السيد النبهان.. والكلتاوية

لفصل الأول

جامع الكلتاوية

الكلتاوية هي الهضبة المرتفعة المطلة على باب الحديد أحد أهم أحياء مدينة حلب وهو الباب الأثري القديم الذي ما زال قائماً وكأنه حصن من حصون المدينة القديمة، وهذا الباب يقود إلى حي البياضة وحي المستدامية وكل منهما يؤدي إلى قلعة حلب قلب المدينة القديمة، والكلتاوية هي الهضبة التي تعلو القبو الأثري اـعروف بقبو النجارين وأصحبت هذه الهضبة حياً شعبياً كبيراً يطل من جهته الغربية عـ قبو النجارين والبياضة ومن جهته الشرقية على الساحة التي تقع خلف الباب واـعروفة باسم بانقوسا والأحياء الشعبية المتفرعة عنها…

في قمة هضبة الكلتاوية يوجد جامع صغير منعزل وتقع خلفه مقبرة مهجورة وهناك درب ضيق يمتد من أسفل الهضبة إلى أعلاها وهو درب لا يتسع لمرور العربات لضيقه ولوجود درج فيه.

اختار الشيخ هذا الجامع الصغير النائي الذي لا يطمح أحد في الإقامة فيه لأنه قديم جداً ومنعزل وليس فيه سوى مسجد صغير للصلاة لا يتسع إلا للقليل من المصلين وليس فيه مئذنة وله باب قديم تقود إليه عدة درجات خارجية فإذا وصلت إلى الباب كان من الضروري صعود بقية الدرجات الحجرية الكبيرة التي تقود إلى ساحة المسجد، وتطل نوافذ المسجد الأمامية على المقبرة التي تقع خارج أسوار المسجد من الجهة الجنوبية وتقوم المقبرة على مغارات وكهوف قديمة….

ـ لماذا اختار الشيخ هذا المكان النائي…؟

ـ ومتى اختاره للإقامة فيه…؟

لا أعرف جواب ذلك.. ربما اختاره لهذه الأسباب لأنه ناء عن الناس ولا أحد يقصده ولا أحد يطمع فيه فاختاره مكاناً لخلوته وتأملاته…

وكان يقضي فيه معظم نهاره وليله… ويؤدي فيه عبادته بعيداً عن أعين الناس.

 

 

محبة الشيخ للكلتاوية

(من كلام الدكتور فاروق النبهان حفيد السيد النبهان رضي الله عنه)

كان يحب هذا المكان ويراه الأجمل، كان يجد فيه راحته وأنسه، لو رأه موحشاً لما أقام فيه ولو رأه منعزلاً لما أنس فيه، أقام مدة طويلة من مقامه هذا في مجاهدات ورياضات نفسية أحياناً كان يتحدث عنها، كان سعيداً بحياته هذه.. وكان يجد لذته بل ويجد نفسه.

 

لا أعرف الكثير عن هذه المرحلة لأنني لم أشهدها، بل عاصرت المرحلة الأخيرة منها حين كنت في الخامسة من عمري حيث رافقت والدي في زيارته لوالده في مكان خلوته في الكلتاوية، إذ لم أكن أعرف ماذا يعني هذا المكان وكل ما أعرفه أنني سأرى جدي.

 

لم يلفت نظري المكان… كانت ساحة الجامع الخارجية جميلة جداً كانت حديقة غنّاء مليئة بالأزهار والورود، كما أن المياه تتدفق في الأحواض المائية، عبر ممرات حجرية بين أحواض الأزهار، أشجار السرو الباسقة تلقي بظلالها على المكان ورأيت الشيخ يمسك بيده مقص الأزهار ويقطع اليابس منها وينمي الأغضان الضعيفة، ويزرع الأحواض بأجمل الأزهار.

 

لأول مرة اكتشفت جمال الحدائق وروعة ما تثيره في النفس من شعور بالسكون والطمأنينة، كانت المياه تجري في الممرات والسواقي وأروع ما لفت انتباهي ذلك الصفاء النفسي، الماء والأزهار والأشجار ونسمات المساء كل ذلك يولد شعوراً عجيباً بالبهجة.

 

الأحجار الكبيرة الناتئة في الأطراف أعطت المكان روعة متميزة وكأنها أعدت بعناية من فنان أراد أن يضفي على المشهد الجمالي لمسة التراث العظيم، ولم تكن أحجار الممر الرئيسي القديمة مجرد أحجار وإنما هي لوحات طبيعة رائعة.

 

لابد أن الشيخ رأى ذلك الجمال الطبيعي، كان كل شيء في المكان ينطق بالحياة، كانت هناك غرفة صغيرة وجميلة ونظيفة، وأنيقة تضم مكتبة صغيرة وإلى جانبها حمام صغير.

 

في مساء ذلك اليوم امتلأت رحاب ذلك المكان بإخوان الشيخ، مدت البسط وفرشت السجاجيد وجلس إخوان الشيخ وكأنّ على رؤوسهم الطير يسمعون كلام الشيخ بأدب وهو يحدثهم، وهم لكل كلمة منصتون والكل يسعى لخدمة الكل في حديث روحي ومناجاة لله تعالى.

تلك هي الكلتاوية كما رأيتها لأول مرة، ما زالت روعة هذا المكان في ذاكرتي، ولم أشعر بأنس بعد ذلك كذلك الأنس الذي أحسست به في ذلك اليوم، ما زالت نسائم الربيع تداعب خيالي، ابحث عنها فلا أجد لذة أروع منها.

 

وزالت الكلتاوية القديمة ولم يبق لها من أثر، وبقيت في نفس طفل وفي مخيلته، ومضت الطفولة وبقيت الصورة في الذاكرة، ولم تزل وكأنها وليدة أمس قريب، وزادت إشراقات الصورة وبخاصة بعد أن اكتشفت النفس الجديد مما كان غائباً عنها من أسرار الحياة وأسباب السعادة.

 

كانت أمسيات الكلتاوية القديمة من أروع الأمسيات، كان اللقاء اليومي فيها، لقاء الأحبة الذين اجتمعوا على محبة الله، ليس فيها حديث عن دنيا تشغل أصحابها ومحبيها وتكدر صفاء نفوسهم، كان الكل يترك أحماله وأثقاله خارج أسوار ذلك الحصن الروحي، وكأنه في إجازة يريد أن تطول ساعاتها لكي تنعم النفوس بصفاء طويل.

 

سكن الشيخ في دار قريبة من جامع الكلتاوية، في مدخل الكلتاوية، كان يقضي بعض وقته في داره وبعضه الآخر في الجامع يلتقي إخوانه وأصدقائه، وفي يوم الجمعة يكون الجامع مكتظاً بإخوان الشيخ من الصباح إلى المساء، لم تعد الكلتاوية مجرد مسجد للعبادة، وإنما أصحبت مقراً للشيخ، عشرات الشباب من إخوان الشيخ يقيم فيها، وبخاصة طلاب العلم، كانت تعقد فيها مجالس العلم وحلقات الدروس، لم يعد المكان نائياً وبعيداً، أصبح الحي كله يعج بالحياة، عشرات الأسر من إخوان الشيخ سكنت في هذا الحي، دروس ولقاءات واجتماعات يومية.

 

ازدادت حدائق الجامع جمالاً وروعة، والإنسان هو مصدر الحياة والبهجة، فلا حياة بغير الاجتماع الإنساني، ولم يعد الجامع يتسع لرواده من مختلف طبقات المجتمع، كلهم كان يزور الشيخ ويرتاد مجالسه المتواصلة، من الصباح إلى المساء، أصبحت الكلتاوية هي المكان المحبب لمئات من الإخوان، وهو المكان الأجمل في نظرهم، عندما يسافر الشيخ تتوقف الحياة فيه، وعندما يعود تعود الحياة إليه.. فالحب يدفع القلوب لكي تلتفت حيث تحب، وتجد أنسها في المكان الذي تحب.

 

أحببت هذا المكان كما أحبه غيري، كنت أجد ذاتي فيه في تلك السن المبكرة من طفولتي، هناك رفاقي وأصدقائي، كنت في موطن الحب والرعاية من الجميع، ألست حفيد الشيخ المقرب إليه.

 

أصبحت الكلتاوية بالنسبة لي مدرسة، كل يوم برنامج دراسي خاص بي، دروس متتابعة خاصة بي، في التفسير والفقه والنحو والصرف والخط العربي والحساب.. هناك كانت طفولتي الأولى لذا كنت أضيق بأي مكان أخر.

 

كان الشيخ يشجعني على الدراسة، ويحضني على ملازمة دروسي الخاصة التي كان يشرف عليها، كان يسعدني ما يسعده من غير تكلف.

 

وكنت ألازمه في مجالسه، ويصحبني معه في زياراته، ولم أعش طفولتي العادية، هذه هي طفولتي.

 

لم تعد الكلتاوية مكاناً مجهولاً، أصبحت لفظة الكلتاوية تعنى الشيخ ومجالس الشيخ وإخوان الشيخ والذاهب إلى الكلتاوية هو ذاهب إلى الشيخ، وإخوان الكلتاوية هم إخوان الشيخ وهم قوم متميزون بسلوكيات تربوية وروحية، وهم في الأغلب أهل استقامة وورع ودين، منهم علماء وتجار وعمال وطلاب وأصحاب مهن خاصة، وكل منهم له مكانة متميزة في مجتمعه.

 

أصبحت الكلتاوية تعني الانتماء وليس المكان، وتعني تلك الخصوصية التي ربى الشيخ أتباعه عليها، وأهمها الاستقامة والنزاهة والخلق المحمود… أتباع الشيخ ومحبوه يرون في هذا الانتماء مصدر فخر واعتزاز وفرحة.

 

كان الشيخ يستقبل في الكلتاوية شخصيات علمية زائرة ورجال فكر وشخصيات سياسية ورؤساء أحزاب وزعماء وقيادات روحية مسيحية، كان الصعود إلى الكلتاوية أمراً مرهقاً، ولكن لم يكن حائلاً دون الزيارة لمن أراد ذلك.

 

كان الشيخ بابتسامته الدائمة يستقبل كل زواره بالمحبة ويحيطهم بالرعاية، ويردد في مجالسه أنزلوا الناس منازلهم كما هي في نفوسهم وكما يعتقدون بأنفسهم، وليس كما تعتقدون أنتم فيهم، فهذا من حسن الرعاية، لكي تنشرح قلوبهم لكلمة الحق.

 

لم يكن الشيخ يحب السياسة، ولم يفكر في زعامة سياسية، ولم يجامل سياسياً بزيارة مودة، ولم يرد زيارة لسياسي، كان يزور العلماء ويحسن مجاملتهم ويزور المرضى والمقعدين والمسنين.

 

اشتهر الشيخ بنزاهته وورعه واستقامته وشجاعته في دفاعه عن المقدسات الدينية، يحب في الله ولا حدود لحبه، ويبغض في الله لمن أساء للدين والعقيدة، وهذه المصداقية اكتسبها الشيخ من موقفه، فهو لا يريد شيئاً إلا أن تحترم عقيدة الأمة وأخلاقها، فمن أساء للدين فيجب التصدي له بكل شجاعة، دفاعاً هن هذا الحصن المنيع التي تحتمي به الأمة من أخطار الضلال والانحراف.

 

وفي فترة الخمسينيات وقعت حادثة بمدينة حلب اهتزلت لها المدينة، وذلك أن صحفياً اسمه أبو شلباية كتب مقالة بإحدى الصحف اليومية الشهيرة هاجم فيها الإسلام وأساء فيها لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أطلع الشيخ على ما كتب غضب عضبته التي هزت المدينة بأكلمها، وخرج من الكلتاوية مع نفر من إخوانه باتجاه دار الحكومة محتجاً على ذلك الصحفي المستهتر، وسمعت أحياء المدينة وأسواقها بخروج الشيخ غاضباً، وسارعت المدينة بكل رجالها للانضمام للشيخ وأغلقت الأسواق أبوابها، وما أن وصل الشيخ إلى دار الحكومة أمام باب قلعة حلب حتى كانت المدينة كلها تسير خلفه في تظاهرة شعبية غاضبة لم تشهد لها المدينة مثيلاً من قبل.

 

وهناك عشرات الوقائع التي خرج فيها الشيخ غاضباً لله، فكانت المدينة تخرج معه وتؤيده وتسانده، حتى أصبحت الكلتاوية أحد أبرز القلاع الإسلامية، للدفاع عن خصوصية مدينة حلب الحصن الصامد للقيم الإسلامية… وما زال الجيل الحفيد يروي ما سمعه من الآباء والأجداد عن مواقف الشيخ وجهاده المتواصل لكي تظل أعلام الإسلام شامخة في هذه المدينة العظيمة بقيمها الأخلاقية وبخصوصياتها الروحية، وبمساجدها التي تعدّ من أهم قلاعها الصامدة التي تجسد عظمة هذه المدينة ورسوخ قيمها الإنسانية.

 

حملت الكلتاوية بفضل جهاد شيخها مسؤولية التعريف بالإسلام والدفاع عن العقيدة الإسلامية، والقيام بمهمة التوعية والتربية والتكوين، أرادها الشيخ أن تكون شعلة مضيئة في الدروب المظلمة، لتطارد ظلامها بنور المعرفة والثقافة والعلم، وكان الشيخ يتحدث عن الظلمة والنور، ويؤكد أن النور هو الأساس والظلمة عارضة والفطرة هي مصدر النور، والظلمة تأتي من الغفلة والجهل.

 

ولابد من مقاومة الظلام بالنور الذي يولده العلم والمعرفة، فالعلم هو أداة المعرفة، والمعرفة هي طريق النور، والنور يحتاج إلى زيت يضيء السراج الذي هو البصيرة، ولا خير في علم لا يقود إلى نور وهداية.

 

كان الشيخ يتطلع عبر نافذة المسجد الصغير في الكلتاوية القديمة، فيرى الهضبة الموحشة المهجورة بحفرها العميقة ومغاراتها المظلمة وتلالها المتعرجة المغطاة بالأوساخ ويطرق رأسه متأملاً شارداً حزيناً.

 

أليست هذه قصة الإنسان من العدم إلى الوجود

ويردد قوله تعالى {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان: 1 ـ 3].

 

لا شيء كان يسعد الشيخ كما كان يسعده أن يرى ابتسامة الحياة على الوجوه، كان يريد أن يرى الأمل، لأن الأمل هو الحياة، يرى الأطفال فيأخذ بيدهم ويداعبهم ويحبهم ويتلطف في معاملتهم، ويرى الضعفاء فيفتح صدره لهم، ويسمع منهم ما يؤلمهم، ويواسيهم بالكلمة الطيبة والعطاء، ويرى المرضى فيؤنسهم بالمعاني الروحية، ويقفون وقد انتصبت هاماتهم بالأمل والأنس.

 

ويطل من جديد على تلك الهضبة الموحشة، فيسمع أصوات المشردين والتائهين من البؤساء والمنحرفين، وهم يتبادلون الشتائم ويتنابذون بالألقاب، إنهم في حيرة وضياع، لم يكونوا شريرين في أصل تكوينهم وفطرتهم، كان يمكن أن يكونوا رموز خير وصلاح ولكن لم يجدوا الكلمة الحانية التي تبعث في قلوبهم دفء الحياة، فاختاروا حياة التشرد والتيه والضياع.

 

أحياناً كان يحاورهم ويسمع آلامهم ويدخل إلى نفوسهم الأمل، فيأنسون وتدمع عيونهم ويعودون إلى طريق الاستقامة.

 

كانت الهضبة الموحشة المنعزلة خلف المسجد تؤرقه وتقض مضجعه، ألم يكن فناء المسجد الداخلي موحشاً من قبل، ألم يكن مكاناً مهجوراً، فأصبح فيما بعد حديقة جميلة رائعة مليئة بأنواع الأزهار.

 

صحا الشيخ يوماً من نومه، كان سعيداً ومبتهجاً، ارتدى ملابسه، وذهب إلى تلك الهضبة المهجورة يرافقه بعض إخوانه، وأخذ يطوف في أرجائها، ويصعد تلالها ويهبط في منحدراتها، رأى من هناك قلعة حلب الشامخة تطل على تلك الهضبة، ورأى المدينة العريضة بأحيائها القديمة من تلك الهضبة التي بدت وكأنها قلعة ثانية في ارتفاع موقعها المطل على المدينة القديمة كلها..

 

وقال لإخوانه: « أرى في هذه الهضبة المظلمة نوراً يضيء، وأرجو أن يوفقنا الله تعالى لإيقاد تلك الشمعة».

 

وأشرقت الابتسامة في وجهه، كان سعيداً ومبتهجاً، وكأنه رأى ضالته المنشودة بعد أن أقلقه غيابها الطويل..

 

في ذلك المساء جلس الشيخ كعادته في ساحة المسجد الداخلي الجميلة، كان الماء يترقرق في بحيرة صغيرة، وينساب بهدوء عبر ممرات ترابية ليسقي الورود المتفتحة التي كانت مشتاقة لأسباب ونموها واكتمالها، وتحلق إخوانه حوله يشربون الشاي الأحمر بأكواب صغيرة وجميلة.

 

قال الشيخ لإخوانه

 

سنبني الكلتاوية الجديدة، لكي تكون منارة علمية ومَعْلَمة ثقافية، سنبنيها بأيدينا وبجهدنا لكي تؤسس على تقوى من أول يوم، سنضم الهضبة، المهجورة إلى الكلتاوية… وسنقيم مدرسة للعلم والمعرفة والسلوك لتكوين علماء يعملون بما يعلمون، لا تلهيهم دنياهم عن أخراهم، لكي يكونوا قدوة لغيرهم، يبدأون بإصلاح أنفسهم، يعملون لله لا لدنيا يطمعون في حظوظها، يدافعون عن الحق ولا يخشون في الله لومة لائم.

 

وسرى همس بين الحاضرين، كل يسأل صاحبه عما سمعه من الشيخ، ويتساءلون في سرهم هل يمكن أن يتحقق هذا الحلم الجميل…

ووقف الشيخ أمام النافذة المطلة على تلك الهضبة المكتظة بالأكوام الترابية المبعثرة في ذلك الفضاء المهجور منذ عشرات السنين، وأخذ يشير بيديه إلى حدود تلك الهضبة التي ليست لها أسوار تفصلها عن الدور السكنية العتيقة.

 

وانتشر الخبر بين إخوان الشيخ، وأخذوا يتوافدون على الكلتاوية، ويطلون من خلف النوافذ على ذلك الفضاء الذي لم يثر اهتمامهم من قبل، ويتساءلون هل يمكن أن يتحقق ذلك.

 

واستدعى الشيخ أهل الاختصاص في مجال البناء من مهندسين وخبراء، واستشارهم في الأمر، فأكدوا له صعوبة ذلك لأمرين، الأول هو صعوبة البناء في تلك الأرض المليئة بالكهوف التي سرعان ما تنهد لوجود فراغات واسعة تحت الأرض، مما يستدعي متابعة الحفريات إلى الأرض الصلبة لإقامة الأعمدة التي يقوم عليها البناء، والسبب الثاني هو عدم إمكان نقل الحجارة والإسمنت والحديد عبر الأزقة الضيقة الموصلة إلى أعلى الهضبة، لعدم إمكان وصول سيارات النقل، وهذا يتطلب جهوداً مضاعفة ومصاريف باهظة…

واقترح بعض إخوان الشيخ أن يقع اختيار قطعة أرضية واسعة في منطقة سكنية خارج أسوار المدينة القديمة لبناء هذا المشروع عليها، وهي مناطق أكثر جمالاً والمواصلات إليها أكثر يسراً.

 

سمع الشيخ ما قاله أهل الاختصاص والخبرة، ولم يعقب على ذلك، كان من عادة الشيخ أن يسمع بهدوء كل الآراء، ولا يناقش، وتأكد أن الأمر ممكن، بجهد أكبر، وتكلفة أعلى.

 

مضت أيام… كان الكل يترقب ما سيقوله الشيخ، وجاء يوم الجمعة، واجتمع إخوان الشيخ الذين اعتادوا أن يصلوا الجمعة في الكلتاوية، وبعد الصلاة خرج الشيخ من المسجد وتبعه إخوانه، وذهب إلى الهضبة التي تقع خلف الجامع، كانت الأرض مليئة بالأوساخ والحجارة، وسرعان ما مهدت الأرض وأزيل ركام الأوساخ وجمعت الحجارة، وأصبحت الأرض صالحة للجلوس، كان الجو ربيعياً والشمس دافئة، وأطل الجميع على المدينة القديمة بمآذنها الجميلة وقباب مساجدها الرائعة، وظهرت قلعة حلب التاريخية بمئذنتها العالية وأسوارها الصامدة.

 

وانتقل مجلس الشيخ من الساحة الداخلية للجامع التي تحيط بها الأسوار العالية إلى الهضبة المطلة على المدينة القديمة، وبنى سوراً من الجهة الشرقية يمنع دخول أحد وفتح باب من الجامع إلى هذه الهضبة، وبذلك أصبحت جزءاً من الجامع، والساحة الخلفية له.

 

كانت هذه هي الخطوة الأولى في بناء الكلتاوية الجديدة، بدأت بخطوات ضرورية وسريعة وجادة، لم يكن الشيخ يفكر في الجهد المطلوب أو يخشى منه، أما التكلفة فالله سيتولى تيسير ذلك، ومهمة العبد أن يأخذ بالأسباب وأن يعتمد عليه، وأن يعمل بقدر استطاعته.

 

لم يكن أحد يتصور أن الشيخ يمكنه أن يختار مكاناً أخر غير الكلتاوية، مهما كان ذلك المكان، كانت معايير الشيخ مختلفة، الكلتاوية فقط، هذا هو المكان الذي أحبه الشيخ وتعلق به واختاره لخلوته وتأملاته.. وهو المكان الذي ينشرح صدره فيه لا يأتيه إلا من قصده، ولابد للوصول إليه من مشقة، مشقة الطريق إليه ومشقة الصعود إليه، ليس هو المكان الذي يدعوك موقعه إليه، وليس هو المكان الذي تأنس النفوس بجماليته المادية، فمن أحبه فقد رأى فيه خصوصياته، ومن شهد هذه الخصوصيات ببصيرته تعلق قلبه به، وهو الفرق بين الصادق وغيره…. فالصادق يذهب حينما يجد محبوبه ومقصوده ولو كان في أقصى مكان، وغير الصادق ليس لديه ما يدفعه لصعود القمة العالية.

 

ما زالت الكلتاوية حتى اليوم لا يذهب إليها إلا من أحبها وتعلق بها وقصدها، وهناك رجال ونساء لم ينقطعوا قط عنها يأتون من أقصى مكان وأجمله، ولا يجدون أنسهم إلا في الكلتاوية.

 

لعل هذا ما أراده الشيخ.. خطاب مستمر، ليعرف به الصادق من غيره فمن رأى الخصوصية أحب المكان وتعلق به، ومن حجب عن الخصوصية فهو محجوب وعذره مقبول في التماس العذر لنفسه.

 

وفي الكلتاوية خصوصية أدركها الكثيرون وحجب عنها الكثيرون، والخصوصية تدرك بالبصيرة والسريرة، ولا يدركها العقل ولا يراها البصر.

 

( الزيارات : 1٬622 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *