أهمية النقد الذاتي..في تجربتي في المغرب

الدكتور محمد فاروق النبهان يلقى درساً أمام الملك الحسن الثاني فى الرباط عام 1995 م

الدكتور محمد فاروق النبهان يلقى درساً أمام الملك الحسن الثاني فى الرباط عام 1995 م

في السنة الأولى من حياتي في المغرب كنت في غاية الحماس والنشاط، لا حدود لطاقتي، في كل يوم خطوة، وفي كل خطوة فكرة، كنت أريد أن أعبر عن امتناني للمغرب بخدمتي له وكنت أريد أن تصل رسالتي هذه إلى كل مغربي، كنت أتوقع أن تقرأ الرسالة جيدا، جئت بغير مطامع، ولا طموحات شخصية، المغرب ولا شيء غير المغرب، كنت أعمل معظم النهار والليل ولا أضيق بجهد ولا تعب، لقد طوقني ملك المغرب بوسام الثقة وأسند إلي مهمة كبيرة، وهذا التكليف أسعدني لدلالته وحملني مسؤولية لا حدود لها، كنت أريد أن تكون دار الحديث الحسنية مفخرة عهد بعطائها العلمي  وأبنائها العلماء الذين وجدت في ملامحهم العزم على أن يكونوا رواد نهضة علمية متميزة… كل العهود تنسى بعد فترة، ويبقى أثرها في مجال العلم والثقافة، وأردت أن تكون هذه الدار هي ذلك الصرح العلمي الكبير الذي يذكره المؤرخون بعد قرن أو قرنين كمعلمة لتكوين نهضة مغربية في مجال العلم والثقافة… وعكفت على تشجيع العلم ودعوت إلى ضرورة الاحتكام إليه، ومن يعلم فهو أفضل ممن لا يعلم، ومن ملك حجة أو دليلا فهو أجدر أن يحترم رأيه وتشد الرحال إلى مجالسه، ولا مكان لفكر الجاهلية في مجتمع الإسلام، ولا بد من عقلنة فكرنا بإعادة النظر في ملامحه، فلا مجال للإيمان بالأساطير والخرافات التي يؤمن بها العامة بسبب تخلف عقولهم عن مواكبة ثقافة النهضة وتتحمل المؤسسات العلمية مسؤولية إصلاح المفاهيم وتصحيح العادات والسلوكيات، وتغذية القيم الإنسانية ومقاومة ثقافة الانحطاط والتخلف التي تنمو في مجتمعات الأمية والجهل..

عكفت على تصحيح المناهج العلمية، والنهوض بمستوى الخطاب الديني، وشجعت طلابي على اقتحام حصون المعرفة العلمية، والتزود بزاد العلم والارتقاء بمستوى التفكير، والإسهام في حركة النهضة..

كنت سعيدا عندما كنت أرى استجابة لهذه الأفكار وقبولا نفسيا لتلك التوجيهات واستعدادا صادقا للمشاركة الجادة في مسيرة الثقافة…

كنت أغالب الشعور بالغربة والوحدة ولم أشعر بالضعف أبدا، كنت أملك إمكانات التحدي أمام كل الصعاب وأملك إرادة المدافعة والمغالبة، ولولا ذلك لما استطعت أن أخطو الخطوات الأولى في ذلك الدرب الطويل.. ولم يعد الطريق معبدا كما تصورته من قبل، اكتشفت بعد الأشهر الأولى أن المسالك وعرة وكثيرة الحفر، والوديان سحيقة، ولا سبيل لي لتجاوز تلك المسالك بسهولة.. أخذت أعد نفسي لما يخبئه لي الطريق من مفاجآت.. وكانت المفاجآت أقسى مما توقعت..

زاد شعوري بالغربة والوحدة، وهو شعور طبيعي ليس من اليسير على المرء أن يجد نفسه في بلد لا يعرف عنه شيئا وفي إدارة هو الغريب الوحيد فيها…

ومن الطبيعي أن تقع أخطاء جسيمة ما زلت أذكرها وأتألم لها، وأهمها ذلك الشعور بالثقة وذلك الحماس والنشاط، كل ذلك كان يمكن أن يثير المشاعر المناهضة وأدركت بعد حين أنني يجب أن أسير بخطى هادئة وخفيفة، وليس المهم أن تنجز ما تريد وإنما المهم أن تحتفظ بما أنجزت وأن ترسخ لخطواتك لكي تكون ثابتة.

في البداية لم تكن الصورة واضحة، كنت أريد أن أنجز ما كنت أحلم به، تصورت أن الأرض مفروشة بالزهور، وكل شيء سيكون ممكنا، وبدأت احلق في فضاءات واسعة يقودني طموح لا حد له، وإرادة صادقة، لم أكن أتصور أن الأمور ليست كما تبدو لناظرها من بعيد سهلة وطريقها معبد، وبدأت اكتشف الصعوبات والمنزلقات، ولم أكن بإمكاني في هذه الفترة المبكرة من تجربتي أن أعرف ماذا يحيط بي، لم اعرف أصدقائي بعد، ولم يكونوا أصدقائي وإنما هم أصدقاء طريقي ممن يشاركونني الخط الفكري الذي التزمت به، كنت أريد خدمة الثقافة عن طريق تشجيع معالجة القضايا المستحدثة، وتنمية دور العقل في الفهم والاستنباط…

وركزت على أهمية العناية بالثقافة الإسلامية ودعوة المؤسسات الإسلامية لتحمل مسؤولياتها لإغناء هذه الثقافة بالبحوث الجادة، وكنت معنيا بإبراز دور دار الحديث الحسنية في خدمة الثقافة الإسلامية …

وقد ذكرت هذا أثناء الدرس الذي ألقيته في الدروس الحسنية عن الثقافة الإسلامية، وكنت في غاية الصدق والإخلاص وأنا ألتمس من الملك تأكيد عنايته بهذه المؤسسة وتشجيعه لهذا المنهج الذي يسهم في تحقيق النهضة العلمية..

أدرك الملك بذكائه الفطري أنني أؤدي أمانة التكليف الذي كلفني به، ابتسم قليلا وأخذ يعلق على كلامي بما يفيد التشجيع، وأكد التزامه بهذه المؤسسة وان مهمتها هي تكوين العلماء المؤهلين لتحقيق النهضة العلمية، وسمع المغاربة كلهم كلمة الملك التي كانت تنقل مباشرة بواسطة التلفزيون، هذا الدرس كان البداية لمرحلة الاستقرار، إذ خفت الضغوط الخارجية، وبدأت بعدها استنتج الدروس والعبر، وأدركت أن سقف الانجازات محدود بما لا يمس الثوابت والمصالح، وانه لا يمكن تجاوز ما هو مألوف من الأفكار، وانه لابد من مراعاة ما جرى عليه العرف من أفكار التصحيح والتجديد، ولابد من مراعاة المشاعر ولو كانت خاطئة…

هدأت لهجة الخطاب، وبدأ التفكير في بناء جيل متمكن من العلم مستوعب لأهداف المعرفة، قادر على أن يتحمل مسؤولية التصحيح في الأخطار والتخطيط لمناهج ثقافية تنهض بالمجتمع وتوفر له أسباب التقدم..

لم تتوقف الضغوطات بعد ذلك ، ولكنني أصبحت أكثر حكمة في معالجتها والتصدي لها، ربما بحكم التجربة أولا وبحكم السن ثانيا، والإنسان لا بد له من أن يستفيد من الحياة دروسا ضرورية، ومن لم يستفد من الحياة فعليه أن يتوقع المزيد من المشكلات…

وأهم درس تعلمته من الحياة أنه لا يمكن الاصطدام بالواقع ولو كان خاطئا، لأن الواقع يحميه من يستفيد منه، وتسخر العامة لحماية ذلك الواقع، والواقع تؤكده وتنميه مصالح غير مدركة لأقوياء تخيفهم شعارات اليقظة والإصلاح، ففي ظل الفكر الذي يدعو للانغلاق والجهل تشتد قبضة الأقوياء على الضعفاء، ولا يقوى الضعيف على المقاومة لئلا يطوق عنقه بما يخيفه من سلاسل الإذلال..

  ولابد من الإصلاح التربوي، إصلاح المناهج وإصلاح الخطاب التربوي، لتكوين العقلية الواعية المستوعبة لأهمية العناية بالإنسان واحترام حقوق الإنسان، وأهمها الحرية التي تعتبر الامتداد الطبيعي لحق الإنسان في الحياة..

( الزيارات : 998 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *