، وكل حق ارتبط به حق آخر فتجب مراعاة مصالح الآخر في استعمال هذا الحق ، فحق الزوج في طلاق زوجته يجب أن تراعى الفضيلة في استعمال هذا الحق فلا يتعسف فيه ولا ينوي الإضرار بالزوجة وأن يستخدمه عند الحاجة إليه ، وأن يخفف من الآثار السلبية التي يلحقها الطلاق بالزوجة .

رابعاً:الملكية في الإسلام مقيدة بالمصالح الاجتماعية، لأن الملكية لها وظيفة اجتماعية، ويجب احترام الطبيعة الاجتماعية للملكية والدور الاجتماعي الذي تقوم به ,ولا نحترم الملكية التي لا تراعى فيها الضوابط الشرعية ، ويجوز استملاكها لحماية مصالح اجتماعية معترف بها، مع مراعاة حقوق المالك المشروعة فيها والمصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة….

خامساً: الثروة الناتجة عن احتكار واستغلال وظلم وفساد وربا واغتصاب لحقوق المستضعفين  لا تحترم ولايعترف بها ، والربح الفاحش مفسد لطهارة الربح ، وكل ربح تجاوز الأعراف السائدة في المعاملات التجارية يعتبر أكلاً لأموال الناس بالباطل واستغلالا لحاجات الآخرين ، و تباع السلع بأسعار مثلها في الأسواق من غير استغلال للمشتري أو لحاجته أو بسبب جهله

سادساً: الأجور: الأجور هي قيم الأعمال، ويجب أن تراعى  القيم الحقيقية للعمل من غير استغلال لحاجة العامل و ضعفه، ولا تعتبر إرادته كافية لاعتبار الأجر عادلاً، فلا إرادة لجائع ، ولا يعتد بإرادة من لا يملك القدرة على التفاوض العادل للدفاع عن حقه ، ولا بد في العقود من توافق إرادتين متساويتين في القوة، والدولة مسؤولة عن حماية الطرف الضعيف و حماية حقوقه .

سابعاً:لا شرعية لأي مال جمع عن طريق الاحتكار، وكل ما احتاج إليه المجتمع وارتبطت حياته به فلا يجوز فيه الاحتكار، من مواد غذائية و خدمات ووسائل نقل ووسائل اتصال وكهرباء وماء لأن الناس لا يمكنهم الاستغناء عن هذه الحاجات الضرورية ، ويجب على الدولة أن تراقب هذه الأسعار وأن تمنع استغلال حاجة الفقير إليها.

ثامناً:الدولة مسؤولة عن حماية المصالح الاجتماعية، وهذا هو مبرر وجودها، ولا شرعية لسلطة لا تملك التفويض من الأمة بالقيام بمسؤوليات السلطة.

تاسعاً: تجب مراعاة روح الشريعة في تفسير أحكام الشريعة، و تراعى المقاصد الشرعية، وتحترم المصالح الاجتماعية، وقد روعيت المصالح الاجتماعية في إقرار الأحكام الشرعية.

عاشراً: اقتراح بإنشاء مجمع فقهي لإغناء الفقه الإسلامي بآراء العلماء المعاصرين، واعتبار مسيرة الإغناء الفقهي مستمرة، فالفقه الإسلامي ما كان فى الماضى وما سيكون في المستقبل، وتتفاضل الأجيال بمقدار عطائها العلمي , وتجب الثقة بالعقل كما تجب الثقة بالعلم ، ويعتمد في الاستنباط الفقهي على الرأي العلمي لأهل الاختصاص، ولا عبرة للظن في مواجهة اليقين ، وما أمكن إثباته بالعلم اليقيني فلا يؤخذ بالظن، وكل جيل مؤتمن على عصره ، وهو مكلف بالتفسير والاجتهاد فيما يتعلق بقضاياه، ولا يلزم جيل بآراء جيل سابق إلا إذا اقتنع بسلامتها ورآها محققة لمصالحه ، ويجب أن يشجع الاجتهاد الجماعي وهو أقرب للصواب ، ويلتمس العذر له فيما أخطأ فيه، والاجتهاد الفردي أكثر عرضة للخطأ، ومهمة المجتمع إغناء الفقه باجتهادات معاصرة يتم التوصل إليها بعد دراسة وبحث واستعانة بآراء أهل الاختصاص.

وقد أمر الملك بإنشاء المجمع في المغرب وشكل لجنة لدراسة هذا الموضوع إلا أنه شغل عن ذلك وبقيت الفكرة قائمة، ثم أقر مؤتمر القمة الإسلامي بعد عشرين عاماً إنشاء المجمع الفقهي الذي يوجد مقره في مدينة جدة.

 

( الزيارات : 1٬065 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *