موقف السيد النبهان من الفقهاء

الفقه هو الفهم، والفقه في الدين هو فهم حقيقة الدين أولاً ثم معرفة أحكام الدين ثانياً، ولا يمكن أن تفهم أحكام الدين إلا بعد فهم حقيقة الدين، وحقيقة الدين تفهم بصفاء الفطرة ونقاء القلب ومراعاة حقوق الله في السر والعلن.

قال تعالى: {{ع94س9ش221ن6/س9ش221ن551} [التوبة: 122].

وقال أيضاً: {{ع94س61ش34ن9/س61ش34ن551} [النحل: 43].

كان الشيخ يشيد بدور العلماء ويثني عليهم، لأنهم مكلفون بالبيان والإرشاد وهم السراج الذي يضيء في المجتمع وينير الدروب، والعلم نقيض الجهل قال تعالى: {{ع94س92ش34ن1/س92ش34ن88} [العنكبوت: 43].

وقال أيضاً: {{ع94س4ش38ن01/س4ش38ن112} [النساء: 83].

وجاء في الحديث المروي عن معاوية رضي الله عنه: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده» متفق عليه، ولم يختلف الصوفية مع الفقهاء في أمر الأحكام، فهم أهل العلم والاختصاص في الأصول والفروع، ويجب الأخذ عنهم والاستفادة من علمهم في الأحكام، ومعرفة الأحكام الفقهية على وجه الإجمال فرض عين لحاجة المكلف إلى معرفة أحكام الحلال والحرام.

إلا أن الشيخ كان يرى أن الفقه في الدين هو أعم واشمل من الفقه في الأحكام، وإن الفقيه عليه أن يهتم بأفعال الجوارح كما يجب عليه أن يحسن فهم أهداف الدين ومقاصده وغاياته.

فالفقه يشمل فهم العلم الذي تدرك به كيفيات العمل وآداب العبادة وآفات النفوس، ولا يجوز الجهل بطبائع النفس وأمراض القلب.

واجب الفقهاء:

وأول ما يجب على الفقهاء أن الالتزام به هو أن يطهروا باطنهم وأن يهتموا بإصلاح أنفسهم، فذلك هو الفقه الأكبر، فإذا صلح الباطن صلحت الأعمال واستقامت، وأعطى العلم ثمرته المرجوة منه.

ولم ينتقد الشيخ الفقهاء، وإنما كان ينتقد اهتمامهم بالظاهر ووقوفهم عنده، وعدم الاهتمام بإصلاح النفوس، فالإصلاح هو المطلوب والعمل هو ثمرة العلم، ولا ثمرة لعلم إذا لم يلتزم صاحبه بأدب العلم وأخلاقيات العلم.

غاية الفقه العلم بحقيقة الأشياء كما هي عليه، والعلم هو أداة الارتقاء من الجهل إلى العلم ومن الظلمة إلى النور ومن الكثافة إلى اللطافة، ومن الرذائل إلى الفضائل، وأول آثار الفقه أن يرتدع الإنسان عن المآثم وأن يضيق بها وأن يندم عليها، وأن يأخذ نفسه بالصفات المحمودة وأن يلتزم بها، وأن يعمل صالحاً يرضي ربه، فلا يحقد ولا يطمع بل تراه متطلعاً إلى الأفضل والأحسن على أن يظهر أثر ذلك على صفاته الظاهرة.

ذلك هو الفقه الأكبر الذي لا يجوز لفقيه أن يجهله أو يتجاوزه، فالفقه هو فقه النفوس ومعرفة نوازعها الضارة، ومن أحكم سيطرته على آفات النفوس فقد ارتقى في معارج الكمال وأثمرت أغصان علمه الثمرات المرجوة من معرفة الأحكام.

وأول آثار الفقه يجب أن تظهر على الفقهاء نضرة في الوجه وصحة في الملامح ورقياً في السلوك وترفعاً عن الصغائر، فالفقه هو الفهم، ولا فهم مع رسوخ السلوكيات الضارة التي لا تليق بمكانة العلماء.

وللفقه آداب في كل أحكامه من عبادات وعادات، وأول من يجب عليه أن يوجه الاهتمام إلى أهمية تلك الآداب هو الفقيه نفسه، فإذا جاءت الأحكام الفقهية خالية من آدابها لم تحقق الغاية المرجوة منها، وهو تهذيب السلوك والارتقاء بمستوى القيم الاجتماعية لكي تكون أقرب إلى الكمال.

الفقه هو الفهم الحقيقي للدين:

كان الشيخ يريد للفقه أن يكون فهماً شاملاً لحقائق الدين، وألا يتوقف عند حدود معرفة الأحكام، فمعرفة الحلال والحرام أمر يسير، ويدرك بالعلم، أما الالتزام بالحلال والحرام فذلك هو الفقه المطلوب، وهو غاية المعرفة، وهذا يحتاج إلى تكليف وتربية وتهذيب وحمل النفس على الأخذ بالفضائل، فمعرفة أحوال القلوب والاهتمام بصفائها يؤثر على سلوكية الإنسان ويحدد له مزاجه، والسلوكيات الظاهرة التي تعبر عن أفعال الجوارح والحواس هي ثمرة لما يحصل في القلب من انفعالات وخواطر…

وتطلق لفظة «علماء الظاهر» على الفقهاء لأنهم يهتمون بما يصدر عن الحواس الظاهرة من أفعال، ولا يلتفتون إلى خواطر القلوب التي تولد السلوكيات الظاهرة، وألحق الإمام الغزالي الفقه بعلم الدنيا، وسمى الفقهاء بعلماء الدنيا لأنهم تكلفوا بالبحث عن الأحكام التي تنظم شؤون الدنيا، أما ما يتعلق بعلوم الآخرة فقد تكفل به علماء أحوال القلوب، فالفقيه هو العالم الذي يهتم بالأحكام التي تنظم أحكام الخلق في منازعاتهم وخصوماتهم وشؤونهم، ولذلك ارتبط عمل الفقهاء بالسلطان لأن السلطان مكلف بتنظيم شؤون الخلق بما يكفل إقامة العدل بينهم، ولذلك يحتاج السلطان إلى الفقهاء ليبينوا له طرق العدل ووسائل إقامته بين الخلق في معاملاتهم وعقودهم وعلاقاتهم فيما بينهم، وهو عمل مرتبط بأحكام الدين، لأن الفقيه يبين أحكام الحلال والحرام، والدين أصل والسلطان حارس وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فهو ضائع، والفقه هو وسيلة السلطان لمعرفة الأحكام وإقامة العدل بين الناس، وما يتعلق بالقلب وخواطره فخارج عن نطاق الفقه والفقهاء.

فالفقيه يبحث في أركان الصلاة وشروطها، وما يجعلها صحيحة وما يجعلها فاسدة وهذا هو نطاق اختصاصه، ولا يبحث عن باطن الأعمال، وما يجري فيها من غفلة ورياء، فذلك من أعمال الآخرة وهذه هي مهمة علماء الآخرة الذين لا يبحثون في ظاهر الأعمال وإنما يبحثون فيما هو مقبول عند الله منها.

لم يكن الشيخ ينتقد عمل الفقهاء، فتلك مهمة مقدسة وضرورية، والفقه هو أداة معرفة الحقوق وضبط قضايا الخلق بما يكفل تحقيق العدل بما شرعه الدين من أحكام، إلا أن الفقه الأعظم هو الفقه بحقيقة الدين والتزام الورع في المعاملات والابتعاد عن الحرام وعدم البحث عن الحيل الشرعية التي تخرج الفعل عن دائرة الحرام إلى دائرة الحلال بالتحايل عليه والالتفاف على أحكام الدين، فتلك مهمة تناقض حقيقة الدين، فالعدل لا يتحقق إلا باحترام أحكام الشرع والورع عن الحرام بالابتعاد عن دروبه المؤدية إليه فإذا التزم الفقهاء بما يفرضه عليهم الدين من وجوب مراعاة حقوق الله في السر والعلانية كانوا فقهاء في الدين، وحرّاساً لأحكامه، وإذا استخدموا علمهم لتبرير المظالم والتحايل على شرع الله بما يناقض حقيقة الدين كانوا علماء سوء، استخدموا علمهم في غير ما أمرهم الله به…..

وليست الغاية التقليل من أهمية الفقهاء، وإنما الغاية أن يقع التواصل بين الفقه والفقهاء، وبين علم الدنيا وعلم الآخرة لكي يحقق الفقه غاياته المرجوة في الدفاع عن العدل وإحقاق الحق، فلابد للفقيه من الالتزام بالورع الذي يحصنه من الزلل، ولابد له من نقاء الفطرة واستقامة العقيدة لكي يكون استنباطه للأحكام الفقهية سديداً ورشيداً ولابد له من التخلق بأخلاقيات العلماء والفقهاء من الزهد والتواضع والترفع عن الصغائر والصدق والنزاهة والابتعاد عن الصفات المذمومة كالطمع والحسد والحقد والعجب والكبر فتلك صفات مذمومة لا تليق بالفقهاء.

والفقيه الحق هو الحصن القوي للحق يقاوم الباطل ويتصدى للمظالم ويقول كلمة الحق في كل المجالس، وهو مصدر النور والضياء في المجتمع فإذا استقام الفقهاء في سلوكهم حملوا الأمانة بنزاهة وشجاعة وإذا ضعف ورعهم وتعلقت قلوبهم بالدنيا ومتاعها ضعفت إرادتهم وضلوا الطريق وأساؤوا للدين…

إذن لابد للفقهاء من فقه الإخلاص والصدق ومحاسبة النفس والورع وإصلاح علاقتهم بربهم واستشعار الهيبة من الله في كل آرائهم وفتاواهم ولابد للفقه من فقهاء يغنون أحكامه باجتهاداتهم التي تجسد عظمة القيم الإسلامية التي تدافع عن الحق والفضيلة.

ذلك هو المنهج الذي كان الشيخ يدعو إليه، فقهاء متخلقون، يحسنون الفهم والاجتهاد، لا يساومون ولا يفرطون، لا تغرهم الدنيا ولا تدفعهم إلى التمسك بمتاعها علماء الظاهر لا يتوقفون عند حدود الظاهر بل يتخلقون بالخلق الإسلامي الرفيع، فيكون باطنهم كظاهرهم نقياً صافياً…

والتخلق هو المطلوب، فلا علم بلا خلق، والعالم الفقيه المتخلق هو القدوة وهو الذي لا تشغله الدنيا عن الدين ولا يفرط في مقدسات الدين، وهذا هو الفقه الأكبر…

وليس هناك فقهاء للدنيا وفقهاء للآخرة، فالدنيا هي المزرعة وهي البداية، والآخرة هي الثمرة وهي النهاية، والفقيه الذي يرعى شؤون آخرته في فتاواه واستنباطاته واجتهاداته واختياراته هو الفقيه الحق الجدير بالاحترام وهو المثل الأعلى للفقيه الذي يُقتدى به في آرائه وتقع الطمأنينة إلى اجتهاداته.

أما الفقيه المذموم فذلك الذي يسخر علمه لخدمة مآربه الشخصية لا يرعى حقاً لله يبحث عن الحيل الشرعية لإباحة الحرام ويحوم حول مواطن الريب يسخره الأقوياء لتبرير مظالمهم ويرضى لنفسه أن يقف على أبواب الحكام طمعاً في إرضائهم للوصول إلى مناصب مطموحة أو أعطيات ممنوحة لا يردعه ضمير يحاسبه في الليل ولا يستشعر مراقبة الله بأعماله طيلة النهار، يطمع فيما يجب أن يزهد الفقهاء فيه ويسعى بالفتنة لإلحاق الضرر بالصادقين من العلماء لإبعادهم عن منافسته.

( الزيارات : 1٬797 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *