خصائص الكلتاوية النبهانية التربوية

 

تتميز الكلتاوية بخصائص، ومن اليسير ملاحظتها من خلال تتبع حياة الذين يلازمونها في نهار أو ليل، فلا يذهب إليها إلا من يأنس بها ولا يأنس بها إلا من يجد مجانسة لأهلها والمقيمين فيها، والإنسان عندما يذهب إلى الأسواق يشتري ما تشتهيه نفسه من أطيب الأطعمة، والكلتاوية مكان بعيد وناء ولا يذهب إليه إلا من يقصده ويبذل جهده في الوصول إليه.

 

 ليس في الكلتاوية ما تشتهيه الأنفس من الملذات والتجارات والأموال وليس فيها مطامح دنيوية كالرياسات والزعامات، وكل ما فيها قوم يحبون أن يتطهروا بتزكية نفوسهم من الآثام وطهارة قلوبهم من الأخلاق المذمومة، ومن الطبيعي أن تقع المجانسة بين كل من كان فيها، فغايتهم واحدة وإن اختلفت دروبهم.

 

 إخوة في الله صادقة ليس فيها مصالح وإذا انتفت المصالح انتفت التدافعات والمغالبات، وليس هناك من يريد احتكار شيء لنفسه وحرمان الآخرين، كل من فيها يستمع القول فيتبع أحسنه. هؤلاء هم الذين هداهم الله إلى طريق الإيمان ويتفاوت الناس في السماع وفي الأخذ، كلٌّ يأخذ بحسب استعداده، وكلٍّ تنبت أرضه بعد سقيها ما هو مخبأ في أحشائها من أنواع النبات ومعظم ما تنبته الأرض الخصبة المعطاء أجمل أنواع الزهور.

 

 والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، والفطرة الإنسانية هي موطن الخير والصفاء والاستقامة، وكل مولود يولد على الفطرة، فمن انحرف فهذا بسبب عوائد الشر التي يقتبسها الإنسان من الأشرار، ولابد من أطباء القلوب الذين يعالجون النفوس بالتزكية المستمرة لكي تعود الفطرة إلى صفائها الأول، تصبح وتمسي وليس فيها غش أو حقد أو طمع.

 

 والقلوب التي اجتمعت على محبة الله وتواصت بالحق وبالصبر، ينزع الله ما في صدور أصحابها من غل مذموم فتلتقي على محبة الله وتقواه، وتأنس بذكره وتخشى منه وتعتصم به، وتشعر بصدق الافتقار إليه، وتدعو الله في صباح ومساء، ألا يكلها إلى نفسها وهواها طرفة عين، هؤلاء قوم رأوا لذتهم في غير ما اعتادت النفوس أن تجد لذتها فيه من أنواع الاهتمامات والطموحات، من حقهم أن نعترف لهم بما اختاروه لأنفسهم وألا ننكر عليهم ذلك وألا نتعالى عليهم بمزيد فهم وواسع معرفة، فمعرفتهم بدنياهم أوسع من غيرهم وإدارتهم لشؤونهم أحكم من إدارة غيرهم إلا أنهم تميزوا بأخلاقيات سمت بهم عن غيرهم وارتقت بمستوى اهتمامهم إلى أفق رحب من حب الخير والتعلق بالفضائل.

 

 والكلتاوية هي اسم مكان، ولكن ليس المراد بها المكان، فالأمكنة ليس لها خصائص ذاتية إلا من الناحية الجغرافية، فقد تكون مرتفعة أو منخفضة، حارة أو باردة، جافة أو رطبة، جميلة أو قبيحة، وما نريده من إطلاقها ليس المكان وإنما خصوصيات الرجال، وخصائص التميز السلوكي فيمن اختاروها وتعلقوا بها وانتسبوا إليها والتزموا بمنهجها.

 

 كان الشيخ هو الرمز الذي يجسد الكلتاوية وما زالت هذه التسمية قائمة بعد رحيله، وإخوان الكلتاوية هم إخوان الشيخ وأهم ما كان يميز الكلتاوية ما يلي:

 

 أولاً: التزام الأدب:

 

 شعار الكلتاوية هو الأدب، واللوحة الأقدم في غرفة الشيخ مكتوب عليها بخط كبير «أدب يا هو» «ما زالت اللوحة معلقة حتى الان في ضريح الشيخ ومنذ وعيت الحياة رأيت هذه اللوحة. ولم أكن أحسن قراءتها، رأيت اللوحة بحروفها الكبيرة ولم يكن مفهوم الأدب عند الشيخ هو انحناء الرأس في المجالس والطاعة المطلقة للشيخ وامتثال أوامره بغير مناقشة ولا تردد.

 

 وإنما يتمثل الأدب في طهارة الباطن، فمن حسن باطنه، انعكس ذلك على سلوكه الظاهر فكان أكثر استقامة في معاملاته وأكثر مودة لإخوانه والتزم بسلوكيات الأدب في علاقاته مع الأخرين.

 

 والأدب هو ثمرة لحسن الخلق فمن حسنت أخلاقه ازداد أدبه ومن أحب الله أحب عباده ومن أحب الخلق عاملهم بالأدب وتلطف بهم، والأدب هو معيار التفريق بين الصادق وغير الصادق من السالكين، فالصادق يعرف صدقه بأدبه وغير الصادق يعرف من خلال عدم التزامه بالأدب، وليس الأدب في نظر الشيخ هو حسن الخلق مع الآخرين فقط وإنما يتمثل الأدب في أدب العبد مع نفسه في خلوته وتأملاته وخواطره، فلا يسيء لأحد فيما يفكر فيه وأن يؤدي ما وجب عليه بكل صدق ونزاهة وإتقان وأن يحفظ سمعه وبصره فلا يسمع ما يعكر صفوه ولا يرى ما يثير خواطر السوء في سره، والأدب صفة ملازمة للسالك لا تفارقه في إقامة أو سفر ولا في ليل أو نهار ولا في اجتماع أو خلوة، فمن حسن أدبه في عباداته حسن أدبه في معاملاته.

 

 كان الشيخ يوصي أصحابه بالأدب، ولا حدود للأدب، والأدب مرتبة قلبية لا يقع التكلف فيها، ومن لم يلتزم بالأدب فلا يستفيد شيئاً لأن الأدب هو الذي يوجد الرابطة القلبية والتواصل الروحي، ويوصيهم أن يكونوا كما شاؤوا في مظاهرهم الخارجية، والمهم ألا يقع الالتفات في قلوبهم والتفات القلب هو دليل الغفلة، فمن التفت قلبه لغير الله في صلاته فلا يشعر في صلاته بذلك النور الذي ينبثق في القلب بعد العبادات والطاعات، ومن علائم الأدب خضوع الحواس لله تعالى فتتحرك بحركة القلب وتشعر بالخشية والهيبة فلا يكون للنفس حظ فيما يؤديه العبد من العبادات، فيكون عمله لله تعالى خالصاً له.

 

 ومن هنا لم يدع الشيخ أصحابه إلى التزام الأدب بأقواله وإنما يعلمهم ذلك من خلال أدبه معهم وتلطفه بهم فهم يفعلون ما يفعل ويقتدون به فالأمر بالتزام الأدب يثير النفوس وتأباه ولا ترضاه وسرعان ما تقع القطيعة ويتوقف التواصل، ولابد من الرفق والتلطف، لكي تقبل النفوس، ففي لحظة الإقبال يكون الاستعداد بقبول النصح والتوجيه، وفي لحظة الأدبار لابد من المداراة لتأليف القلوب بالمحبة والرعاية.

 

 ثانياً: الاهتمام بالنظافة:

 

 كان الشيخ شديد الاهتمام بالنظافة الظاهرية، نظافة المكان ونظافة اللباس ونظافة الطعام، واشتهر الشيخ بحرصه على النظافة الظاهرة، فمن حسن باطنه حسن ظاهره، والنظافة من حسن الظاهر، فكان الأكثر نظافة في ملبسه ومكان إقامته، وإذا رأى شيئاً وسخاً غضب لذلك وإذا دخل مكاناً ووجد فيه أوساخاً أزالها بنفسه وكان من عادته إذا رأى شيئاً مرمياً في الطريق أزاله وكان إذا أراد الجلوس بمكان بدأ بتنظيفه وإزالة الأوساخ منه.

 

 ويقول في مجالسه: الصوفي هو الأكثر نظافة في باطنه وظاهره ولا يألف الأوساخ، ومن احتمل الأوساخ الظاهرة فهذا دليل على احتماله للأوساخ الباطنة.

 

 كان الأكثر نظافة في ملابسه والأكثر أناقة وجمالاً ولم أجده يوماً يرتدي ثوباً «مكرمشاً» أو فيه بقعة وسخة ولو في غرفته الخاصة ويفعل ذلك من غير تكلف، كان يلبس الملابس البيضاء من الثوب إلى الحذاء إلى العمامة وفي الشتاء يلبس الملابس الداكنة ولم أجده مهملاً في ملابسه قط ولم يخرج على الناس إلا في أحسن صورة من غير تكلف، وكانت غرفة إقامته في داره نقية نظيفة بسيطة تشمل ما هو ضروري، ولا شيء آخر.

 

 وكان يحب الشاي الأحمر ولا يشرب غيره من المشروبات ويشربه بأكواب خاصة ولا يشرب الشاي بغيرها وترافقه أدوات الشاي في زياراته ورحلاته ويستمتع في الشاي بأكوابه الخاصة مع قطع صغيرة من الليمون، ولا يشرب الشاي إذا لم يكن متقناً في صنعه وإعداده.

 

 ويحب الحدائق النظيفة المورقة المزهرة، فإذا وجد غصناً يابساً أسرع لقطعه أو وردة ذابلة أسرع لإزالتها ولا يحتمل أرضاً عطشى وسرعان ما بسقيها بنفسه حيث كان فكان له إحساس متميز بالجمال الطبيعي جمال الكون وجمال الصحراء وجمال الأشجار وجمال الأزهار وجمال الأنهار، وكانت مجالس الشاي تقام في هذه الأماكن الجميلة وكانت هو تعبير عن حبه للنظافة التي تمثل الكمال والتعلق بذلك الكمال ومن تعلق بالكمال، فلا يحتمل القذارة والأوساخ لا في الأخلاق ولا في الملابس ولا في الأماكن، وإتقان العمل في نظره هو حب للكمال لأنه يعبر عن رغبة الإنسان بإعطاء العمل حقه من الكمال فمن لم يتقن العمل فقد أساء الأدب بسبب ذلك النقص الذي تسبب فيه، ورأيته مرة يعاتب ضيفاً له لأنه غسل يده المتسخة بالصابون وترك الصابونة وسخة وقال له: لقد أسأت إليها وما أنصفتها لقد كانت السبب في نظافتك وكنت سبباً فيما خلفته فيها من أوساخ ولو أنصفتها لأعدتها نظيفة كما كانت، كان يقول: إن الأشياء الجامدة والأشياء الحية كالنباتات لها حقوق علينا وأهم حقوقها أن نتعامل معها بأدب، لأنها سخرت لنا لإسعادنا ومن واجبنا أن نستخدمها الاستخدام الأمثل لنحافظ على وجودها وأدائها لمهمتها في خدمة الإنسان.

 

 لم يكن يطمح أن يتميز إخوانه في الكلتاوية بمزيد علم وبمزيد مال أو جاه أو رئاسة ولا بكثرة صوم وصلاة، وإنما يريدهم أن يتميزوا بصفاء قلوبهم وسمو سلوكهم والتزام الآداب الإسلامية في أداء عباداتهم وأن تنصرف همتهم إلى إرضاء ربهم بالقيام بما أمروا به من الطاعات.

 

 قال تعالى: {مايريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [المائدة: 6].

 

 ثالثاً: حسن الخلق:

 

 كان الشيخ يعلم إخوانه أن على الإنسان أن يسوس نفسه وأن يزكيها وأن يعلمها الفضائل قبل أن يسوس غيره ويدعو لإصلاح الآخرين، ومن لا يسوس نفسه لا يكون قادراً على سياسة غيره، انطلاقاً من التوجيه القرآني في قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتب أفلا تعقلون} [البقرة: 44].

 

 {يأيها الذين آمنو عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: 105].

 

 وكثيراً ما كان يأتيه شباب متحمسون يقولون له بأنهم تفرغوا لإصلاح المجتمع، وينتقدون الآخرين لأنهم لم يسمعوا منهم دعوة الإصلاح ولم يستجيبوا لهم فيصابون بخيبة الأمل، ويتساءلون عن سر إعراض الناس عن الاستجابة لهم، فيسألهم عما إذا بدأوا بإصلاح أنفسهم، لأن الناس لا تتأثر بالكلمة المسموعة، وإنما تتأثر بروح الكلمة، فتكون الكلمة ناطقة صادقة حية، إذا دخلت القلوب استقرت بها ونمت وأخصبت، وذاق الآخرون حلاوتها، فإذا لم تكن صادقة فلا تترك أثرها، والنصيحة التي تخرج من اللسان لا تؤثر ولا تفيد، لانعدام الصدق منها وليست الكلمة هي التي تفيد وإنما الصدق فيها.

 

 وأداء العبادات هي الأساس والمنطلق، ولابد من الفضل وهو الزيادة المتمثلة بالإحسان الذي يتجاوز العدل، وهذا هو معنى التسابق في الخيرات الزائدة عن الواجبات، ولا حدود لأفعال الخير، وكان يضيق بمن يتصدى للدعوة الإسلامية، ويتجاهل ما عليه من واجبات وفرائض أساسية، وسياسة النفس هي الأساس لسياسة الغير، والصادق يسوس نفسه بالتزكية والطهارة ثم يبدأ بعد ذلك في إصلاح غيره، ولابد إلا أن تسمع كلمته ويقبل نصحه لأنه صادق في سعيه.

 

 وحسن الخلق هو صورة الباطن، فإذا حسن الباطن أثمر وأزهر، وكانت المحبة والإيثار والأخوة والتواضع والصدق، ولا يحصل الخلق الحسن إلا بالتخلق وتكلف الخلق المحمود إلى أن يكون طبيعة وسجية تصدر عن النفس من غير تكلف ولا روية، ولا يعرف حسن الخلق إلا في الشدائد وفي لحظات الغضب والانفعال، حيث يصدر عن النفس ما هو كامن في أعماقها وكيانها من طباع وسجايا، ولا يعرف الصديق إلا بعد الشدة، ففي الشدة يعرف باطنه وما تنطوي عليه نفسه من صفات محمودة أو مذمومة.

 

 كان الشيخ يلخص كل ما تدعو إليه التربية الإسلامية وما يحض عليه الدين، وما تجسده الفضائل السلوكية بكلمة واحدة أن يكون الإنسان صالحاً، ولا شيء غير ذلك، فالصلاح هو المطلوب، والصالح لا يصدر عنه إلا الفعل الصالح، ولا حدود لفعل الصالحات والقلوب الصافية تسيل فيها أودية الخير التي أمد الله بها الكون، لكي يستقيم أمره وينهض بعمارة الأرض الصالحون من خلقه.

 

 ما كان الشيخ يريد أن تتميز الكلتاوية بعمران يبهر الأبصار ولا بأعمدة رخامية رائعة الانسياب ولا بزخارف في السقوف والجدران وإنما أرادها أن تكون متميزة بأخلاق رفيعة وسلوكيات محمودة، وأن يكون المنتمون إليها سواء كانوا علماء أو تجار أو مزارعين أهل استقامة ونزاهة وثقة، يقع الاطمئنان إليهم، ويكونون رموز خير وفضيلة وصلاح… يسهمون في تحقيق نهضة مجتمعهم، وترسيخ القيم الإنسانية والمعاني الروحية، فإذا تحققت التربية السليمة حققت ثمارها في مجال العلم والعمل.

 

 رابعاً: كراهية الجدال والعصبية:

 

 كان الشيخ يكره الجدل في قضايا العقيدة، ويذم منهج علماء الكلام والفلاسفة في الاستدلال، وذلك لأن الجدل يولد العداوة والبغضاء ويثير الأحقاد، ويجب على المسلم أن يبحث عن الحق، وأن يلتزم به، وأن يكون كناشد ضالة أينما وجدها أمسك بيدها، والتزم بمضمونها، وعاد إلى الحق والصواب.

 

 والجدل لا يفيد، وهو دليل غفلة، ومن واجب المسلم الإعراض عن الجدل وعدم الخوض فيه، لأنه أمر مذموم، ويولد الشبهات في النفس، ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور، ومن استنار قلبه ابتعد عن الجدل لا سيما في مسائل العقيدة.

 

 كان الشيخ يفرق بين الفقه في الدين والفقه في أحكام الدين، فالفقه في الدين هو فهم حقيقته، وهذه الحقيقة تدرك بالفطرة الطاهرة التي لم تلوث، وهؤلاء لا يجادلون في الله، لأن الله تعالى أنار قلوبهم فاستنارت عقولهم واطمأنت والذين يجادلون في الله بغير حق يتبعون أهواءهم، وجعلوا هذه الأهواء هي ما يعبدون من دون الله.

 

 لم يكن الشيخ يحب الجدل في مجالسه أو بين إخوانه، ويعرض عمن يحب الجدل، ويعتبر الجدل من أنواع العلم المذموم الذي يضر صاحبه ولا يفيده، ويدعو إلى الالتزام بالسنة وبمنهج السلف الصالح في العقائد، وعدم الخوض في الخلافات ويدعو إلى تنزيه اللسان عن الحوار والجدل في الخلافات التي نشأت بين الصحابة بشأن الخلافة وكذلك الانقسامات الطائفية والمذهبية.

 

 كان يحب أهل البيت وأئمة أهل البيت ويعدّهم قدوة لغيرهم إلا أنه لم يتحدث عن الخلافات بين المذهب السني والمذهب الشيعي، كما أنه لم يتعصب قط للمذهب الشافعي الذي كان يأخذ بآرائه الفقهية، ولم يميز بينه وبين المذاهب الأخرى في المكانة والاعتبار.

 

 وأهم ما كان يكرهه الاستكبار عن سماع كلمة الحق، والإصرار على الرأي من غير نظر، ويعتبر ذلك من الجهل المطبق الذي يمنع صاحبه من الرضوخ للحق، فالحق أحق أن يتبع أينما كان، وهذا دليل على قوة شخصية صاحبه، فالعودة إلى الحق فضيلة، والإصرار على الباطل رذيلة.

 

 ويحذر أصحابه من العصبية والتعصب الأعمى ولو فيما بينهم، فلا عصبية مناصرة على الباطل ويتمثل حق الأخ على أخيه والصديق على صديقه أن تنصره على نفسه إذا كان مخطئاً، وأن تحضه على الرضوخ للحق، وأن تبين له فساد رأيه، فإذا ناصرته على الباطل فقد خنت الأمانة، ومن حق الأخ على أخيه أن يساعده على التزام الحق.

 

 كان يحب البيان وليس الجدال، فالبيان يعلم ويذكر ويشرح القلوب للحق والجدال يثير العداوة والبغضاء والشحناء، لأنه يعتمد على الرغبة في التغلب على الخصم وإحراجه، وهذا دليل على ظلمة القلوب وغفلتها، ويجب على الإنسان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

 

 ولم يتدخل الشيخ في خصوصيات أصحابه، واختياراتهم الفكرية والمذهبية، كان يحترم التنوع في الأفكار والثقافات والسلوكيات، ومن اليسير أن تجد في مجلسه المتشدد والمتزمت والمتعصب، وأن تجد المتساهل والمتفتح والمتسامح، ولم يفضل منهجاً على آخر وإنما يفضل من كان أكثر صدقاً واستقامة، فالأكثر عبادة لا يعني أنه الأكثر تقوى عند الله، والأكثر تزمتاً لا يعني أنه الأقرب إلى الله، والملازم لمجالس الشيخ لا يعني أنه الأحب إليه من البعيد الذي لا يحضر مجالسه، وكان يقول: الأقرب إلينا من كان معنا بقلبه.

 

 خامساً: الابتعاد عن الطقوس المذمومة:

 

 كان الشيخ يعرف بطريقته بأنها طريقة محمدية تقوم على أمور ثلاثة:

 

 الأول: الالتزام بأحكام الشريعة في كل أصولها وفروعها في العقائد والأحكام والأخلاق والآداب، فمن أخل بهذا الالتزام فقد خالف منهجنا، ومن التزم به فهو منا وأخ لنا.

 

 الثاني: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما صدر عنه من أقوال وأفعال وأخلاق، نحب ما يحب، ونكره ما يكره، سواء فيما صدر من سنن شرعية أو ما أحبه وأخذ به في حياته الشخصية، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يمثل في شخصيته النموذج الأسمى للكمال الإنساني، وكان خلقه القرآن، فإذا أردنا أن نعرف القرآن عرفناه من خلال الخلق النبوي الشريف.

 

 الثالث: حفظ السمع والبصر واللسان من كل ما نهى الشرع عنه فلا يصل إلى القلب عن طريق الحواس ما يعكر صفاء القلوب، وغاية تزكية النفس هو التحكم فيما يرد على القلب عن طريق السمع والبصر من أنواع الخواطر المذمومة التي تشوه صفاء القلوب وتمنع النور الذي يشرق فيها فيضيء جوانبها بمعاني اليقين.

 

 وبناء على هذه المنهجية فقد خلت الكلتاوية من تلك المظاهر المذمومة من العادات والطقوس التي ارتبطت بالطرق الصوفية التقليدية، والصوفية في أساسها خالية من تلك الطقوس والشطحات التي عكرت صفاء الأذكار وشوهت صادق الأحوال، فقد كان الذكر يهدف إلى حضور القلب في لحظات الذكر لكي يكون العبد يقظاً على الدوام ويأنس بالله في لحظات تأمله وأصبح فيما بعد عادة مألوفة يرددها اللسان ولا يأنس بها الجنان، لالتفات القلب إلى غير الذكر، وكانت الأحوال معبرة عن انفعالات بما يرد على القلب من واردات وإشراقات تبتهج لها النفس وتأنس بها، فيظهر عليها من آثار ذلك الانفعال سلوكيات غير معهودة، أصبحت تلك الأحوال مطية لانفعالات غير صادقة وسلوكيات مذمومة وأقوال منافية لمبادىء العقيدة، وأصبحت هذه الشطحات في نظر العوام من الناس مظنة الولاية، يبنون عليها قصور الوهم، ويأخذون في تفسيرها واستكناه مقاصدها ما يجعل العاقل مذهولاً أمام ذلك الجهل الفاضح بحقيقة الإسلام.

 

 ما كانت الشطحات مطية للتميز الروحي، إلا في مجتمعات الجهل المركب الذي يصدقه العامة، ويوحي به المنحرفون من غلاة الصوفية الذين ما أنارت التربية الإسلامية قلوبهم بالمعرفة الحقة التي تنهض بمستوى وعيهم وإدراكهم.

 

 لم يكن الشيخ يحب هذه السلوكيات المتكلفة المنحرفة التي تدل على جهل أصحابها وجهل من يؤمنون بهم ممن يتعلقون بهذه المظاهر، ولم يجد هؤلاء المنحرفون في مجالس الكلتاوية الأرض الخصبة لقبول سلوكياتهم، فكان الشيخ يؤكد في كل مجالسه أن كرامة الصالحين والمقربين من ربهم تتمثل في استقامة سلوكهم، ولا تتمثل فيما يصدر عنهم من كرامات خارقة للعوائد، ولو أراد الله إكرام هؤلاء لأكرمهم بالاستقامة فهي الكرامة التي يكرم الله بها عبده، فينقله من مذموم الخلق إلى محموده، ومن المعاصي إلى الطاعات، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور، هذه هي الكرامة الأسمى والأعلى، ومن تطلع إلى كرامة أخرى مع انتفاء استقامته، فهذا تطلع مذموم يدل على عدم صدق صاحبه في دعواه.

 

 وأهل الكمال لا تخرق لهم العادات، لكي تبرز فيهم خصوصيات البشرية، والاستقامة هي أعلى درجات التميز بين البشر.

 ولعل سبب اهتمام الشيخ بالاستقامة بدل اهتمامه بالكرامة هو أن منهج الشيخ في التربية يقوم على أساس البيان والمعرفة، والبيان خطاب عقلي يمكن إدراكه بالعقل النوراني وليس بالعقل الاستدلالي، فالعقول التي تدرك الحقائق بالاستدلال والبراهين تتناقض المعرفة فيها، لأن العقول متفاوتة في تكوينها، أما العقول التي تدرك الحقائق بالنور الإلهي فلابد فيها من صفاء القلوب وطهارتها، والخطاب العقلي يضبط الجوارح ويتحكم في حركتها، فيكون وجدها ساكناً، فإذا فاض القلب بوجده تحكمت الشريعة في حركته، فلا يخرج عن نطاق قيود الشريعة فيما يصدر عنه من أقوال وحركات.

 

 كان الشيخ يعلل ظاهرة الشطحات بالضعف في تحمل حالات الوجد الذي تحدثه الواردات في القلب، ولو وقع الالتزام بالشريعة لما تجاوزت سلوكيات الواجدين حدود السلوكيات المقبولة التي لا تقود صاحبها إلى الانحراف وادعاء أحوال فاسدة لا يجوز القبول بها.

 

 ومعظم الذين يدعون الوجد يتكلفونه بالتواجد الظاهر إلى أن يبلغ الوجد عندهم مداه البعيد، فيستلذونه ويبالغون فيه، وقد تصدر الشطحات عن هؤلاء، جهلاً منهم بالحقيقة، وكان الشيخ يسميها بالرعونة، والرعونة صفة مذمومة في السالك، لوجود صفة فيها وهي الدعوى التي تتمثل في رؤية الذات فيها.

 

 والشطحات في جميع الأحوال لا تصدر عن أهل الكمال من السالكين، فأهل الكمال لا يصدر عنهم إلا ما هو شرعي من الأفعال لأنهم رموز كمال، والشريعة تمثل ذلك الكمال، وما يخالف الشريعة فهو نقص، ولا يصدر النقص عن أهل الكمال.

 

 وكان من عادة الشيخ أنه إذا رأى من إخوانه ما ينافي الكمال من سلوكيات الوجد كالحركة والزفير والصوت أعرض عنهم وتجاهلهم، والوجد الصادق لابد إلا أن يشهد له كتاب أو سنة لكي لا يؤدي ذلك الوجد إلى سلوكيات خاطئة.

( الزيارات : 1٬595 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *