المدرسة النبهانية….تكوين علمي ومشروع تربوى

افتتاح مدرسة النهضة

 

 

افتتحت مدرسة دار نهضة العلوم الشرعية عام 1964 بعد تأسيس جمعية النهضة الإسلامية للأعمال الاجتماعية والخيرية والتي كان الشيخ يشرف على أعمالها ونشاطها.

وكانت المدرسة تقبل طلاب العلم وتسهر على تعليمهم وتربيتهم وهي مدرسة شرعية داخلية لها نظام صارم في الدراسة والسلوك، وتستمر الدراسة فيها ست سنوات وتؤهل المتخرج منها للالتحاق بالأزهر، ويعيش الطالب مدة الدراسة داخل المدرسة، ولا يخرج منها في ليل أو نهار، ويمكنه مغادرة المدرسة في العطلة المحددة، وتتكفل المدرسة بكل ما يحتاجه الطالب من إقامة ولباس وطعام، وعليه أن يرتدي ملابس العلم ويلتزم بذلك، داخل المدرسة أو خارجها.

وتقع المدرسة في الكلتاوية، ويقوم بالتدريس في المدرسة أساتذة مؤهلون من إخوان الشيخ، وكلف الشيخ أحد إخوانه الذين يثق بكفاءتهم لإدارة هذه المدرسة، وهو الشيخ محمد لطفي وتعاقب على إدارتها عدد من المديرين منهم الشيخ منير الحداد والأستاذ أحمد المهدي الخضر والشيخ علاء الدين علايا والشيخ محمد رشواني والشيخ محمود الحوت.

واختار الشيخ بنفسه أول فوج من الطلاب التحق بالمدرسة، وكان سعيداً في ذلك اليوم، لقد حقق الأمل الذي كان يعمل له لتكوين هذه النخبة من الطلاب الذين توسم فيهم الأهلية لمتابعة الطريق العلمي، حيث كان يخصص لهم وقتاً في كل أسبوع ليحدثهم وينصحهم ويبين لهم مسؤولية العالم في المجتمع، وكان يعتبرهم مثل أبنائه وأحفاده، وينصت إليهم ويقربهم منه.

وقد جلست إلى جانبه وهو يختار هذه المجموعة الأولى، لم يسألهم في تلك الجلسة عما يحفظون من قرآن وسنة ومتون ومختصرات، ولم يطلب منهم أن يحدثوه عن أحكام فقهية أو يعربوا له كلمة نحوية أو يصرفوا له كلمة لغوية، لم يفعل ذلك، وإنما كان يسألهم عن القيم التي نشأوا في ظلها وعن سلوكيات البيئة التي أسهمت في تكوينهم، ولماذ اختاروا طريق العلم، وما هو العلم الذي يريدون تعلمه.

ماذا كان يريد الشيخ من المدرسة ؟

كان رحمه الله يريدهم أن يتعلموا العلم حباً بالعلم لا لأجل البحث عن وسيلة مريحة للعيش، وكان إذا وجد شاباً يحني رأسه طلب منه أن يرفع رأسه اعتزازاً بالعلم، فالعالم لا يحني رأسه إلا لله، وإذا وجد شاباً ضعيف الهمة أبعده، فالعلم لا ينهض به إلا من كان صاحب همة وإرادة وعزم، كان يريد أن يختار الشخصية التي تحمل مسؤولية العلم، والشخصية التي تبحث عن الكمال، فالعلم سلاح قوي ولا يجوز أن يسلم إلا لمن كان يملك السواعد القوية التي تحمل مسؤوليته، فالعلم ينهض بالعلماء إذا اعتزوا به ورفعوا مكانته، ويذل بذل العلماء إذا ارتضوا لأنفسهم الخنوع والتبعية.

هكذا كان منهج الشيخ في الاختيار، الشخص أولاً، فصاحب الشخصية يحمل المسؤولية ويعز العلم، ومن هزلت شخصيته وضعفت همته فالعلم لا يرفع مكانة الخانعين الذين أذلهم الطمع، فجعلهم عبيداً لما تطمع فيه نفوسهم من مال وسلطة.

كان يريد للعالم أن يكون رافع الرأس بعلمه قوي الشخصية بالحق، يرفع شأن العلم في المجتمع وفي المجالس، لا يذل لقوي ولا يضعف أمام إغراءات المال والسلطة، يتحكم في ميوله واختياراته ولا تتحكم فيه الأهواء، إذ مواقفه تعرف به، يتميز عن غيره بخصال النزاهة والشجاعة والتواضع والسخاء، وفي كل مجالسه كان طيّب الله ثراه يتحدث عن أهمية تكوين الشخصية في التربية، والشخصية هي موهبة وتكوين واستعدادات فطرية للكمال، وإذا كانت الشخصية هي شرط في كل إنسان، سواء كان تاجراً أو عاملاً أو مزارعاً فهي في العالم أشد ضرورة لأن العالم قدوة لغيره، والناس تقتدي بما يصدر عنه، ويأتي العلم لكي يصقل الشخصية ويهذبها ويجملها بالفضائل لتستقيم طباعها، والعلم الذي لا يظهر أثره على سلوك حملة العلم لا خير فيه، فالعمل هو ثمرة العلم، والعلم الذي لا ثمرة له كالشجرة اليابسة.

وكان يشبه العلم بالوجبة الغذائية الدسمة التي تحتاج إلى معدة قوية تحتمل ذلك الغذاء الدسم، فإذا كانت المعدة مريضة، هزيلة، أو عليلة فسرعان ما تنهكها تلك الوجبة ويظهر الشحوب على ملامح أصحابها، فلا تقوى على هضم ما بداخلها من أنواع الأطعمة الثقيلة.

والعالم يحمل مسؤولية العلم ولابد له من شخصية قوية متوازنة قادرة على القيام بما يفرضه العلم على صاحبه من وجوب الالتزام بالحق والدفاع عنه، والتحلي بصفات الكمال والتخلق بالفضائل.

كان طلاب العلم هم الثمرة التي كان الشيخ ينتظرها من شجرة الكلتاوية، ومن المدرسة الملحقة بها، كان طلاب المدرسة صغاراً وأرادهم الشيخ أن يكونوا كباراً من أول يوم، كان ينظر إليهم ويرى فيهم جيل الأمل وجيل الغد، أليسوا هم الذين كان يحلم بهم منذ زمن بعيد ؟ أليسوا هم الامتداد الطبيعي لتعاليم الشيخ ومنهجه ؟ كل جهد ينسى بعد حين، ما عدا الجهد الذي يبذل في الأرض الخصبة، فلابد أن يؤتي ثمره بعد حين… فالأشجار تنمو وتكبر ولابد من الانتظار لكي تعطي الثمرات المرجوة منها ولو بعد رحيل من غرسها وكأنه يقول: الكلتاوية بنيت، ورفعت أعمدتها، ولكنها لابد لها من شجرة مثمرة، تعطي بإذن ربها في كل عام عطاءها من العلماء.

وصية الشيخ لطلاب العلم:

خصص الشيخ رحمه الله جزءاً كبيراً من وقته لأبنائه الطلاب، فكانوا حقاً مشروعه العلمي والثقافي، لأن هذا المرشد الكبير أحبهم من كل قلبه، فكان يحدثهم في كل لقاء عن آداب العلم؛ ولا خير في علم لا يتسلح علماؤه بآداب العلم.

ولا حدود لآداب العلم، ولا يعطي العلم ثمرته إلا لمن يتأدب بأدب العلم وأهم آداب العلم ما يلي:

أولاً: أن يتعلم العلم لله لا لشيء آخر، فمن تعلم العلم لله تعالى ألبسه الله ثوب عزّه وهيبته، فأعزه العلم ونهض بأمره، فمن تعلم العلم لأجل دنيا يصيبها في معاش أو منصب أو جاه فقد جعل العلم مطيته لما يريده، والعلم ليس كذلك، والعلم نور ولا يمكن أن يكون حجاباً لصاحبه أو مطية لمآرب أخرى، فإن أراده لغير الله كان حجاباً له عند ربه، لأن غاية العلم المعرفة وهي ثمرة العلم، فإذا كان العلم لغير الله لم يثمر تلك المعرفة.

ثانياً: أن يتعلم العلم ليعمل به أولاً، وطريق العمل به أن يبتدىء بمحاسبة نفسه عن كل العيوب التي تصدر منه، والمحاسبة هي بداية الطريق لتزكية النفس من الآثام والسلوكيات الخاطئة والعمل هو ثمرة العلم، فلا علم بغير عمل، فمن تعلم العلم لله تعالى ظهرت أثاره على سلوكه وملامحه الظاهرة، فالباطن لا يدرك بالحواس، ولكن يدرك بما يظهر على الظاهر من آثار ما يحدث في الباطن، والظاهر هو مرآة الباطن، فإذا كان الباطن نظيفاً وطاهراً كانت أفعال الظاهر كذلك، كالطعام الذي يوجد في القدر لا يدرك لوجود غطاء القدر ولكن يدرك من خلال الرائحة التي تصدر من القدر، فإن كان ما في القدر نظيفاً وطيباً كانت الرائحة طيبة يستلذها الطبع.

ثالثاً: أن يبتعد عن الجدل المذموم، والجدل ليس هو الحوار، فالحوار غايته البحث عن الحق ووسيلته الأدلة والمنطق العقلي والاستدلال السليم، أما الجدل فغايته الانتصار للرأي والدفاع عنه، عناداً وإصراراً وهذا يؤدي إلى المخاصمة والمنازعة والأحقاد، وطالب العلم يحاور ولا يجادل، ويتحرى الحق ولا يتجاوزه، ويكون أخلاقي الغاية والكلمة واللهجة، لا يتحدى ولا يسيء إذا انكشف له الحق والتزم به، وطالب العلم هو طالب المعرفة، فمن جادل فهو لا يريد المعرفة، وإنما يريد الانتصار لإشباع رغباته وأهوائه، وهذه هي أخطر آفات العلم والعلماء، فمن تزكت نفسه لم يجادل، لئلا ينطفىء النور في قلبه.

رابعاً: أن يحسن الاستفادة من العلم، وذلك بالحرص على اقتناء المعارف وحسن اختيار الأفضل منها الذي يفيده في دنياه وفي آخرته، وليس هناك شيء مذموم في العلم، والمذموم هو كيفية التصرف في العلم وتوجيهه بطريقة خاطئة، ومن الاستفادة من العلم أن يساعد صاحبه على معرفة الأشياء كما هي في حقيقتها، لا كما يصورها الجهل، فالجهل يغير معالم الأشياء، فما يكون حسناً يجعله الجهل قبيحاً، والقبح ناتج عن التصور الخاطىء للأشياء ولا يمكن للعالم أن يحسن العطاء إلا أن يحسن الفهم أولاً ولا يحسن الفهم إلا بحسن التلقي، فمن تلقى العلم وهو صادق في ذلك فهم الأشياء وأدرك حسن ما هو حسن وما هو قبيح من الأمور، والعلم مرآة تنطبع فيها حقيقة الأشياء كما هي، ولابد من النور لكي تظهر الحقيقة صحيحة في المرأة من غير ما يكدر صفاءها.

ولا حدود لآداب العلم، والعلم لابد فيه من حسن التفكر فيه، لكي تنكشف الحقيقة المرجوة من العلم، والعقل هو النور الذي تدرك به المعلومات، وغاية العلم هو إصلاح النفوس بالتزام الفضائل والابتعاد عن الرذائل، فمن قصد بالعلم هذا الهدف فهو مطوق بالرعاية ومحفوف بالعناية، لأن الله تعالى يتولاه في رحلته العلمية، من ظلمة إلى نور، وإن أراد بعلمه الدنيا وزينتها طمعاً في مكانة أو جاه أو مال فقد حجبه الظلام الذي يطوقه عن النور الذي يقذفه الله في قلوب العلماء، فكان علمهم مطية لضلالهم.

هذا ما كان الشيخ ينصح به طلاب العلم من أبناء المدرسة، كان يجد في ملامحهم ما كان يطمح فيه، كان يريدهم أن يكونوا أثره الباقي وكتابه المقروء.

وفي الوقت الذي كان الشيخ يحضهم على الالتزام بأداب العلم كان يحذرهم كل التحذير من أن يكونوا من علماء السوء الذين لا يخشون الله فيما يقولون وفيما يفعلون، أو يقولون ما لا يفعلون.

وقد قال الله تعالى في وصف هؤلاء الذين يحسنون القول ولا يحسنون العمل {{ع94س2ش402ن1/س2ش502ن221)ع94س2ش502ن31/س2ش602ن1111ع94س2ش602ن21/س2ش602ن221} [البقرة: 204 ـ 206].

وكما أن السفهاء يجب ألا يمكنوا من أموالهم ما لم يؤنس منهم الرشد لئلا يسيئوا في استعمال الأموال ويصرفوها في غير مصارفها الصحيحة فكذلك لا يجوز أن يتمكّن السفهاء من العلم لئلا يستخدموه في غير موضعه، كي لا يبيعوا دينهم بدنياهم ويبررون المظالم والمفاسد، ويدافعون عن الباطل ويتحالفون مع رموز الشر في المجتمع، فيصدرون الفتاوى الباطلة ويستخدمون سلاح العلم لتشويه قيم الإسلام العادلة.

وعلماء السوء هم هؤلاء، يكتمون ما أنزل الله من الكتاب وقال الله فيهم: {{ع94س2ش471ن1/س2ش471ن992} [البقرة: 174] وقال أيضاً: {{ع94س3ش781ن1/س3ش781ن881} [آل عمران: 187].

وكتمان العلم هو إخفاؤه وستر حقيقته، وإبراز صورة أخرى مغايرة لتلك الحقيقة، إما للتقرب من صاحب سلطة ونفوذ تملقاً له أو خوفاً منه، والتملق صفة مرتبطة بالطمع فيما عند الآخر، فمن طمع في مال تملق صاحب المال للتقرب منه رغبة في الحصول على الشيء المطموع، ومن طمع في سلطة تقرب من صاحب السلطة للحصول على الشيء المرغوب، والتملق هو صفة المنافقين الذين يكتمون الحق لكي لا يغضبوا من يخشى من الحق ويتهيب منه، فمن زهد في الشيء المرغوب فيه فلا يجد المبرر لكتمان الحق الذي أنزله الله في كتابه.

ومن أراد الحياة الدنيا وزينتها من أهل العلم فلابد له من كتمان الحق للحصول على ما يطمع فيه، وهو آثم في ذلك خائن للأمانة، لأن كتمانه للحق هو تغرير بالناس، والعامة تفترض الصدق والأمانة والنزاهة في العلماء وتثق بما يقولون.

كان الشيخ في لقاءاته بطلاب العلم يحدثهم عن مسؤولية العالم في عدم كتمان الحق الذي أمر الله أهل العلم ببيانه للناس، فالعلم ليست غايته التباهي به في المجالس ومجاراة السفهاء من الناس بمدحهم والتقرب إليهم، وإنما غايته معرفة الحق الذي أمر الله به، فمن فعل ذلك فهو من العلماء الصالحين الذين يعملون بما يعلمون ومن لم يفعل ذلك فهو من علماء السوء الذين يكتمون الحق ولا يبيّنونه للناس.

لم يكن الشيخ في مجالس التربية يهدف إلى نقد أحد أو الإساءة إليه، وإنما كان يهدف إلى التعليم والتكوين، فهو في موطن المرشد، والمعلم، ولا يجوز لمرشد في موقف النصح والإرشاد أن يكتم الحق، ولابد له من التحذير والتنبيه، تلك كلمات تلقى في القلوب كما تلقى بذور الأزهار في الأرض الخصبة، وسرعان ما تنبت الزروع والأغراس الخضراء التي تورق وتزهر وتثمر، وكذلك دور المرشد أن يلقي كلمته الصادقة والناصحة في قلوب طلابه وتلامذته ومريديه، ولابد إلا أن تنبت يوماً عندما يحين موعد الربيع وهو الفصل الذي تزهر فيه الزروع وتثمر.

في مجلس الإرشاد لابد من التشجيع والتحذير، فغاية التشجيع هو أن يزداد التعلق بالفضائل الأخلاقية لكي تكون محبوبة، فإذا أحبها المتعلم تعلق بها، وغاية التحذير أن يبتعد المتعلم عنها ولا يمكن أن يبتعد عنها ما لم يجد صفة القبح فيها فإذا رأى قبح الأفعال القبيحة كرهها، والمكروه تنفر منه النفوس ولا تستلذه ولو كان لذيذاً.

وهنا يبرز دور المربي والمرشد في تكوين القابليات وفي صياغتها، لكي تكون منسجمة مع قيم الكمال التي تجسدها التربية الإسلامية وطلاب العلم هم أولى الناس بالتكوين، لأنهم علماء الغد، إذا صلحوا صلح المجتمع بصلاحهم وإذا فسدوا أفسدوا القيم وانحدروا بها وزينوا للناس سيء الأعمال.

تساؤلات ملحة:

كان هناك سؤال يتردد على الأفواه ويعبر عما في القلوب من تساؤلات.

ماذا كان الشيخ يريد أن يحققه عن طريق هذه المدرسة؟

هل يمكن بهذه المدرسة الصغيرة أن يصلح المجتمع وأن يتحكم في مساره…؟

ويكمن الجواب في مسلمات أولية لابد من معرفتها لفهم منهج الشيخ في الدعوة والإصلاح.

وأول هذه المسلمات ما يلي:

أولاً: لم يكن الشيخ رجل سياسة يعمل لإعداد تنظيم حزبي يحقق له مطامحه في السلطة والنفوذ، لم يكن هذا وارداً في ذهنه، ولا مستحباً، هذه نظرة دنيوية ومصلحية عاجلة، كان الشيخ رجل دعوة وتربية، يريد أن يلقى بذور الخير في الأرض لكي تنبت، فيجني المجتمع قطوفها ويأكل من ثمرها.

ثانياً: لم يكن الشيخ يعمل وفق مخطط مدروس محكم، تنفذ مراحله بدقة، ويسهر الساهرون على تنفيذه للوصول إلى النتائج المرجوة، وإنما كان يعمل من منطلق الإيمان بأن الله تعالى هو الخالق والمدبّر، وأن الله تعالى قد «اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة»، وأن العبد لا يملك أمر نفسه، ولا يملك أمر التدبير والتخطيط، فالله هو قيوم الأرض والسماء، وتتمثل مهمة العبد بالقيام بما هو مكلف به بالأمر والنهي مما يجسد معنى العبدية لله تعالى، والتدبير ينافي التسليم لله تعالى والرضا بما يختاره للعبد، والتدبير المحمود هو الذي يشغل القلب عن ربه، فمن شغل بالتدبير عن الله تعالى فقد شغل بالدنيا وهي دار ابتلاء وامتحان ولابد في أي عمل من إغفال حظوظ النفس، لكي يكون العمل لله وليس لإرضاء النفس، لأن العبد في رعاية الله ما دام مفوضاً أمره لله تاركاً أمر التدبير لما اقتضته الحكمة الإلهية.. ذلك هو منهج الشيخ في أي عمل من أعماله ولا يمكن تصور أي منهج مغاير لهذا المنهج الذي كان يعبر عنه في كل موقف في مسيرته المباركة، في حياته الشخصية أو في عمله العام، لم ينسب لنفسه أي عمل أو نجاح، كان يؤمن أن الله تعالى هو المتولي لأمر مملكته بالتسيير والتدبير.

ثالثاً: لم يكن الشيخ يريد من العلم الحصول على الإجازات العلمية للتفاخر بها والتباري بقيمتها العلمية، وما يمكن أن تحققه للنفس من شعور بالفخر والتميز، وإنما كان يريد العلم لذاته، العلم الذي يقود إلى المعرفة، والمعرفة التي تثمر محبة الله وإيثاره على كل ما عداه، وعدم الانشغال بكل ما يشغل القلب عن الله، وكان يقول نحن نريد العلم لكي نحسن الأدب، والعلم الذي لا يعلم صاحبه الأدب لا ينتفع به، وقليل من الأدب خير من كثير من العلم، فلا خير في علم لا يثمر أدباً، والأدب الذي يثمره العلم يدفع صاحبه لإصلاح باطنه، فمن أصلح ظاهره ولم يصلح باطنه فهو جاهل بما يهدف إليه العلم، والعلم هو ذكرى لمن كان له قلب يستمع لكلمة الحق، وأول آثار العلم خشية الله، ومن صفة العلماء أنه إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.

كان الشيخ يشبه العالم بالشمس تضيء ما حولها وهي مضيئة لأن ضوءها مستمد من ذاتها، بخلاف القمر فهو يضيء ما حوله وهو مظلم، فإذا انقطع النور الذي يمده أصبح مظلماً، والعالم يجب أن يكون ذا بصيرة ذاتية لكي يتمكن من تبصير غيره.

لم يكن الشيخ يريد زعامة أو رئاسة أو شهرة، بل كان زاهداً في كل ذلك، حيث لم يشغله الزهد في هذه الأشياء، وإذا ما سمع أي حديث في هذا كان يعرض عن ذلك الحديث، وكأن الأمر لا يعنيه شيئاً، ولابد من الإعراض، والإعراض لا يتحقق إلا بالزهد الصادق، قال تعالى: {{ع94س6ش19ن83/س6ش19ن444} [الأنعام: 91].

وكبرت المدرسة واتسعت وكبر الحلم الكبير، كان الشيخ يرى في ملامح هؤلاء الطلاب السواعد القوية التي ستحمل المسؤولية يوماً لإعلاء كلمة الحق، كان يرعاهم ويأخذ بيدهم، إذا ضاقت السبل كانوا يجدون في صدره ذلك الحب الذي يعيد إليهم الابتسامة والفرحة وأصبحت الكلتاوية هي المدرسة بكل الآمال المعقودة عليها.

وبدأت مواكب الخريجين من أبناء المدرسة تملأ رحاب الكلتاوية تجمعهم ألفة ومحبة ومودة، فأصبحوا هم العمود الفقري للكلتاوية بل صاروا امتدادها التربوي والروحي خارج نطاق موقعها الجغرافي، لغتهم واحدة، فقد يختلفون في الاستعدادات والقابليات والاهتمامات إلا أن من اليسير أن يدرك الملاحظ اللغة التي تجمعهم وتوحدهم.

تخرجت الأفواج الأولى من المدرسة في حياة الشيخ، كانت سعادته بهم كبيرة، أرهقه المرض في أواخر حياته، ولكن لم يمنعه من لقاء أبنائه من طلاب العلم الذين كانوا بالنسبة له الشعلة التي ستظل مضيئة وسوف يزداد توهجها، ومن الطبيعي أنهم سيتفرقون، إلا أن قلوبهم سوف تبقى مشدودة إلى الكلتاوية وسوف يظل وفاؤهم كما كان، يحنون إلى ذلك الصدر الذي كان يضمهم ويرعاهم.

كلمات الشيخ ما زالت في صدورهم، إنها البذور في الأرض لا تموت أبداً وستخرج كل بذرة غرسها في موعده، فما زالوا يذكرون في مجالسهم ذكريات الأمس ويقرأون كتب الشيخ المخزونة في قلوبهم والمستودعة في ذاكرتهم، إذ كل فرد منهم يحتفظ بما سمعه وبما رآه، ذلك هو كتاب الشيخ…

وهذا هو فكره وتلك أراؤه… وكل منهم يفسرها كما فهمها، فمنهم من يرى فيها ظاهر دلالتها اللفظية، ويتمسك بما سمعه من أقوال وما شاهده من أفعال، ومنهم من يرى فيها روحها ومقاصدها ودلالاتها فيتمسك بما فهمه وما وصل إليه من معان ودلالات، وكل على حق فيما أخذه واستنتجه، وكل مصيب فيما نقله ورواه والشيخ هو هذا وهذا، وكل قد أخذ منه ما فهمه، وليس من حق أحد أن يدعي أنه يمتلك الحق وحده دون غيره، فذلك تقييد وتحديد وتضييق، ولا تدرك الحقيقة إلا بالإحاطة بكل أطرافها.

( الزيارات : 1٬148 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *