الكلتاوية بعد رحيل السيد النبهان

الكلتاوية بعد رحيل الشيخ:

عندما رحل الشيخ إلى الرفيق الأعلى أصبحت الكلتاوية في قمة عطائها، حيث كانت مركز إشعاع علمي بمدارسها التابعة لها وأهمها دار النهضة الشرعية، وجمعية النهضة الإسلامية التي توسعت نشاطاتها الاجتماعية في مساعدة الأسر الفقيرة بالمواد الغذائية وتوفير العلاج للمرضى، والتكوين المهني للفتيات الفقيرات.

لم تتوقف مجالس الشيخ بالرغم من الظروف الصحية والعوارض المرضية، بل إن إخوان الشيخ قد ازداد عددهم، وتعددت المجالس، وخصص الشيخ لكل مجموعة متجانسة وقتاً يجتمع بهم، فهناك مجلس لطلاب العلم الشرعي، وهناك مجلس للمهندسين والأطباء وأصحاب الاختصاصات العلمية والثقافية المتعددة وهناك مجلس للتجار وأصحاب المهن الصناعية، ودروس خاصة للنساء، وبالإضافة إلى المجالس العامة للجميع.

في السنوات الأخيرة وجه الشيخ اهتمامه لأهل الريف وبخاصة بعد أن أقام فترة في قرية التويم في المنطقة الجنوبية من مدينة حلب، وأصبحت «التويم» والقرى المحيطة بها من أهم المناطق التي انتشرت دعوة الشيخ فيها، إذ يتميز سكان القرى بالفطرة النقية والقابليات للخير، وهم أوفياء لما يؤمنون به، فإذا أشرق الإيمان في قلوبهم فسرعان ما يستجيبون لما يؤمنون به، ويظهر ذلك على سلوكهم.

واشتهر الشيخ بحبه للريف وإعجابه بقيم أهل الريف، وبخاصة قيم الشجاعة والسخاء والشرف، وهذا ما جعله يأنس بحياة الريف، فقد كان يحب بساطة العيش ويضيق بقيود المدينة وتقاليد المدنية.

في سنواته الأخيرة كان الشيخ أكثر صفاء وروحانية، كان يغلب عليه الشعور بالرضا والاستغراق بحب الله، كان راضياً بكل ما يختاره الله له ولو كان ذلك الشيء مؤلماً، كان يرى كل شيء من الله ولذلك كان راضياً بقضاء الله وقدره.

كان يريد أن تحافظ الكلتاوية المباركة على وجودها، وأن يستمر إشعاعها كما كان، وبقيت الكلتاوية بعد رحيله كما كانت، كل شيء بقي كما كان، إخوانه ظلوا كما كانوا أوفياء للكلتاوية لم ينقطعوا عنها، إذ أن مجالسه بقيت كما كانت في مواعيدها، دروسه المسجلة استمرت لم يتوقف شيء مما كان.

رحل الجيل الأول من إخوان الشيخ وبقي الجيل الثاني والثالث، جيل الأبناء والأحفاد، بعضهم لم يجتمع بالشيخ، أو رآه في طفولته الأولى… لكنهم راحوا يسمعون أحاديث الشيخ المسجلة ويستوعبون ما يروى عنه من آراء وتوجيهات وحكم ووصايا.

جلس ابنه الأكبر السيد أحمد في الكلتاوية بعد وفاة أبيه، وتفرغ لخدمة الكلتاوية لا يخرج منها في نهار أو ليل، وسكن في دار مجاورة لكي يتمكن من الإشراف على تراث أبيه، إنه فخور بذلك التراث الروحي الكبير الذي ما زالت آثاره مستمرة.

وما زالت المدرسة الشرعية كما كانت، حيث أصبح أبناؤها علماء يؤدون رسالتهم العلمية، زاد عددهم عن الألف، وهم في كل مكان، يفخرون بانتمائهم لمدرسة الشيخ (النبهاني) التي عرفت بهذا الاسم على كل لسان.

توقفت جمعية النهضة بعد عشر سنوات من رحيل الشيخ، واستمر عمل الخير قائماً، والخير مستمر في هذه الأمة إلى يوم القيامة.

وعظماء الرجال عندما يرحلون يبقى تراثهم حياً، تذكره الأجيال اللاحقة، وهو كالشجرة الطيبة الذي يتجدد ثمرها في كل عام، وتعلو أغصانها وتمتد في الفضاء الفسيح، لكي تؤكد أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، يورق في كل موسم ويزهر في كل ربيع.

لم تكن الكلتاوية مجرد جامع رفعت أعمدته الرخامية لكي يؤدي الناس صلاتهم فيه، وإنما كان مركز إشعاع روحي، نظيف الغاية نبيل الهدف، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويرفع شعار الإصلاح الأخلاقي ويهتم يتزكية النفوس وإصلاح القلوب، ولا يطمع في سياسة ولا جاه ولا تحركه الأهواء والشهوات ولا تشتته كل الإغراءات الدنيوية.

هذا ما كان يريده الشيخ وما يدعو إليه، والذين أحبوا هذا المكان وتعلقوا به إنما أحبوا فيه نقاءه وصفاءه، ورأوا في مرآته قيماً إنسانية رفيعة، تدعوهم إلى التعلق بالكمال والترفع عن الصغائر والتحلي بالصفات الأخلاقية المحمودة.

والذين أحبوا الكلتاوية أحبوها لأنهم عرفوها، ومن عرف الأمر على حقيقته أحبه، والذين أبغضوا الكلتاوية جهلوا حقيقتها، وهم معذورون في ذلك.

وأهل الكلتاوية بعد رحيل الشيخ مؤتمنون على تراث الشيخ، أن يقدموه في صفائه ونقائه، كما كان الشيخ يقدمه لا كما تصوروه هم، وأن يبرزوا فيه بعده الأخلاقي والإنساني، وألا يقدموه مشوهاً أو ضيقاً في آفاقه، وأن يسهموا في إغنائه وإثرائه بالفهم العميق لدلالته، فالتراث ثروة يجب الحفاظ عليها وذلك بفهمها المتجدد والمتفتح، وهذا جهد لا يحسنه إلا من كان مؤهلاً له بالمعرفة الحقة.

والفكر يجب أن يفهم في إطار زمانه ومكانه، فإذا قرأ الفكر في غير إطاره المكاني والزماني لم يفهم الفهم الصحيح، ولابد من القراءة الجديدة لكي يعطي الفكر أبعاده الحقيقية، ولكي يسهم في إغناء التجربة الإنسانية، فالفكر يغني واقعه بدلالة ظاهره ويغني مستقبله بدلالة مقاصده وغاياته، ودلالة الظاهر يجب أن ترتبط بدلالة المقاصد والغايات، لكي يمتد إشعاع الفكر إلى المستقبل ويغنيه بعطاء الأجيال السابقة.

ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يملك القدرة على فهم تراث الشيخ، فذلك ادعاء خاطىء، لأنه يجعل ذلك التراث أسير رؤية شخصية محدودة، وهذا تقييد لمطلق في إطار فهم ضيق، والفكر الإنساني عندما تغلق النوافذ عليه سرعان ما يصاب بالشحوب فلا تبرز ملامحه المضيئة.

( الزيارات : 1٬418 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *