الرحلة إلى المغرب

في المغرب

الدكتور الحبيب بلخوجة مفتي تونس ورئيس المجمع الفقهي في جدة يسلم على الدكتور النبهان بعد انتهائه من إلقاء أحد الدروس الحسنية في القصر الملكي في الرباط

الدكتور الحبيب بلخوجة مفتي تونس ورئيس المجمع الفقهي في جدة يسلم على الدكتور النبهان بعد انتهائه من إلقاء أحد الدروس الحسنية في القصر الملكي في الرباط

 بدأت الحقبة المغربية في حياتي عندما خطت بي الطائرة المغربية التي كنت على متنها في مطار الدار البيضاء مساء يوم 15/02/1977م، قادما من الكويت حيث كنت أقيم لمدة ست سنوات ونصف.استقبلني في المطار السيد زين العابدين الكتاني عضو الديوان الملكي، رحب بي باسم السيد احمد بنسودة مدير الديوان الملكي، واصطحبني إلى فندق هيلتون حيث أقمت  فيه لمدة أربعة اشهر..في طريقي من الدار البيضاء إلى الرباط كنت أتلفت عن يميني ويساري فأرى الأراضي الخصبة الجميلة المفروشة بأنواع المزروعات التي جعلت الأرض قطعة فنية رائعة بألوانها الخضراء وأشجارها الباسقة، وعلى اليسار من هذا المشهد الشاعري كان البحر الأطلسي يطل من بعيد بأمواجه الصاخبة، وفي أقصى الأفق كانت الشمس تغيب رويدا رويدا داخل البحر، مخلفة ورائها شعورا بالفرحة حينا وبالحزن حينا آخر.

كنت في حالة من التردد والخوف وأنا أسأل نفسي عما أقدمت عليه، هل أنا محق فيما اتخذته من قرار؟ هل سأندم على هذه الخطوة؟.. نظرت إلى أسرتي رأيت أطفالي يلعبون وهم سعداء برحلتهم هذه.. وأخذت أخاطب نفسي معاتبا، ما الذي دفعك إلى هذه المجازفة، وأخذ التردد يسيطر عليّ ويطوقني بمشاعر الحيرة والخوف..

قطع مرافقي هذا الصمت فجأة، وأخذ يحدثني عن المغرب، هذه هي مدينة المحمدية البلدة الجميلة الممتلئة بالزهور وهذه هي الصخيرات المطلة على الأطلسي… ربيع جميل يطل علينا من خلال الأرض الضاحكة والمبشرة بموسم جيد.

أحببت المغرب منذ أن زرته لأول مرة قبل أربع سنوات من هذا التاريخ، لم أكن أشعر بمثل هذه العاطفة من قبل، عاطفة غير معهودة، فرحة وخوف، حوار داخلي صامت، همس أسمعه يتردد في كياني.. كنت بالأمس في الكويت سعيدا مستقرا، ما الذي جاء بك إلى شاطئ الأطلسي؟ ماذا يخبئه الغد لي؟..

لم أتخذ قرارا بهذا، وما كنت أقدر عليه.. كنت مدفوعا بغير إرادة نحو قدر مرسوم، ولم أكن قادراً على إيقاف سفينتي التي كانت تدفعها الرياح نحو المغرب البعيد، عاطفة لا أدري سرها كانت وراء تلك الرحلة، كنت أسير ذلك الاندفاع الذي كنت استجيب له من غير تردد…

لا أحد يمكنه أن يأخذ مثل هذا القرار… لا أحد يختار ذلك المجهول الذي لا يعرفه، كلمة الرحيل كانت تتردد في كياني بقوة، تمنيت لو أعود على نفس الطائرة، ولكن لا سبيل إلى ذلك، ما زالت لفظة الرحيل هي الأقوى، الرحيل إلى المغرب… تلبية لدعوة ملك المغرب…

بدأت الحقبة المغربية ولا أدري متى ستنتهي.. ولكي أريح نفسي من ذلك التردد القاتل أحرقت جميع سفني التي جئت بها، لكي لا أفكر في العودة.. قد أعود يوما ولكن ليس الآن، ولا بد من القيام بالمهمة..

عدت إلى الكويت بعد ثلاث وعشرين عاما زائرا ولم أزرها من قبل، كان كل شي قد تغير، الملامح والوجوه، كنت هنا قبل ربع قرن، هذه هي ذكرياتي، وهؤلاء هم أصدقائي، لم يبق إلا القليل، انتهى كل شيء..

بدأت الحقبة المغربية قبل أن تبتدئ، وانتهت قبل أن تنتهي، بدأت في أول زيارة إلى المغرب عام 1973م عندما ألقيت أول درس لي في الدروس الحسنية، أحببت المغرب وأحبني، وكنت مع المغرب في عواطفي، كنت أراه  الأجمل، وهذا ممّا أسعدني، وكنت لا أريد أن أرى إلا ما هو جميل فيه، أحببت المغرب بكل صدق، وأحببت أهله ومدنه وشوارعه وحدائقه وعاداته وتقاليده…

مرت الحقبة المغربية سريعة.. ربع قرن تقريبا.. لم أشعر بها وكأنها لمحة بصر، هي العمر كله…

عندما رشحني الملك الحسن الثاني رحمه الله لإدارة دار الحديث الحسنية أسعدني ذلك، لأنه أشعرني بالثقة، وحملني مسؤولية ذلك، كان ذلك هو البداية.. أعطاني شعورا بالفرحة والسعادة، وكنت أريد أن أنجح في المهمة تعبيرا عن الشكر، لم تكن الطريق معبدة دائما ولا ميسرة، ومع ذلك كنت سعيدا بما كنت أصادفه من عقبات..

كنت أريد أن أعبر عن تقديري للملك من خلال جهدي في أن تكون دار الحديث الحسنية معلمة مضيئة في عهد الحسن الثاني، وأداة لتحقيق نهضة مرجوّة تتحدث عنها الأجيال اللاحقة بقدر من التقدير، هذا ما كنت أرجوه.. وكانت هذه الدار كذلك، كانت مفخرة عهد، قد ينتهي العهد يوما وتبقى آثاره مضيئة.

عندما تسلمت الإدارة، انقسم الناس إلى مؤيد ومناصر وإلى معارض ومقاوم، وهذا أمر طبيعي، من هذا القادم من بعيد ؟ والمغرب ملئ بكفاءاته… لم يحزنني هذا التساؤل، كنت أتفهم أسبابه النفسية ودوافعه الغريزية، لو كنت واحدا منهم لوقفت إلى جانب المعارضين…

( الزيارات : 830 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *