مدرسة النهضة الشرعية النبهانية فى الكلتاوية

 

 

 

مدرسة دار النهضة الشرعية

 

 

كانت المدرسة هي الهدف التي كان الشيخ يريد تحقيقه من وراء بناء الكلتاوية، وكانت لفظة المدرسة تتردد على لسانه في كل مناسبة، انطلاقاً من إيمانه بدور العلم في المعرفة ودور العلماء في التعريف بالإسلام الحق، إسلام السلوك والعمل، إسلام الإخلاص والنقاء، إسلام المحبة والأخوة.

لم يكن يريد المدرسة لذاتها، ولا لكي تكون واحدة من المدارس الشرعية الأخرى، كان يريدها أن تكون متميزة بطلابها وأساتذتها ومناهجها وأسلوب تعليمها، كان يريدها لغاية وهدف.

كلماته الأولى عن هذه المدرسة كانت تحدد ملامحها، لم يكن يريد أن يكون علمائها علماء معاش ووظيفة، يبحثون عن المناصب بالتقرب من الحكام والتزلف لهم، وإنما يريدهم أن يكونوا علماء يدافعون عن الحق ويناصرون المستضعفين من الناس الذين لا يجدون من يدافع عن حقوقهم الإنسانية.

أرسل مرة إلى بعض شيوخ القبائل وهم أمراء في مناطقهم، وقال لهم: أرسلوا لي أبناءكم لكي أعلمهم وأعيدهم إليكم ليكونوا رموز العلم، وأريد للأمراء أن يكونوا علماء لكي تصلح بصلاحهم قبائلهم، فإذا صلح الأمير صلحت رعيته.

لم يكن يحب أن يتقرب العالم بعلمه إلى الأمراء وأن يقف على أبوابهم، فإذا ذل العالم أذل معه علمه، وسقطت مكانة العلماء في المجتمع، وانقطعت بذلك أسباب الاستفادة من علمهم، وهذا ما كان يحذر منه.

كان يريد للعالِم أن يشتغل بالعمل الحر، وأن يكسب من جهده، حتى يتحرر من قبضة الارتباط الوظيفي الذي يذل العلماء، ويجعلهم في خدمة من يوظفهم، إرضاءً لهم، فلا يملك القدرة على مناصرة الحق، خوفاً ورهبة، وهذه من مقاتل العلماء.

إذن كانت الغاية من المدرسة تكوين ذلك النموذج من العلماء، فإذا عز العالم باستغنائه عن الآخرين عز العلم وارتفعت مكانته في النفوس، وكان الشيخ يندد بعلماء المعاشات الذين يتدافعون أمام المسؤولين للتقرب منهم بحثاً عن الوظائف الرفيعة، وقلما يقودهم الذل إلى العز، فمن ارتضى الذل لنفسه فقد ارتضى المهانة لعلمه، ولا كرامة لعلم أذله حملته.

والعلم هو معرفة الشيء على ما هو به، وهو نقيض الجهل، والعلم فضيلة بذاته وهو محمود في كل الأحوال، ولا يمكن للعلم أن يكون مذموماً، وليس هنالك علم مذموم، والذم يكون بالنسبة لاستخدام العلم فيما لا ينفع أو غير مفيد، فإذا استخدم العالم علمه للإضرار بالآخرين، فهذا الاستخدام مذموم وذلك للضرر الناتج عنه.

ولهذا رفع الله تعالى مكانة العلماء في المجتمع بسبب ما يتميزون به عن غيرهم من معرفة الخير والشر والتمييز بين الحق والباطل.

قال تعالى: {{ع94س85ش11ن81/س85ش11ن662} [المجادلة: 11].

{{ع94س93ش9ن31/س93ش9ن002} [الزمر: 9].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية معاوية: «ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» حديث متفق عليه.

والعلماء هم ورثة الأنبياء في أداء رسالة التعريف والهداية، والعالم يتميز عن الجاهل في كل شيء، والعلم فضيلة ولا يمكن للجهل أن يكون فضيلة والعالم أرفع درجةمن العابد، بفضل ما أكرمه الله من الفقه والفهم.

ويتميز الإنسان على غيره من المخلوقات بما أكرمه الله به من علم، والعلم نور وبصيرة، ولذلك يتميز العلماء بالبصيرة، وهم خير الناس إلا إذا أذلّوا علمهم بالطمع في الدنيا، فكانوا على أبواب الحكام والأغنياء يطلبون منهم ما يملكون من الدنيا، فيذلّ العلم بذلّ العلماء.

كان الشيخ يبين فضائل العلم وهي لا تحصى، وأهمها: المعرفة والنزاهة وحسن الخلق، ويرفع من مكانة العلم في أحاديثه ويرفع من مكانة العلماء في ـالسه، إلا أنه كان يضيق بالعاـ الذي لا يعتز بعلمه ولا يرتقى سلوكه ولا يكون أكثر نزاهة وأقل طمعاً، فالطمع مذلّ لأصحابه، ولا شيء يذل العالم كالطمع في الدنيا والتعلق بها، فإنه يذل علمه فيما يطمح فيه، ويناصر الظلم محاباة للظالمين لأنهم أقوياء، فهو يهابهم خوفاً على ما يمكن أن يفقده من مطامعه.

الفرق بين العلماء الصالحين وعلماء السوء:

ولذا كان الشيخ يفرّق بين العلماء الصالحين وعلماء السوء، فالعلماء الصالحون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الأعمال فكانوا رموز خير وفضيلة في مجتمعهم، يفتحون قلوبهم للفقراء والمستضعفين ويناصرون الحق أينما كان، يحبون في الله ويبغضون في الله، يؤثرون الآخرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، لا يسكتهم خوف عن كلمة الحق، ولا يطمعون في الدنيا فيذلهم الطمع، ولا يقفون عند الأبواب الموصدة في وجوه الخير رغبة في أن يصيبهم من زينة الدنيا ما يشبع نهمهم، أما علماء السوء فهم رموز سيئة، تبيع الدين بالدنيا، وتفتي بما يرضي الظالمين طمعاً في عطائهم، حتى يكونوا سيوف الأقوياء التي تجلد بها أجساد الضعفاء، يستخدمون سلطان الدين لتحقيق مصالحهم الشخصية لا يناصرون الحق وإن عرفوا به، ولا يقاومون الظلم وإن تأكدوا منه، وهؤلاء هم شرار الناس الذين أساؤوا لمكانة العلم وافقدوا العلماء ثوب الهيبة والوقار والاحترام.

ولعل ما أراده الشيخ رحمه الله عندما أراد أن ينشىء مدرسته الشرعية لتكوين العلماء، هو أمل كان ينشده وحلم يريد له أن يتحقق، وما كان يريد أن يضيف مدرسة جديدة وإنما يريد أن يجسد أملاً ويصوغ نموذجاً.

ما زلت أذكر ملامح الفرحة على وجهه وهو يعد العدة لإنشاء المدرسة، وكانت فرحته بالمدرسة أكثر من فرحته ببناء الكلتاويّة، ولعل المدرسة هي المراد من بناء الكلتاويّة، ولهذا كان البناء الأول للمدرسة يحظى باهتمامه، فخصّص له الجزء الجنوبي من الكلتاويّة، والفناء الممتد في الجزء الغربي والذي يطل على المدينة القديمة والقلعة.

لم يكن اهتمام الشيخ بالتربية الروحية التي تعتمد على تزكية النفوس وطهارة القلوب لتشغله عن اهتمامه بتكوين العلماء وتزويدهم بالعلم النافع الذي هو عماد الإصلاح الاجتماعي، فالعلماء هم أقدر الناس على الفهم بحسب ما أكرمهم الله به من  علوم الشريعة كالتفسير والحديث والفقه والأصول وعلوم اللغة والأدب، ولم يكن هناك علم أفضل من علم فالعلم خير كله ومحمود كله بشرط أن يوجهه صاحبه لما هو مفيد ونافع، وأن يتخلق بأخلاق العلم.

لذا فإنه بالرغم من اهتمامه بعلوم الشريعة نظراً لشرف مكانتها وسمو منزلتها لارتباطها بالقرآن والسنة فقد كان يوجه بعض إخوانه لدراسة الطب والهندسة وسائر العلوم، ويقول: العلم خير كله وكل العلوم تقود إلى الله وإلى طريق الآخرة إذا أخلص العبد في تعلمها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والاهتمام بمصالح الخلق في معاشهم وأبدانهم من الدين، ولا يصلح الدين إلا بصلاح الدنيا واستقامة أمرها، والمهم في العلم أن يُعرِّف العبد بربه ويقربه منه ويقوده إليه، والعلم هو أداة الفهم ولا حدود للفهم، فكل ما يعرِّفك بربك فهو محمود، وكل ما يبعدك عنه فهو مذموم، فإذا قادك علم الكلام إلى الجدل والمغالبة والمخاصمة والبحث فيما لا يفيد فهو مذموم والعلم الذي لا يضيء قلب صاحبه بالمعرفة فلا حاجة إليه، وأهم ما كان ينصح به الشيخ طلاب العلم أن يقصدوا وجه الله في علمهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك حفظهم الله في علمهم، وأسبغ عليهم نعمة الفهم، وكانوا موفقين ومسددين ومحفوظين، ولا خوف عليهم ما داموا يقصدون وجه الله ويخلصون النية في ذلك، فلا يصيبهم الغرور الذي يعدّ من أكبر آفات العلم، فضلاً عن الاستكبار الذي يدفع صاحبه لعدم الرضوخ للحق.

( الزيارات : 1٬529 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *