المغرب فى الذاكرة

ا             المغرب في الذاكرة …

مازا لت الملامح الأولى للشخصية المغربية في ذاكرة الطفولة واضحة ، وأبرز ما كنت أذكره ملامح الشخصية المغربية بملابسها البيضاء الفضفاضة والعمة المعطاة بالجلابة العريضة والسلهام المغربي الذي يغطي الكتف , والملامح الغضوبة الصارمة ,  والسيف الذي يحمله الفارس وينقض به على خصمه ، كانت هذه هي الملامح الأولى للشخصية المغربية ، كما كانت في ذاكرة الطفولة، وكانت لفظة الجهاد مقترنة بهذه الشخصية ، والمغرب في ذاكرة الطفولة الأولى كان مجموعة قلاع وحصون وأسوار وساحة للجهاد  وموطن للمجاهدين , وثغر منيع من ثغور الاسلام  ….

وكان كبار السن فى سوريا الذين عاشوا مرحلة الكفاح الوطني ضد المستعمر الفرنسي يتحدثون عن الجنود المغاربة الذين كانوا يحاربون ضمن الجيش الفرنسي ، وكان معظمهم يأبى أن يقاتل إخوانه المسلمين ، وكان المغاربة على امتداد تاريخهم يقاتلون ضد الغزاة النصارى الذين كانوا يريدون احتلال الشواطئ المغربية، ويرفعون شعار الجهاد ويقيمون مراكزهم القتالية في رؤوس الجبال، وهناك حكايات كنا نرددها ، وهناك شخصيات كنا نسمع عنها من أمثال يوسف بن تاشفين  ومعركة الزلاقة ووادى المخازن ودولة المرابطين ودولة الموحدين، ولم أكن أدرك معاني ما كنت أسمعه ، ولم يكن يشغلني ذلك…

وعندما قامت فرنسا بخلع السلطان محمد بن يوسف عن العرش ونفته إلى جزيرة نائية في البحر خرج طلاب المدارس إلى الشوارع منددين بهذه الخطوة ، وكنت أحد هؤلاء الطلاب، ولم نكن ندري شيئاً عن جهاد المغاربة ضد المستعمر الفرنسى ، فقد كان الجهاد ضد المستعمر في كلّ أرض عربية، وكنا نقف مع كل شعب عربي حيث كان ، ونعتبر أن المعركة ضد المستعمر واحدة، والأرض العربية واحدة ..

كان البيت هو المدرسة الوطنية الأولى التي يتلقى فيها الطفل القيم الوطنية ، وشعار المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي والإنكليزي والإيطالي ، وكان العالم العربي كله يتطلع إلى الاستقلال والحرية، وما زالت ذاكرة الطفولة، تختزن أسماء أبطال ومجاهدين رفعوا شعار الحرية والاستقلال ولم نكن نفرق بين هؤلاء المجاهدين، سواء بسبب اختلاف بلادهم أو بسبب انتمائهم القومي اوالطائفي، فالوطن واحد والمعركة ضد الاستعمار واحدة في كل أرض عربية ..

كانت مناهج الدراسة الثانوية تركز على أهمية الثوابت الوطنية ، وأهمّها الوحدة العربية، وهي خيار وطني ولم نكن نفرق بين بلد وآخر، وكنا ننظر إلى كل البلاد العربية نظرة واحدة ، ونعتبر المعركة ضدّ الاستعمار معركة واحدة ، وعندما وقع الاعتداء الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس كنا في المدرسة الثانوية، وقد تطوعنا للقتال ضد العدوان الثلاثي ، وأصبحت مدارسنا معسكرات تدريب وقتال، وما زلت أذكر اندفاع الشعب السوري كلّه في كل المدن والأرياف للدفاع عن مصر ..

وعندما حقق المغرب انتصاره الكبير بالاستقلال كانت فرحة جيلنا عظيمة، وحظي الملك محمد الخامس رمز التحرير بمكانة متميزة في ذاكرة ذلك الجيل، فهو رمزٌ وطنيٌ وملك حمل راية الاستقلال وضحَى بعرشه في سبيل شعبه ، ثم أعاده شعبه إلى عرشه وفاءً لجهاده وتضحياته .. 

ولما دخلت الجامعة التقيت بشباب ينتمون إلى مختلف البلاد العربية، وكانت جامعة دمشق في بداية عهد الوحدة السورية المصرية موطناً لأصدق العواطف القومية والشعارات الوحدوية ، والتقيت بشباب مغاربة كانوا يدرسون في الجامعة ، وأتيحت لي الفرصة ولأول مرة لأعرف الكثير عن المغرب وتاريخه وتقاليده , وأول ما لفت نظري هو اعتزاز المغاربة بتراثهم المغربي وخصوصياتهم الثقافية، وبخاصة ما يتعلق منها باللباس والطعام والعادات والتقاليد ، فقد كان الطالب المغربي يحرص على ارتداء الجلابية البيضاء والطربوش الأبيض في الأعياد والمناسبات الدينية وصلاة الجمعة ، وكان الشاب المغربي يعرف عن تاريخ المغرب الكثير ويتحدث بتلقائية وعفوية عن تاريخ الأدارسة والمرابطين والموحدين، وكان الاهتمام بالمناسبات الدينية كبيراً مما يؤكد عمق الثقافة الإسلامية في تكوين الشخصية المغربية، وبالرغم من اعتزاز معظم الشباب المغربي باللغة العربية  والانتماء  العربي فقد كان الاعتزاز بالاستلام قوياً، ولم تكن القومية العربية منفصلة عن الإسلام , ولم يكن المغربي يتصور وجود عرب غير مسلمين,  وكانت كلمة النصارى تطلق على الأجانب غير العرب ، فالعربي هو مسلم ، وتراث العرب جميعا هو تراث الإسلام، ولغة العرب مقدسة لأنها لغة القرآن , ولم أسمع أيّ حديث من أصدقائي المغاربة عن البربر والأمازيغية الا فى مجال الحديث عن مكونات الهوية المغربية المتعددة ، وكانت مشاركة هؤلاء الشباب في القضايا الوطنية والقومية وبخاصة قضية فلسطين لا تقل أبداً عن مشاركة أي شاب عربي آخر في البلاد العربية التي رفعت شعار القومية العربية , وشهدت تلك الفترة اهتماماً كبيراً بالشعارات القومية وبخاصة في عهد الوحدة السورية المصرية, وكان من أبرز أصدقائي المغاربة في جامعة دمشق الدكتور حمزة الكتاني، وكان طالباً في كلية العلوم , وكنا نلتقي باستمرار ونشارك في النشاطات الثقافية والاجتماعية، واستمرت هذه العلاقة خلال فترة الدراسة الجامعية، وكانت تربطني صلات وثيقة بأستاذي المغربي السيد المنتصر الكتاني وبالأسرة الكتانية في دمشق وكان عميدها السيد محمد مكي الكتاني اشهر علماء الشام ، وهي أسرة شريفة اشتهرت بعلمائها ودورها في التأليف العلمي وخدمة الثقافة الإسلامية ,واشتهر من علماء هذه الأسرة السيد محمد ابن جعفر الكتاني صاحب كتاب “سلوة الأنفاس فيمن أقبر من العلماء والصلحاء بمدينة فاس”، وهو كتاب هامٌّ في التراجم، وحظي هذا الكتاب بعد طبعه باهتمام الباحثين، واشتهر الشيخ عبد الحي الكتاني بكتابه” التراتيب الإدارية” ومكتبته القيمة ، واستمرت صلتي بهذه الأسرة فيما بعد ، وتعرفت على الكثير من علمائها خلال إقامتي في المغرب، من أمثال الدكتور محمد الكتاني والدكتور يوسف بن مولاي إبراهيم الكتاني ومولاي إبراهيم الكتاني والسيد ادريس الكتاني .

وغاب المغرب عن ذاكرتي لمدة طويلة ، وغاب أصدقائي المغاربة، وشغلت بما كان يجري في الشرق العربي من أحداث وتطورات  ، وكان الإعلام هو النافذة التي نطلُّ من خلالها على المغرب العربي، وكان المغرب غائباً , وكأنه في قارة بعيدة , وارتسمت فى أذهاننا صورة سلبية عن المغرب ، نظام ملكي يواجه خصومه بقسوة ، ويزج بهم في السجون، ويطاردهم في كل مكان، وكان الإعلام قاسياً في حملته على المغرب وتشويه صورته ، وجاءت أحداث الصخيرات والهجوم على الطائرة الملكية، لتؤكد هذه الصورة من عدم الاستقرار والصراع الداخلي ، والسجون القاسية والصدامات الدامية ….

كنت في تلك الفترة من عام 1958 الى عام 1972 أتتقل بين دمشق والقاهرة والرياض والكويت، وشهدت أهم الأحداث السياسية قيام الوحدة بين سوريا ومصر والانفصال وسقوط النظام الملكي في العراق واليمن وليبيا واهتزاز الأنظمة المحافظة ، وحرب اليمن , ثم هزيمة الجيوش العربية، وسقوط القدس والجولان وسيناء وحرب الأيام الستة ، وأصيب المواطن العربي بالإحباط واليأس وضعفت الثقة بين المواطن العربي والأنظمة الحاكمة ، وكان المواطن يحمّل هذه الأنظمة مسؤولية ما جرى من انتكاسات، وتراجعت الشعارات ، ولم تعد لفظة الاشتراكية والتقدمية تعني شيئاً بعد النكسات الكبيرة للانظمة الشمولية والعسكرية ، وبدأ الاتجاه نحو الإسلام ينمو ويكبر في الأوساط الشعبية ، وارتفع شعار المقاومة ضد إسرائيل وضد سياسات الهيمنة في كل المنطقة العربية , وكنت أرقب كلّ هذه التحولات في مجال الفكر وفي مجال المواقف، وأتفاعل مع هذه الظواهر الاجتماعية واتابع مسيرة هذه التحولات .

 

أول لقاء مع المغرب

انتقلت من الرياض إلى الكويت عام 1970 وكانت جامعة الكويت في تلك الفترة من أنشط الجامعات العربية , وقد ضمت هذه الجامعة الناشئة أهمّ الكفاءات العربية وبخاصة من الجامعات المصرية , وقد هيأت الكويت كلّ الظروف التي تساعد على تطور هذه الجامعة وتشجيع البحث العلمي فيها , وخطت هذه الجامعة خطوات موفّقة في مجال البحث العلمي واستفادت من هذه الكفاءات , وأصدرت مجموعة ممتازة من البحوث والمؤلفات , وشجعت عدداً من الكفاءات العربية التي كانت تعيش في أوروبا وأمريكا للعودة للعالم العربي وهذه خطوة موفقة ومفيدة وضرورية…

وكانت الكويت تحتضن مؤتمرات وتقيم ندوات وتصدر مجلات ودوريات علمية وثقافية هامة مثل مجلة العربي ومجلة دراسات الخليج وأعلام العرب ، وكانت الصحافة الكويتية تؤدي دوراً مهما من الناحية السياسية والثقافية، واعتمدت على الكفاءات العربية المتخصصة التي أسهمت في النهضة الثقافية والعلمية في الكويت ..

وفي عام 1972 عُقد مؤتمر لوزراء الأوقاف في الدول العربية في دولة الكويت، وحضرت هذا المؤتمر, وشاركت في أعماله , وحضر وزراء الأوقاف العرب ، وشارك في المؤتمر الأستاذ محمد مكي الناصري وزير الأوقاف والثقافة في المغرب، وكان من الشخصيات المغربية المعروفة بمواقفها الوطنية ، وكان عالماً متميزاً وخطيباً مفوهاً ورجل سياسة وحكمة ودراية ، وتولّى مناصب سياسية كبيرة، بالإضافة لمكانته العلمية وجهاده الوطني ، وكان رئيس حزب سياسي في منطقة الشمال ، وكان الملك يثق به ويقربه ويعتمد عليه ، وكان عمره يتجاوز الستين ، ويرتدي الملابس المغربية التقليدية ، وألقى كلمة موفقة في المؤتمر، ولم أتوقع أن يصدر مثلها عن وزير مغربي تنم ملامحه عن التمسك بكلّ قديم ورفض كلّ جديد ، واكتشفت أن الرجل يملك رؤية فكرية ذات أفق واسع ، ويتحدث بلغة غير متوقعة من أمثاله ، ويتطلع للأفضل ويرفع شعار التجديد والتحديث والتصدي بشجاعة لقضايا المجتمع ….

ودارت بيننا مناقشات وحوارات حادة ومفيدة خلال جلسات المؤتمر، وكان ينصت باهتمام لما أقوله، ولما انتهى المؤتمر قال لي: أريد أن نلتقي هذا المساء ، والتقينا في ذلك المساء ، وفي بداية اللقاء سألني عما أعرفه عن المغرب ، فأجبته بأنني لا أعرف أيّ شيء عن المغرب سوى ما أقرأه في الصحف، وما أعلمه عن تاريخ المغرب ..

وأخذ يحدثني بلغة عربية فصيحة وبأسلوب هادئ رصين عن المغرب المعاصر، مكانة الإسلام في المغرب، الملكية في المغرب ، المغرب بعد الاستقلال ، التحديات التي تواجه المغرب ، طموحات المغرب , شخصية الحسن الثانى , وكانت الصورة التي رسم ملامحها عن المغرب مغايرة للصورة التي كانت في ذهني ، وعبرت له عن دهشتي بما أسمعه منه ، وقال لي:إنني أتوقع أن تكون صورة المغرب قاتمة في ذهنك، ولكن المغرب ليس كذلك ، والملكية راسخة وعميقة الجذور , وهي ركن الاستقرار فى المغرب , وحدثني عن طموحات الملك في مجال خدمة الثقافة الإسلامية ، وإن الملكية في المغرب تعتمد على بيعة شرعية، وهذا ما يؤمن به معظم المغاربة ، وانتهى اللقاء  ، وتوقعت أننا لن نلتقي مرة ثانية ، واعترف أنّ هذا الرجل قد ترك في نفسي أثراً طيباً، وأعجبت بنبل هذا الرجل وأدبه وخلقه، فقد كان في غاية التهذيب في عباراته وفي منتهى الصراحة والوضوح والشجاعة في إبداء آرائه …

 

 

الزيارة الأولى للمغرب

في عام 1973، أي بعد عام من هذا اللقاء، تلقيت برقية من السيد “محمد مكي الناصرى“يبلغني فيها دعوة جلالة الملك للمشاركة في الدروس الحسنية التي يرأسها الملك خلال شهر رمضان ، ولم أكن قد سمعت باسم الدروس الحسنية من قبل ، ولا أعلم أيّ شيء عنها ، فقد كان الامر مفاجئاً لي وجديداً، وترددت في الأمر , واتصل بي سفير المغرب في الكويت السيد أحمد بن المليح وشجعني على قبول الدعوة ، وزاد ترددي بعد أن سألت عن هذه الدروس ، وتهيبت هذا الموقف ، وحدثني بعض من عاش في المغرب أنّ الملك يهتم اهتماماً كبيراً بهذه الدروس , ويشارك أحياناً فيها بدرس أو تعليق، وأحياناً يقاطع المتكلم إذا عرض فكرة مخالفة لما يريده الملك ، وكنت أتوقع أن أفكاري لا يمكن أن يقبلها الملك ، وقد تكون مغايرة لما يريد ، وفي الوقت ذاته فإنني لا أحسن كلمات المديح التي يتطلبها الدرس وكنت أكره المبالغة في ذلك ، وهذا كلّه قد يحرجني في مجلس الملك ، بالإضافة إلى أنّ المدعوين للدروس هم أعلام العالم الإسلامي ، وهم أصحاب مراكز قيادية رفيعة ، وكنت في سنٍ لا يسمح لي أن  اتكلم امام هؤلاء الأعلام الكبار من أمثال شيخ الأزهر ومفتي مصر ، وأعلام من العالم الإسلامي بالإضافةإلى أعلام المغرب، من أمثال الزعيم المغربي الأستاذ علال الفاسي والأستاذ عبدالله كنون رئيس رابطة علماء المغرب،والأستاذ عبدالواحد العلوي رئيس جامعة القرويين، وعزمت على الاعتذار , وليس هناك ما يدفعني لهذه المغامرة التي قد اندم عليها ، وانتشر خبر الدعوة بين أصدقائي في الجامعة ، ومعظمهم كان يشجعني على قبول الدعوة , ومن أبرز هؤلاء الدكتور عبد الوهاب حومد والدكتور عبدالحي حجازي عميد كلية الحقوق وكان من أعلام القانون في مصر , وقد شجعني كل التشجيع، ودفعني دفعاً لقبول الدعوة، وخجلت أن اظهر بمظهر المتهيب والمتردد ، وغادرت الكويت إلى الرباط عن طريق باريس، وفي مطار باريس التقيت بالدكتور صبحي الصالح العالم اللبناني المعروف ، ولم أكن اعرفه من قبل، وتعارفنا وكان مدعواً للمشاركة في هذه الدروس , واستُقبلنا في مطار الرباط استقبالاً جيداً وأقمنا في فندق تور حسان الشهير ، وكان من أجمل فنادق الرباط في ذلك الحين ,ويتميز ببنائه المعماري ذى الطراز المغربى الجميل ,  وشعرت بسعادة كبيرة , وأنا أتناول طعام الإفطار الرمضانى في القاعة المغربية وعلى المائدة المغربية والطعام المغربي الذي يقدم في رمضان , وشعرت ولأول مرة وكأنني في عالم سحري جميل، وشدني كل ذلك , وأشعرني  بالفرحة والسعادة ، وتناولنا طعاماً جديداً لم نألفه من قبل، المقبلات الرمضانية والطاجن بالبرقوق والدجاج مع الزيتون والليمون ، وخبز القمح اللديذ، ثم جاءت الحلويات المغربية مع الشاي الأخضر، والتقينا في هذا الإفطار مع نخبة من العلماء المدعوين لهذه المناسبة، وكان شعور البهجة بادياً على وجوه جميع المدعوين، وتصورت نفسي كأنني أعيش في قصور العباسيين في بغداد أو في قصور الأندلس ، ومن خلف النافذة كنت أرى مجموعة من المنشدين بملابسهم البيضاء والطرابيش الحمراء وهم يعزفون بالآلة ويرددون المقطوعات الأندلسية.

وفي صباح اليوم التالي أوفد الوزير اثنين من معاونيه هما الاستاذ محمد يسف مدير الشؤون الإسلامية، والدكتور مولاي إدريس العلوي العبدلاوي مستشار الوزير، ورحبا بي باسم الوزير، وأبلغاني أنّ الوزير سوف يزورني مساء ذلك اليوم ، وفي المساء التقيت بالوزير ورحب بي ترحيباً حاراً ، وأبلغني أنه قد حدّث الملك عن لقائنا في الكويت ، وأنّ الملك سوف يسمع درسك وسألني عن الموضوع الذي سأختاره للدرس، واخترت موضوعاً عنوانه (ملامح عن الاقتصاد الإسلامي )، وكنت أهتم في تلك الفترة بموضوع الاقتصاد الإسلامي ، وألقيت عدة محاضرات عن الاقتصاد الإسلامي والمصارف الإسلامية في جامعة الإمام وجامعة الملك سعود في الرياض وفي جامعة الكويت ، وأبلغني أنّ الدروس الحسنية ستبدأ في اليوم التالي بعد العصر في القصر الملكي ، وسيلقى الدرس الأول كما هي العادة الأستاذ عبد الله كنون الحسني رئيس رابطة علماء المغرب ، وسيلقي الدرس الثاني الأستاذ علال الفاسي الزعيم المغربي الكبير ورئيس حزب الاستقلال، وفي الموعد المحدد غادرت الفندق إلى القصر، وفي الطريق إلى القصر رأيت موكب المسؤولين المغاربة والسفراء والعلماء يتوافدون على قصر الرياض الذي يقع داخل المشورالسعيد ، وهو الساحة الخارجية للقصر وهي محاطة بالأسوار التاريخية ، ويضم المشور عدداً من الإدارات الحكومية والوزارات والإدارات التابعة للقصر والوزارة الأولى والديوان الملكي، ورأيت القصر لأول مرة بجدرانه العالية وأبوابه النحاسية الكبيرة ، ودخلت إلى ضريح مولاي الحسن حيث يكون الدرس ، وكانت القاعة مكتظة بالمدعوين ، واستقبلني الوزير بترحيب كبير وأخبرني أنه سيقدمني إلى الملك بعد نهاية الدرس , وأجلسني في منتصف الصف الأول على يمين المتحدث ، وكان المجلس مهيباً، وأخذ كل فرد موقعه ، فالملك يجلس في صدر المجلس ويجلس على يمينه ولي العهد سيدي محمد ، وعلى يساره شقيق الملك مولاي عبد الله ، ويجلس الملك على أريكة واسعة مريحة ، ويجلس الوزراء على يسار الملك في صفوف منتظمة يتقدمهم الوزير الأول ورئيس البرلمان ويجلس خلفهم قادة الجيش وكبار رجال القصر، ويجلس سفراء الدول الإسلامية على يمين الملك بحسب الأقدمية يتقدمهم عميد السلك الدبلوماسي،ويجلس العلماء والمدعوون في الصف الأول أمام الملك يتوسطهم المتحدث، وإلى يساره يجلس السارد الذي يبتدئ الدرس بالمقدمة المألوفة والإعلان عن عنوان الدرس واسم صاحبه، ويجلس العلماء وبقية المدعوين خلف الصف الأول في صفوف عدة ..

وشعرت بالحرج، فقد كان المغاربة كلهم يرتدون الملابس المغربية البيضاء, الجلابة والسهام والطربوش المخزني الاحمر الذي تغطيه الجلابة، ويحمل كل شخص حذاءه الأصفر “البلغة” بيده، ويضعها أمامه، أما السفراء فكانوا يرتدون ملابسهم الوطنية التقليدية ..ورأيت العلماء المدعوين من خارج المغرب يجلسون في الصف الأول أمام الملك، ومن أبرزهم الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر، و الشيخ  محمد الغزالي والشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي مصر، و الدكتورصبحي الصالح مفتي طرابلس، والشيخ موسى الصدر الزعيم الروحي لشيعة لبنان، والشيخ الحبيب بلخوجة مفتي تونس والاستاذ محمد المبارك، وكنت الوحيد الذي يرتدي الملابس العادية المألوفة ، وكنت في سن الثالثة والثلاثين ولم أكن أعرف أحداً من الحاضرين ، وتهيبت أن أجلس بين هؤلاء الأعلام من المغاربة وغير المغاربة ، وجلس إلى جانبي الشيخ عبد الرحمن الدكالي  وكان من علماء المغرب ، وهو عالم وشاعر الملك وهو من الحاشية الملكية القريبة ، وتحدثنا طويلاً عن الدروس الحسنية وعن تقاليد هذه المجالس السلطانية ، وكان والده الشيخ شعيب الدكاني من أبرز علماء المغرب المجددين , ويقال له شيخ الإسلام وتولى وزارة القصر,  وكنت أبحث عن الزعيم المغربي الكبير علال الفاسي صاحب المواقف البطولية وزعيم الاستقلال ، وكنت أسمع عنه، وتمنيت أن أراه وأجتمع به ، وأخذ صديقي الأستاذ الدكالي وهو أول صديق عرفته يشرح لي ما كنت بحاجة لمعرفته، و يعرفني بالشخصيات المغربية، ولما سألته عن الأستاذ علال الفاسي أشار إلى رجل يجلس في الصف الأول أمام عامود من الرخام , وتدل ملامحه على ذكاء وحكمة وشخصية متميزة ، وتمنيت أن أذهب إليه وأسلم عليه ، فمثل هؤلاء الرجال يستحقون الاحترام والتقدير، والتفت إليّ الأستاذ عبدالله كنون رئيس علماء المغرب، وكان هو المتحدث في هذه الجلسة، وكنت أجلس على يمينه، وأخذ يحدثني عن أهمية الدروس الحسنية وأن مسؤولية المتحدث أن ينقل إلى الملك ما يحتاج إليه الملك من معرفة بشؤون شعبه ، وأن يقدم النصيحة الصادقة، لأنّ النّاس ترقب كل كلمة تقال أمام الملك ، والملك يحب أن يسمع ويحب الكلمة الصادقة ، وهذا هو دور العلماء في أداء رسالتهم الناصحة.

وقد أعجبت بما سمعت من الأستاذ كنون، ومنذ ذلك الحديث بدأت صلة صداقة ومودة دامت أكثر من خمسة عشر عاماً ، وكان أحد الأعلام الذين يفخر المغرب بهم سواء من الناحية العلمية أو من حيث المواقف الشجاعة التي مكنته من النهوض برابطة العلماء إلى حيث يجب أن يكون عليه العلماء من دفاع عن قيم الإسلام والقيام بمسؤؤلية التعبير عن كلمة الحق والنصيحة الصادقة…..

وفجأةً سمعنا صوتاً من بعيد يردد كلاماً لم أتبيّن معناه ، وأخذ الصوت يقترب، وأنصت الجميع، ونهض كل من في المجلس، وأدركت أنّ الملك قادم، وهناك مجموعات من خدم القصر يقفون على شكل جماعات من سبعة أفراد فإذا اقترب الملك نادوا بصوت مرتفع “الله يطول في عمر سيدي “، وهكذا يتم الإعلام بقدوم الملك إلى أن يصل الملك إلى المكان الذي يريد الوصول إليه..

 

 

في مجلس الملك

دخل الملك إلى قاعة الدروس ووقف الجميع احتراماً، وألقى الملك السلام، ورد الجميع التحية، وانحنى الوزراء انحناءة كبيرة، واكتفى العلماء بانحناءة خفيفة بالرأس، ومن تقاليد المغرب، أن العلماء لا يقبّلون يد الملك ويكتفون بتقبيل الكتف ، وهذا أمر جيد، ويدل على احترام العلم والعلماء ، إذ لا يليق بالعلماء أن يحنو رؤوسهم فى أي موقف  ، ولا أن يقبّلوا يد الحاكم ، ومن كرّم العلم كرّمه علمه، وعادة الانحناء ليست مستحبة، ولو كانت للوالدين، والتقبيل من الكتف مقبول ومحمود ويدل على الاحترام …

جلس الملك على الأريكة المعدة له ، و جلس كل من في المجلس، وأعطى الملك إلى السارد إشارة البدء في الدرس، وشرع السارد في قراءة المقدمة المعهودة ، ونظر الملك إلى يمينه وتفقد كل الجالسين من السفراء ، ثم نظر إلى يساره وتفقد كل الجالسين من الوزراء , ثم أخذ يتفحص وجوه العلماء والمدعوين الآخرين الذين يجلسون أمامه ، كانت نظراته فاحصة وأظنه قد استوعب كل شيء في مجلسه ، ثم أخذ ينصت إلى المتحدث أمامه ، ويتتبع كل كلمة ويتابع كل فكرة ، ويعطي اهتماماً لا حدود له لما يسمعه، وكنا نجلس أمامه ونشعر أنه يراقب حركتنا ويتفحص الوجوه التي كانت تنظر إليه باستحياء ورهبة واحترام ، وسرح ذهني في خواطر سوداء مؤلمة ولم تكن مجرد خواطر ، وإنما هي وقائع حقيقية ، ولا أظن أنّ الملك ينساها، فهي لا زالت حية في ذاكرته إذ كان يحتفل بعيد ميلاده في قصره، وقد أقيمت الموائد الفاخرة في حدائق القصر، وأخذ الملك يطوف بين المدعوين من ضيوفه ووزرائه ورجال دولته، وكان فرحاً بهذه المناسبة ، وفجأة يدخل عدد كبير من ضباطه وجنده هذا الحفل، ويطلقون الرصاص ويقتلون ويجرحون ويعتدون ويذلون ، وكانوا يريدون الملك ويبحثون عنه ولو تمكنوا منه ما تركوه حياً، ولولا لطف الله لما نجا الملك من هذه الجريمة وأخذت الأحداث تتلاحق في ذهني وكأنني عشت تلك المأساة المروعة..

لم يشعر الملك بما كان يدور في ذهني وربما لاحظ شرودي وحاولت أن أعود إلى الدرس وكنّا لا نخشى شيئاً ، وربما كان البعض يخشى أن  يقع الغدر من جديد ، ومن حق الملك أن يحذر كل الناس وأن يرقب كل حركة …

وأعجبت برباطة جأش الملك وقدرته على التحكم في أعصابه وفي إخفاء انفعالاته ، والناس لا تلتمس له العذر إذا هو قصّر في واجب من واجباته العامة  ، ما أقسى حياة الملوك , وتأملت في ملامح الملك فلم أجد في شخصيته ملامح قسوة أوعنف ,  وأعجبت بظاهرة الدروس الحسينية وبهذا المجلس العلمي الذي يضم علماء المغرب وعلماء من خارج المغرب , وهذا مظهر اعتزاز بالعلم والثقافة, وانتهى الدرس وتقدم المتحدث لكي يسلم على الملك ، وتقدم المدعوون للسلام على الملك ، ولما تقدمت نحو الملك مد يده نحوي بمودة معبرة ومددت يدي إليه وصافحته , وقال لي :لقد سمعت عنك, ورحب بي بعبارات مشجعة اشعرتنى بالمودة والدفء النفسى …

ولما عدت إلى الفندق أخذت أتأمل فيما رأيته، وتهيبت الحديث  فى هذه الدروس ، وتمنيت لو أنني اعتذرت عن تلبية الدعوة ، فلماذا أعرض نفسي لمثل هذا الموقف ، وعكفت على إعداد الدرس الذي سألقيه , وأهم الأفكار التي سأعرضها ، وكان من عادة الشعب المغربي أن يتابع هذه الدروس في كل ليلية، ويناقش الأفكار ويبدي رأيه في الشخصيات ….

وجاء اليوم العاشر من رمضان، ودخل الملك القاعة وهو متجهم الوجه، ويبدو عليه الانشغال، وعندما جلس أخذ الميكروفون وبدأ كلامه، وأخبر الحاضرين أن حرباً نشبت بين العرب وإسرائيل، في قناة السويس والجولان، وأن القوات المغربية تشارك في هذه الحرب ، وبناء عليه سوف تتوقف الدروس الحسنية ابتداء من اليوم , وطلب من الحاضرين أن يرددوا معه كلمة، (يا قوي يا عزيز ) مائة مرة، وأخذ الجميع يردد هذه الكلمة، وكان الشعب المغربي كله يردد نفس الكلمة …

وعدنا إلى الفندق ولا حديث لنا إلا حديث الحرب ، وبدأت الأخبار الأولى تبشر بانتصارات على الجبهتين السورية والمصرية ، وقد سعدنا بما كنا نسمع من تقدم القوات السورية في الجولان، وعبور القوات المصرية لقناة السويس وتقدمها في سيناء، وكانت الأخبار مفرحة بعد ليل طويل من الإحباط واليأس ، كنا نحتاج إلى انتصار لكي نستعيد الثقة بأنفسنا ، وأمضينا أمسية ذلك اليوم ونحن نتابع أخبار الحرب، وشعرت إسرائيل بالخطر المحدق بها ، وبدأت تناشد حلفاءها لإمدادها بالسلاح لكي تتمكن من الصمود ، وكادت الجبهة الإسرائيلية أن تنهار، وإسرائيل لا تحتمل الهزيمة ، وهذه نقطة الضعف  فيها، وأي هزيمة ستؤدي الى الانهيار السريع على المستوى العسكري والنفسي …. 

وعند منتصف الليل اتصل بي وزير  القصور الملكية  الجنرال مولاي حفيظ وابلغني أن الملك يريد أن يسمع درسك غداً ثم تتوقف الدروس بعد ذلك ، وفوجئت بالخبر وشغلت به وتساءلت عن سرّ اهتمام الملك بدرسي من الرغم من انشغاله بالحرب ، وتمنيت لو أنني أعفيت من هذا الدرس لأمرين :أولهما هو انشغال الجميع بأخبار بالحرب , وثانيهما أنني تهيبت من هذا الدرس ، وتوقعت أن أفكاري لا يمكن أن تلقى قبولاً من الملك ، فالأنظمة الملكية بشكل عام تحب الفكر المحافظ وتخشى من أي دعوة للتجديد، ولا تريد لشعوبها أن تسمع أيّ دعوة للتجديد والانفتاح  وتخشى من كلمة الحريات والحقوق الإنسانية ,وكنت أؤمن بفكرة التجديد , وأدعو للاجتهاد وللثقة بالعقل والاحتكام إليه ، وأنظر للتاريخ والتراث نظرة موضوعية خالية من القداسة ، وأؤمن بأنّ الحق له طبيعة جماعية ,  وكنت أدعو لتقييد الحقوق والملكيات بالمصالح الاجتماعية , وتوقعت أن مثل هذه الأفكار قد تحرج الملك ، وبخاصة أنها تعرض في درس ديني عام امام الملك , وقد ألف الناس أن يسمعوا في الدروس الدينية موضوعات دينية بعيدة عن قضاياهم الاجتماعية ، وإذا وقع التعرض لمثل هذه الموضوعات فانها تعرض في سياق القيم السائدة والعادات القائمة إلى درجة أخذ المجتمع يعتقد أن الإسلام يؤيد الواقع الاجتماعي بكل سلبياته وأن أي دعوة للإصلاح والتغير هي دعوة مناهضة للدين ، وأن مهمة علماء الدين هي تبرير الواقع الاجتماعي ومقاومة كل فكر إصلاحي والوقوف إلى جانب الحكام ضدّ المحكومين  , وتبرير الاحتكارات الضارة وإقرار الملكيات الفردية الظالمة والتفاوت في الثروات الفاسدة.

لم تكن صورة الملك في ذهني واضحة وكنت أسمع الكثير عن ذكائه ودهائه وسعة ثقافته اللغوية والشرعية ، وهذه جوانب إيجابية، وهناك جوانب يتفاوت الناس في تفسيرها ويترددون في روايتها فى المجالس العامة ، وهو أنه شخصية غضوبة وحادة الطباع , وتميل إلى الشدة والترفع والتمسك بالتقاليد والحفاظ على هيبة الملك  , والتصدي بقوة لكل المعارضين لمواقفه وآرائه, 

 واستشرت  احد  اصدقائى لمغاربة بشأن موضوع الدرس فنصحني أن أختار موضوعاً بعيداً عن القضايا الاجتماعية المعاصرة وبخاصة ما يتعلق بالقضايا السياسية والاقتصادية والحريات العامة ، وهذه قضايا لها حساسية خاصة في المغرب

وهناك أحزاب سياسية معارضة وترفع شعار الإصلاح والاشتراكية,  ويمكن أن تستغلّ هذه الأفكار لدعم مواقفها ، وهذا قد يحرج الملك وبخاصة وأنها تأتي من شخصية إسلامية مشرقية محايدة ، وأشار علي صديق آخر أن أكتفي بشرح آية في القرآن أوشرح حديث نبوي ، وهذا هو المنهج المتبع في الدروس السلطانية المعتادة في تاريخ المغرب ، فقد اعتاد ملوك المغرب على استدعاء كبار علماء المغرب لقراءة صحيح البخاري ومناقشة الأسانيد والمعاني والأحكام المستنبطة من الحديث ، وتختم الدروس بالحفل الذي سيقام ليلة السابع والعشرين من رمضان، ويشرح فيه آخر حديث في صحيح البخاري ويسمى الحفل بختم البخاري، وما زال مستمراً حتى اليوم ..

عندما رأيت الملك لأول مرة في الدرس الأول تأملت ملامحه وتابعت حركاته ولم أجد فيه صورة الشخصية التي كنا نسمع عنها من بعيد ، وكان في منتهى الأدب واللطف واللباقة والتهذيب ، وكان ودوداً في كلماته ، وعندما اختارني للحديث أمامه أراد أن يسمع مني ، وتوقع أن يسمع مني الجديد، وكان لابدّ لي أن أقدم في هذا الدرس أفكاري كما أؤمن بها , وآرائي كما أراها ، وأن التزم المنهج العلمي والموضوعية وحسن التعبير عن الأفكار، وليست مهمتي النقد وإنما مهمتي البيان ,وتوضيح الموقف الإسلامي من قضايا الملكيات والأموال والحقوق والأجور والأموال العامّة , وكنت أشعر أنني أؤدي أمانة إبلاغ الرسالة إلى ملك توسمت فيه الخير لبلده ، وكان لا بدّ لي أن أكون صادقاً فيما أقول مخلصاً في نيتي ، و عزمت على أرضي الله فيما أقول ، ولا أجامل ولا أسترضي أحداً ، ودعوت الله أن يوفقني لكي أقول ما يرضي الله ويريح ضميري ، ولم أفكر قط في استرضاء الملك أو استمالته بعبارات المجاملة المعهودة في مثل هذه المجالس ، وكنت صادقاً مع نفسي، وتذكرت كلمات طيبة سمعتها في طفولتي من جدي الشيخ محمد النبهان، وكان من العارفين بالله المشهود لهم بالمعرفة والولاية والتعلق بالله ، وكان صاحب سرٍ صادق ومحبة لله، وأنا مدين له بتربيتي الروحية وكل ما يتعلق بالقيم الإيمانية والاهتمام بطهارة القلوب….قال لي مرة:

من أراد إرضاء الله بكلامه أرضى الله عنه الخلق وشرح قلوبهم لما يقول، ومن أراد إرضاء الخلق بمعصية الله ضاق صدر الخلق بقوله، وأدّت كلماته إلى السخط عليه، وامتحن بكلماته، والإنسان معان فيما أخلص فيه من أقواله وأفعاله، ومُمتحن فيما ادعى الفضل فيه لنفسه….

هذه التأملات الروحية وهذا الحوار الداخلي الذي كان يجري فى داخلي أدّى لأمرين:أولاً:شعرت بطمأنينة وثقة بالنفس وزالت مشاعر الهيبة التي يولدها الشعور بمسؤولية الكلمة في مجلس الملك، والخشية من الارتباك من العبارة أو الفكرة، ولا حدود لأثر الارتباك على المتكلم إذا فقد السيطرة على نفسه وتداخلت الأفكار، وبخاصة في مجلس علمي يرأسه ملك اشتهر بدقته العلمية ويحضره كبار علماء العالم الإسلامي وكبار علماء المغرب وهم أهل رواية ودراية، واشتهر علماء المغرب والأندلس بالتميز والدقة في منهج النقد في علم الحديث، وثاني الأمرين الذي ولدته التأملات الروحية الالتزام بالموضوع الذي اخترته سابقا للدرس وهو ملامح عن الاقتصاد الإسلامي في ضوء أية الاستخلاف في القرآن الكريم وأن أعبر عن جميع أفكاري بموضوعية كما لو أنني أعرضها في جامعة علمية مختصة , ولم يكن الأمر يحتاج مني لإعداد وتحضير فقد كانت الأفكار واضحة في ذهني، وكانت تحتاج إلى التلقائية والعفوية وحسن الإلقاء وتبسيط الأفكار العلمية بحيث تكون واضحة ومفهومة ، والمهم أن يحسن المتكلم في إيصال أفكاره إلى السامعين وتحدث هذه الأفكار الأثر المطلوب في نفوسهم , وتذكرت كلمة لسلطان العارفين محي الدين بن عربي الحاتمي دفين دمشق في كتابه الفتوحات المكية، ذكر فيها أن الفتوحات تنقسم إلى قسمين: فتوحات العبارة وهي خاصة بالمتكلم ويفتح الله على المتكلم بحسن العبارة، أما الفتوحات الأهمّ فهي فتوحات الحلاوة وتخص السامع ويفتح الله عليه بحسن الفهم وانشراح الصدر , وهذا يؤكد أنّ الفضل لله فيما تحدثه الكلمات من آثار لكي تتم إرادة الله فيما قدر واختار , وارتبطت المقدرات الإلهية بأسباب عادية ظاهرة لإخفاء أسرار الألوهية في تدبير شؤون الخلق , والجاهل تخفى عليه الحقيقة وينسب الأمر لنفسه ويجهل أن الله تعالى خلق الخلق واحكم تدبيره , والعباد مدفوعون لتحقيق إرادة الله بما هو مقدر عليهم ولو سألت هؤلاء الناس عن سر ما يفعلون لما وجدوا جواباً مقنعا لما يفعلون.

وإنني أكتب اليوم عن  ذكريات يوم في حياتي  وهو يوم 11 / رمضان والذي يوافق يوم7 /تشرين الأول- (أكتوبر) /1973م وهو اليوم الثاني لحرب تشرين [أكتوبر]الذي حقق العرب فيها انتصاراً مؤكداً على إسرائيل، بصمودهم وتضحياتهم، وعندما أتحدث عن هذا اليوم وأقف طويلاً عنده وأسهب في شرح ظروفه وما رافقه من أسباب وما أحدثه من نتائج، والتي أحدثت تحولاً في حياتي وجعلتني أنتقل من المشرق إلى المغرب، وأعيش لمدة ثلاثين سنة في المغرب، وأن أسهم بجهد متواضع في خدمة مؤسسة علمية رائدة سيتحدث عنها تاريخ المغرب العلمى بإعجاب وتقدير، وسوف يفخر بها علماء المغرب في المستقبل، وسوف تكون درة نفيسة في عهد الملك الحسن الثاني رحمه الله …

ولولا ذلك اليوم لما كانت رحلتي المغربية ، ولاكان المغرب في حياتي ، ولا كنت في تاريخ المغرب ، ولو أردت ماكان لما استطعت تحقيق ذلك، ولكن الله قدر وأراد، واندفع كل طرف لما قدره الله له، وهو لا يدري أنه مدفوع بإرادة الله لما قدر الله ..

واذكر كلمة لابن عطاء الله في حكمة، قال :

أرح نفسك من التدبير فماقام به غيرك عنك فلا تقم به من نفسك …

واذكر هذا للاعتراف بفضل الله علي في هذا الدرس، فلم أقل شيئا لم أقله من قبل، ولم آت بجديد لم يسبقني غيري إليه ، وكنت واحداً من عشرات العلماء الذين تكلموا في هذه الدروس خلال العهد الحسني ، ولم أفضل هؤلاء بشيء لا يملكونه، ومعظمهم كان أكثر مني علماً وأفصح لساناً وأكثر مني صلاحاً، و كانوا يملكون ما لا أملك من مكانة رسمية وسمعة علمية و تجربة في الحياة ، وكنت صغير السن حديث عهد بالحياة العلمية ، ومازلت أخطو الخطوات الأولى في حياتي العلمية ، ولم أكن أملك أيّة مظلة توفر لي الحماية والمكانة فلا أملك أيّ منصب رفيع ولا أحتمي بدولة تراعى مشاعرها في احترامي ، وجئت من الكويت ولا يعنيها أمري فلست من أبنائها ، وأؤكد أنّ هذا الدرس الذي ألقيته في هذا اليوم هو الذي سيقودني بعد أربع سنوات إلى دارالحديث الحسينية لكي أقود مسيرتها لمدة ثلاث وعشرين سنة و اقترن اسمي باسمها لدى المغاربة، وكنت سعيداً خلال هذه الفترة ، ولم أندم قط على اختياري، وكان الملك أكثر نبلاً مما توسمت فيه ، وأكثر وفاءً مما توقعت منه ، واكتشفت فيه من أخلاق الملوك ما يدفعني لاحترامه ، كما اكتشفت أصالة الشعب المغربي وأدبه وخصاله الرفيعة ، وأحببت المغرب بكل قلبي، وبذلت كل جهدي لكي أخدم المغرب تعبيراًعن حبي ووفائي له، فإن وُفقت فالفضل لله في ذلك أن وفقني لما قمت به، وإن لم أوفق في مهمتي فأرجو أن يلتمس العذر لي فيما قصرت فيه.


 

( الزيارات : 1٬041 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *