أهمية تعميق القيم الإنسانية في مناهجنا التعليمية

جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله يرحب بالدكتور محمد فاروق النبهان في الرباط وإلى جانبه السيد الداي ولد سيدى بابا وزير الاوقاف المغربى

جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله يرحب بالدكتور محمد فاروق النبهان في الرباط وإلى جانبه السيد الداي ولد سيدى بابا وزير الاوقاف المغربى

لم يصرفني اهتمامي بدار الحديث عن المشاركة الواسعة في النشاطات العامة، الاجتماعية والثقافية والسياسية، وكنت اعتبر هذا النشاط العام ضروريا لكي تكون المؤسسة حاضرة وأدى هذا إلى توسيع دائرة أصدقائها، وكنت ألاحظ غياب المؤسسات الإسلامية عن النشاط العام في معظم المجتمعات الإسلامية، وهذا الغياب يؤدي إلى تغييب دور الثقافة الإسلامية ودور الشخصيات الإسلامية عن الحياة العامة، وكأن مهمة هذه المؤسسات قاصرة على العناية بتراث الأجيال السابقة، ولا علاقة لها بقضايا المجتمع المعاصرة..

ما أسوأ هذا التصنيف وما أشد خطره، ولماذا يقصى الإسلام وعلماؤه ومؤسساته وفكره عن مسيرة المجتمع، وكأن هؤلاء ليسوا مؤهلين للمشاركة في قضايا المجتمع المعاصرة، ومن الطبيعي أن تبرز الآثار السلبية لهذا الإقصاء عن طريق تكوين مجتمع إسلامي مغلق محبط يفرض فكره ومفاهيمه عن طريق  العنف والتطرف…

والتطرف هو وليد حالة احتقان وتجاهل وسياسة إقصاء لشرائح اجتماعية مؤهلة بحكم انعزالها وبؤسها ويأسها لتوليد فكر غاضب متمرد يقوده متعصبون، ويؤمن به محبطون يجدون في بعض المفاهيم الدينية مطية للتعبير عن مواقفهم الغاضبة…

ولا يقاوم هذا الفكر المتطرف إلا بتوسيع دائرة الحرية في المجتمع واحترام الاختيارات الشعبية وتشجيع الحوار الثقافي وإقرار ديمقراطية صادقة ونزيهة، والارتقاء بمستوى الخطاب الديني والنهوض بمستوى الدعاة لكي تتمكن منابر الجمعة من تأدية رسالتها التوجيهية والإصلاحية، وتحرير المفاهيم الدينية من وصاية الأقوياء الذين يستظلون بمظلة الدين لتبرير تجاوزاتهم وتجاهلهم لحقوق الإنسان..

ولن يقاوم الفكر المتطرف إلا بتوفير مزيد من الحريات العامة، وتحقيق إصلاحات حقيقية في المجتمعات الإسلامية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فالتطرف هو تعبير عن حالة احتقان وغضب وانفعال، وهو فكر يجسد موقف الاحتجاج والرفض، والإصلاح المنشود هو الوسيلة الوحيدة لإزالة أسباب التمرد الداخلي والغضب المكبوت..

ولا بد من العناية بالمؤسسات العلمية الإسلامية وإعادة النظر في مناهجها التربوية، وإدماج هذه المؤسسات في المجتمع، وإيقاف سياسة التهميش التي عزلت هذه المؤسسات وأضعفت دورها الاجتماعي..

ولن ينهض فكرنا الإسلامي إلا عندما ينهض مفكرو الإسلام من كبوتهم، وتنهض بهم المؤسسات والمعاهد  الإسلامية ومراكز البحث، وإنما نحتاج إلى تصحيح أوضاعنا وتجديد مفاهيمنا وإغناء ثقافتنا بجهد الأجيال المتعاقبة، ويجب أن نشجع حرية الفكر ونفتح باب الاجتهاد على مصراعيه لأصحاب الاختصاص من العلماء، إيمانا بدور العقل في اغناء ثقافتنا، واحتراما لأبسط حقوق الإنسان في ممارسة حقه في التفكير والتعبير والكتابة والتأليف..

لا حدود لحق المفكر في ممارسة حريته الفكرية، وكل ما يبدعه الإنسان فهو في موطن القبول، أليس هو جهد العقول التي أناط بها الشرع مهمة التكليف، فلماذا نصادر حق المفكر في التعبير عما أنتجه عقله وما تراءى له انه الحق، ولماذا نعطي وصاية لعقل بشري على آخر، وبأي حق يمتطي البعض حصون الوصاية على البعض الآخر في امتلاك الحقيقة، وهو مجرد ادعاء يدعيه أنصاف العلماء ومن يسير في ركابهم من العوام، لا احد يمكنه أن يدعي امتلاك الحقيقة في الأمور الاجتهادية التي تتعدد فيها الآراء إلا في الأمور القطعية التي لا تقبل ولا تتحمل التفسير المغاير، والكل سواء في امتلاك الحرية المشروعة والمنضبطة والتي تصدر من المفكرين والباحثين الذين يقيمون الدليل على اجتهادهم واختياراتهم.

ما أروع أخلاقية العلماء وهم يتحاورون بالحجة والدليل ولا يلجئون لما تفعل العامة إلى سلاح التكفير والتضليل، وهو سلاح الجهلة عندما يعجزون عن الحوار، فيدفعهم الجهل إلى الانفعال والاتهام، لاستجلاب عواطف العامة، والتأثير عليهم بما يثير في نفوسهم مشاعر الغيرة على الإسلام..

ومن واجب علماء الأمة أن يرتقوا بمستوى وعي العامة وان يخاطبوهم بما ينمي في عقولهم الموازين الصحيحة، وان يعلموهم أدب الحوار وأدب الاختلاف، وان يعلموهم احترام الحق حيث كان، والاحتكام لحكم الشرع كما يراه الشرع من غير زيادة متكلفة أو ورع يخالف منهج الدين أو يضيق الخناق على المصالح المشروعة للعباد..

ويبرز دور المعاهد العلمية في ترسيخ القيم الإسلامية الصحيحة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، والنهوض بمستوى الخطاب الديني لكي يكون أداة لنهضة المجتمع الإسلامي، والنهضة هدف منشود وغاية مرجوة، ولا يستقيم أمر هذه الأمة إلا بتوفير أسباب نهضتها الثقافية وتعميق وعيها بقضاياها الاجتماعية، وان تكون اختياراتها صحيحة وسديدة وهي مؤشر على مستوى تقدمها الحضاري..

وطالما أن معاهدنا العلمية الإسلامية لا تملك التصور السليم لدورها الثقافي والحضاري في تحقيق شروط النهضة فمن الصعب علينا أن نتوقع منها أن تسهم في تحقيق النهضة المرجوة، وأول خطوة في ذلك أن تعطي الحرية لهذه المؤسسات بعيدة عن الوصاية لكي تعبر عن ذاتيتها وفكرها كما تراها هي وليس كما يراد لها أن تراه..

ولا بد لجيلنا من ممارسة حقه في الحرية، وان تكون الحرية من المقدسات التي يعترف بها المجتمع، ويحترم من يمارسها بأخلاقية، وألا يكون هناك خوف في الأعماق سواء كان حقيقيا أو متوهما من هذه الحرية.. فالمجتمعات التي يسكنها الخوف تنجب أجيال العبودية وتنتج قيم العبودية، والفكر الذي يجسد معاني العبودية… والعبودية ليست مجرد عبودية الرق كما كانت في القديم، وإنما هي عبودية القبول بما ينافي الكرامة الإنسانية، فالاستسلام ليس مجرد موقف وإنما هو حالة نفسية تنتجها تربية خاطئة منذ الطفولة، وتغذيها قيم فاسدة متوارثة وتؤكدها قابليات اجتماعية لترجيح المصالح في مواجهة الأزمات..

إننا لا نحتاج في عصرنا هذا إلى مزيد من الجامعات والمعاهد والمدارس وإنما نحتاج إلى منهجية تربوية تعلم طلابنا القيم الإنسانية العالية، وهي قيم الإسلام الأصيلة كما جاءت في القران الكريم لا كما سجلها الموروث الثقافي لهذه الأمة، والقيم الأصيلة تصقل الشخصية العلمية وترتقي بمستوى إدراكها لقضايا المعاصرة، فتوفر أسباب النهضة من خلال التركيز على أهمية تكوين الإنسان كما يجب أن يكون عليه.

لقد تعلمت الكثير مما كنت احتاج إليه، تعلمت من طلابي ومن تجربتي في البحث ومن مشاركتي في النشاط الثقافي العام الكثير من الرؤية الواقعية للمجتمع..

ربع قرن تقريبا في الإدارة أمدتني برؤية واسعة، سواء في مجال البحث العلمي أو في مجال الحياة العامة، قد تكون صلتي بمجتمع النخبة أكثر من صلتي بمجتمع الأحياء الشعبية، إلا أنني كنت احرص على متابعة ما يجري في تلك الأحياء من تفاعلات، وما تشكو منه من آلام.. ولا يمكن إغفال هذه الأحياء وتجاهل ما يجري فيها، لأنها القاعدة الشعبية التي تفرز الفكر المتطرف الذي يهدد الأمن الاجتماعي، ولول السليمة وومدانكوقيم، إلا في حالات المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الأجنبي وفي حالات الدفاع عن الحقوق المشروعة، ولا يبرر الاعتداء على الأبرياء أبدا ومهما كانت الظروف، إلا في حالات الضرورة القصوى لدفع مفاسد خطيرة يجمع الحكماء والعقلاء على إستثنائها من القواعد العامة.

كانت الحقبة المغربية حافلة بالأحداث الجسام على مستوى العالم العربي، وكنت أعيش هذه الأحداث بعقلي وعواطفي، واعبر عن مواقفي من خلال نشاطي الثقافي العام، في المحاضرات العامة وفي المؤتمرات والندوات أو فيما كنت اكتبه في المجلات العلمية والصحافة الدولية، وكتبت مئات البحوث والمقالات نشر بعضها في كتب عديدة، خصصتها لنشر البحوث والمقالات، أو فيما كنت انشره في مجلة دار الحديث الحسنية أو مجلة الأكاديمية المغربية ومنشوراتها، أو المجلات الأخرى..

فقد نشرت أكثر من أربعين مقالة في جريدة الشرق الأوسط التي تصدر في لندن وجريدة الرأي العام التي تصدر في الكويت، ونشرت بعض هذه المقالات في كتاب سميته “قضايا معاصرة” وهي مقالات ذات صبغة اجتماعية وسياسية وثقافية، كتبتها في مناسبات عدة، وتناولت فيها مشاكل قائمة، قضايا الإرهاب، وحق تقرير المصير، والأمن الثقافي، والمقاومة المشروعة، وعدوان إسرائيل الدائم، والحرب العراقية الإيرانية، وغزو الكويت، وسياسة الهيمنة الدولية، وقضايا التنمية والتربية، ومسؤولية الجامعات الإسلامية، والوحدة المذهبية، ومشكلة الصحراء المغربية، والإصلاح المنشود في العالم العربي، والمشروع الإسلامي وقضايا الشورى، وقضايا المغرب العربي.

لم أكن أهاب الكتابة في الموضوعات المعاصرة، كنت اشعر بمسؤوليتي كمواطن ينتمي لهذه الأمة، ولا بد من الإسهام بجهده وقلمه في بيان ما يؤمن به، لم يكن يشغلني البحث العلمي عن المشاركة في الكتابة الصحفية، هناك صوت داخلي يلح علي أن اكتب أداءً للأمانة..ولم تكن هذه الكتابات لتضيف شيئا،

ولكنه شعور بالمسؤولية، كلمة تقال في الزحام، تعبر عن ذاتيه المتكلم وهي أفضل من الصمت على وجه اليقين…

كان يحزنني أن أرى صمت العقلاء وضعف الحكماء وسذاجة الحكام ونفاق العلماء وغفلة الأغنياء وبؤس الفقراء، وكنت أرى من بعيد السفينة تغرق في وسط المحيط، ولا احد يصغي لصفارات الإنذار وهي تعطي إشارات الخطر..

حروب متواصلة، وانتهاكات لحقوق الإنسان وكرامته وسياسات قمع وإذلال، وثروات الأمة تنفق بغير حياء على مظاهر البذخ والترف، وبؤساء وفقراء يبحثون عن العمل فلا يجدون ما يلوح لهم بالأمل، ما أقسى ما تواجهه هذه الأمة، وما أقسى ما ينتظر جيل الأبناء والأحفاد، وقد تركنا لهم تراثا سيئ السمعة من مواقفنا…

كنت ارقب من بعيد وأنا على ضفاف الأطلسي في أقصى الأراضي العربية ما يجري في المشرق العربي من أحداث مؤلمة، اتفاقية كامب ديفيد المذلة، غزو إسرائيل لعاصمة لبنان، الحرب العراقية الإيرانية المخجلة، غزو العراق لدولة الكويت، وحرب الخليج الأولى وما أعقبها من آثار مدمرة..

أصبت بحالة اكتئاب شديد، تذكرت مرابع الطفولة ورأيت جدران منازلنا تتساقط وتتهاوى، أليس الشرق العربي هو ارضي ويسكن فيه أهلي، ألا يؤلمني ما يؤلمهم، ويحزنني ما يحزنهم، ألا يفرحني أن افخر بهم..

ما أقسى ما كنت اشعر به، كنت أراهم من بعيد فأرى السفينة تهتز وتتمايل، لم أنس انتمائي المشرقي قط.. كنت دائم التفكير، وارى من بعيد السحب الداكنة القاتمة العابسة تقترب من شواطئنا. وتهدد ارض بلادنا، وتذل شعبنا وتخيفه وتمارس عليه أبشع أنواع الإرهاب، وهو إرهاب حقيقي لا يهدد امن فرد أو حي أو سوق تجاري، وإنما هو إرهاب يخيف المجتمع كله، ويخيف سلطته وجيشه ورجاله ونساءه وأطفاله، ويدمر كل مظاهر الحياة في المدن والأرياف، ويترك البلاد أشباحا شاحبة حزينة…

ذلك هو الغزو الصليبي بأسوأ صوره الوحشية، انه يأتي بأساطيله البحرية وطائراته العملاقة، وصواريخه المدمرة ويحمل في يديه شعارات الحرية والديمقراطية، ويصدقه الأغبياء وأصحاب المصالح، وينحني له رموز السياسة خائفين، وترحب الصحافة المأجورة بقدومه الميمون، ويساومه الحكام على كراسيهم ومراكز نفوذهم وأموالهم المودعة في خزائنه المصرفية، ويقف شعبنا الأعزل مقهورا مستذلا، كنت أقرأ التاريخ وأتعلم منه دروسا ضرورية، وكأن التاريخ يعيد نفسه، واكتشفت ما أسعدني، وتعلمت أن الشعوب الحية التي تقاوم ولو بالحجارة أو بأسنانها أو بدعاء المستضعفين والأطفال والنساء لا تقهر أبدا، لأن المقاومة هي رفض للواقع في سبيل الحرية، وهو ارث الآباء للأبناء والأحفاد، وعندما يضيق الغزاة بتضحياتهم ولا يحققون السعادة المرجوة تضعف مقاومتهم وسرعان ما يملون حياة المشقة، لأنهم يفقدون الحوافز التي تدفعهم للتضحية، أما المقاومون من أهل الأرض فلا ينامون، لأن عيونهم تظل مفتوحة ونفوسهم قلقة وملامحهم غاضبة، وعندما يشعرون أن عدوهم قد أخذته سنة من النوم بعد ليلة مترفة سرعان ما ينقضون عليه، ويخرجونه من أرضهم صاغرا مدحورا..

قرأت خلال الحقبة المغربية كثيرا عن تاريخ المغرب وجهاد أبنائه في مواجهة الصليبية المتجددة، وتعلمت من جهاد المغاربة الأقدمين دروسا في المقاومة، ورأيت كلمة الجهاد ما زالت حية، واكتشفت دور العقيدة الإسلامية في حماية الشخصية المغربية المستغلة، وفي إبقاء شعلة الجهاد والمقاومة متوهجة، زيتها هو ذلك الشعور الإيماني العميق، دفاعا عن الدين..

رأيت معاقل المجاهدين في المساجد، وحصونهم في الزوايا الدينية التي حملت راية الجهاد، وسمعت عن قبور أبطال الجهاد وقد تحولت إلى أضرحة يؤمها العامة ويتباركون بزيارتها.

ونما في كياني الشعور بقدسية المقاومة، وحماية أرضنا من كل غزو يهدد حرية المواطن وسلبه حقا من حقوقه الإنسانية، لا شي كالحرية يستحق أن تراق الدماء لأجله، لأن الإنسان ليس هو ذلك الجسد المادي، وإنما هو كيان إنساني، يعقل ويشعر ويتألم ويحزن، و يؤلمه كل ما ينتقص منه، ولا شيء كالحرية وهي كالهواء والغذاء، وكما يقاتل الإنسان بحثا عن أسباب وجوده واستمراره، فكذلك يجب أن يقاتل حماية لكرامته..

لم يعد ما اكتبه يقنعني، أصبحت أضيق بما كتبته من قبل، ليس المهم أن نكتب، وإنما المهم أن تكون لنا رسالة ندافع عنها وهي الإنسان، هو القضية الأولى والأخيرة، سنغادر الحياة يوما كشأن السابقين، وسيفنى ارثنا من بعدنا، وسيفضي إلى غيرنا، أما الإرث الذي سيبقى هو ذلك الإرث الذي نضيفه إلى تراث الإنسانية دفاعا عن القيم العالية، واهم ذلك التمسك بقيمة الحرية ولا حياة بغير حرية، والدين الحق هو الذي يرفع لواء الحرية ويتحرر المستعبدين من أفراد وشعوب، ولا ثقافة أسمى من الثقافة التي تعلم الإنسان قيم الحرية..

هذه هي رسالة العلم، وهذه هي مهمة العلماء، والمنبر الذي لا يعلي من شأن الحرية ولا يسهم في تحرير الإنسان من العبودية لا قيمة له، والثقافة التي لا تسهم في تحرير الإنسان من عبودية الجهالة والتخلف لا توفر للمجتمع أسباب التقدم والرقي..

( الزيارات : 2٬014 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *