مجالس الذكر فى الكلتاوية

ذكر الكلتاوية:

لم تعرف الكلتاوية القديمة حلقات الذكر أو ما يسمى «بالختم» أو مجالس الذكر وكان في مرحلة مجاهدته الأولى يدير ختم الطريقة النقشبندية في جامع باب الأحمر، واشتهر هذا الختم في حينه بسبب ما كان فيه من صدق وإخلاص.

وكان بعض إخوانه يحب مجالس الذكر لما فيها من السماع والنفس تأما في الباطن.نس بالسماع وتستلذه لأنه يثير الوجد، ويحرك ما في القلوب فمن أحب الله تحرك قلبه بمحبة الله، ومن أحب شيئاً آخر حرك السماع ما في القلوب، والسماع لا يوجد شيئاً من عدم، وإنما يثير 

لم يمتنع الشيخ عن حضور مجالس الذكر والسماع، ولكنه لم يكن متحمساً لها، ولم يكن يحرص عليها، وكنت أشعر أنه يفضل عليها مجالس المذاكرة، وهي أحب إليه.

كان أحد إخوانه يملك صوتاً جميلاً ويتشوق أن يطلب منه الشيخ أن ينشد في مجالسه ولكنه لم يطلب منه ذلك، وأحياناً كان يستأذن الشيخ في أن يقول شيئاً فيأذن له.

ولم أشعر أن الشيخ يحب السماع ويسعده ذلك، وقلما كانت مجالسه الخاصة تنشد فيها الأشعار الغزلية التي تميل النفس إليها ويستلذها السمع، لعل سبب ذلك أن من شروط السماع ألا تستروحه النفس، فإن مالت النفس إلى ذلك، فالسماع يضر بصاحبه ولابد من صدق النية في السماع والإخلاص لله فيه، والتزام الأدب في مجالس السماع، وقلما يكون ذلك في هذه المجالس التي غالباً ما تكون مجالس لهو وبهجة وغفلة، ويألفها العوام وتحرك ما في نفوسهم من رغبات وشهوات فكل واحد يذكر ليلاه التي أحبها وتعلق قلبه بها، والأدب في مجالس السماع مطلوب لإحداث الوجد المراد والمحمود والمفيد، وليس الوجد من النغمات المثيرة للأهواء والمحركة للميول، وإنما من الأثر الذي تثيره المعاني الروحية في النفس، فتتحرك تلك النفوس بما التفتت إليه القلوب وانشغلت به.

وكان بعض إخوان الشيخ يرجوه أن يقيم حلقات الذكر في الكلتاوية ولكنه لم يفعل ذلك ولما اكتملت الكلتاوية الجديدة أذن الشيخ بأن تعقد جلسة ذكر وإنشاد ومدائح بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع، وكان الشيخ يدير هذه الجلسة التي كانت تبتدىء بالاستغفار والرابطة الشريفة (بين الشيخ والمريد) والصلوات الشريفة وقراءة ما تيسّر من القرآن ثم حلقة الذكر والأمداح النبوية التي ينشدها المنشدون وتنتهي جلسة الذكر هذه بالدعاء الصالح إلى الله تعالى، وكان الشيخ يحضر الجلسة في حياته، وما زالت مستمرة حتى الآن في الكلتاوية وأهم ما كان يحرص عليه في هذه الجلسة التزام الأدب والخشوع بين يدي الله واستشعار الهيبة منه.

لم يكن الشيخ يريد ذكراً محدداً في وقت من نهار أو ليل، وإنما كان يريده ذكراً دائماً مستمراً، ذكراً ليس باللسان، وإنما ذكر بالقلب، فالمحبة تولد دوام ذكر المحبوب، ليكون الأنس به دائماً، والذكر تختلف أشكاله ووسائله لكي تكون النفس مستعدة له، تجد فيه راحتها، تستلذه وتفرح به، ويحدث أثره في النفس نوراً ويقظة.

والذكر الدائم للشيخ هو أذكار ما بعد الصلاة، بعد انتهاء صلاة الفرض وقبل صلاة السنة، كان يذكر الله بالتسبيح والحمد والاستغفار، بالإضافة إلى الدعاء، فإذا انتهى من الذكر والدعاء صلى السنة… وكانت مجالسه هي مجالس ذكر دائم. تحفها دروس المذاكرة المستمرة.

وأهم ما كان يحض عليه في مجالس الذكر حضور القلب، والمراد بحضور القلب أن يتوجه القلب بكليته إلى الله تعالى، فلا يجول الفكر في غير ذلك، فإذا حصل ذلك التوجه وذلك الحضور وجب التفهم لمعنى كلمة الذكر، وليس لمجرد إيراد ألفاظها، فالغاية من الكلمة هو معناها وما تدل عليه، ليحصل بذلك التفهم الثمرة المطلوبة وهو تعظيم الله في القلب واستشعار الهيبة منه، ولا يمكن تحقيق معنى الحضور والتفهم إلا بانصراف الهمة إلى الله، فمن انصرفت همته إلى الدنيا فلا يحصل له بالذكر ذلك الحضور القلبي، لانصراف الهمة إلى شيء آخر.

كان الشيخ يعلم إخوانه في مجالس الذكر أن يغمضوا أعينهم دفعاً للخواطر التي ترد على القلب وتشغله فيفكر فيها، سواء فيما كان يشغله من قبل من أمر دنياه كالتجارة والمال والأولاد، وهذه الخواطر لا تدفع بإغماض العين لوجودها في القلب ولانشغاله بها، وإنما تدفع بالتغلب عليها بتركيز الذهن في معاني الذكر وينفع إغماض العين لمنع البصر والسمع من التقاط ما يشغل القلب مما يتراءى أمام الحواس من المرئيات والمسموعات، وهذه يمكن التغلب عليها بانصراف الحواس عنها…

لا شيء كان يزعج الشيخ في الكلتاوية مثل مجالس المسامرة بين الإخوان حيث يدور الحديث فيها عن الآخرين بالغيبة، وهذا انشغال بما هو غير مفيد وهو ضار، فمجالس المسامرة يجب أن تكون مجالس يقظة وليست مجالس غفلة، فاليقظة تثمر العمل الصالح، أما الغفلة فلا تثمر إلا ما هو ضار ومذموم من الصفات، لأن النفوس تستلذ ما تألفه الغريزة من أنواع الشهوات.

كان الشيخ يريد للكلتاوية أن تكون النموذج التربوي الأكمل، وأن تكون المكان الذي ترتقي فيه النفوس إلى الأفضل وتصفو فيه القلوب وتتطهر، وألا يكون في القلب إلا الله.

ولن يكون الله في قلب العبد محبة وشوقاً وإيثاراً ما لم يرتحل كل ما سوى الله عن ذلك القلب، وعندئذ فقط تشرق المعرفة في القلوب التي تهيأت لتلك المعرفة بالطهارة النفسية. وكان يأمر أن يُفرغ القلب من الأغيار كيما يُمممبالمعارف والأسرار.

قال تعالى: {{ع94س6ش19ن83/س6ش19ن444} [الأنعام: 91].

الجمعة في الكلتاوية:

معظم إخوان الشيخ كانوا يصلون الجمعة في الكلتاوية، وكان يوم الجمعة يوماً حافلاً ممتداً، في صباحه ومسائه، كان الإخوان يحضرون في وقت مبكر، وفي أيام بناء الكلتاوية كانوا يتناولون طعام الإفطار في الكلتاوية بطريقة جماعية، ويقضون النهار كله، وكان الشيخ يحضر قبل الصلاة، ويجلس في غرفته الخاصة ويستقبل ضيوفه وإخوانه، وفي وقت الصلاة كان ينتقل إلى المسجد، حيث يصلي الجمعة، ثم يعود إلى غرفته.

كان خطيب المسجد هو الشيخ بشير الحداد وهو الخطيب الأول والأقدم منذ كانت الكلتاوية القديمة، كان يكتفي بخطبة قصيرة، يعتمد فيها على إيراد آية أو حديث وشرح المعاني المستفادة منهما، كان المشرف على الكلتاوية وهو الإمام والخطيب، وكان رجلاً فاضلاً محباً للشيخ، هو وأسرته، كان الشيخ يحبه ويلاطفه في الحديث، وهو حافظ للقرآن ويحسن القراءة.

ولما بنيت الكلتاوية الجديدة أراد بعض الإخوان أن يستبدله الشيخ بمن يحسن الخطابة وبخاصة بعد أن أصبحت الكلتاوية تمتلىء بالمصلين الذين يقصدونها من كل مكان، والتمسوا من الشيخ ذلك ورفض الشيخ وفاءً لذلك الرجل الذي صاحب الشيخ في أيام مجاهدته الأولى واستمر في ادائه لخطبة الجمعة إلى أن خلفه أحد أبنائه وهو الشيخ منير الحداد الذي أصبح خطيب الكلتاوية خلفاً لأبيه، ثم خلفه الشيخ محمود الحوت الخطيب المفوه المتمكن من الخطابة.

هكذا كان وفاء الشيخ لإخوانه، كان وفاء عجيباً، ولم يرض أن يستغني عن رجل رافقه في أيامه الأولى، لئلا يشعره بما يجرح مشاعره. كانت سعته لا حدود لها، ولم يكن يعنيه أن يرضي الآخرين بالإساءة المعنوية لأحد إخوانه الأوفياء.

( الزيارات : 1٬847 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *