ظاهرة الدروس الحسنية ..دلالة حضارية

الدكتور محمد فاروق النبهان يلقى درساً أمام الملك الحسن الثاني فى الرباط عام 1995 م

الدكتور محمد فاروق النبهان يلقى درساً أمام الملك الحسن الثاني فى الرباط عام 1995 م

الدروس الحسنية هي التي غيرت مسار حياتي، وهي ظاهرة مفرحة بالنسبة لكل من حضرها أو شاهدها أو سمع بها، أما بالنسبة لي فهي المنعطف الأهم في حياتي، انتقلت بسببها من المشرق إلى المغرب، ولولاها لما كانت هذه الحقبة في تاريخ حياتي، وربما كانت حياتي تسير وفق مسار آخر لا اعرفه ولا يمكن أن أتوقعه..سمعت بالدروس الحسنية كما سمع بها غيري، وحضرت مجالسها الرمضانية لمدة ثلاث سنوات متوالية و شاركت فيها ، كانت المشاركة الأولى عام 1973م بحكم الصدفة، ولولا أنني حملت على  هذه المشاركة لما شاركت، ولم أكن اعلم ما تخبئه الأيام لي بعد ذلك، لو خططت لذلك بكل طاقتي لما استطعت أن اخطط لما وقع بعد ذلك، كنت مسوقا لكل خطوة وكأنني أنفذ مخططا مدروسا بعناية، هذه هي إرادة الله، أرادت لي ما كان، لحكمة لا اعلمها ولا يعلمها من اعد لهذه الرحلة..

مجرد لقاء عابر في الكويت مع الأستاذ محمد مكي الناصري العالم المغربي والرجل الوطني ورئيس حزب سياسي، كان وقتها وزيرا للأوقاف والثقافة، كنت في مقتبل العمر وأشارك في مؤتمر لوزراء الأوقاف في الدول العربية، التقينا في رحاب المؤتمر، حدثته عن المشرق وهمومه وقضاياه وحدثني عن المغرب وآماله وتطلعاته..

كنت في الثانية والثلاثين من عمري، وهي المرحلة الأهم في حياة الإنسان، مرحلة التوثب والقلق والانفعال، استشارني في أمور كثيرة، ولم أكن اعلم منه بما استشارني به، كان يملك الحكمة وسعة الفكر والتجربة الغنية، لقد رأى في شيئا لم أجده في نفسي، لعله أحسن الظن بي، فما كنت املك سوى الصدق في العبارة لعل هذا ما لفت نظره، ولما دعاني للمشاركة في الدروس الحسنية ترددت في قبول الدعوة، وكدت أن اعتذر، فالمغرب الأقصى بعيد بعيد.

ووجدت نفسي على غير إرادة مني اقبل الدعوة وأغادر الكويت إلى الرباط عاصمة المغرب، للمشاركة في الدروس الحسنية، كنت الأصغر سنا بين الحضور، والأقل تجربة وعلما، ولم أتوقع أن أجلس في الصف الأول أمام الملك إلى جانب باقة مختارة من كبار علماء العالم الإسلامي، الأستاذ علال الفاسي  والشيخ محمد مكي الناصري والشيخ عبد الله كنون رئيس علماء المغرب والشيخ عبد الواحد العلوي عميد كلية الشريعة بفاس والشيخ الرحالي الفاروقي المحدث المغربي الكبير، والدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر والأستاذ محمد المبارك عميد كلية الشريعة بدمشق والشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية، والشيخ موسى الصدر الزعيم الشيعي المعروف، والشيخ محمد الغزالي العالم المصري الكبير..

لو خيرت لما اخترت المشاركة في هذه الدروس، لهيبة هذه المجالس وضخامة المسؤولية الملقاة على عاتق المتكلمين فيها، وليس هناك اشق من الحديث أمام ملك المغرب الحسن الثاني المعروف بهيبته والمتمكن من العلم..

عندما أوقف الملك الدروس بسبب قيام حرب أكتوبر طلب مني أن ألقي درسي أمامه، وزاد ذلك من حرجي، وهناك من هو أولى مني بهذا الاستثناء، وهو تعبير عن التكريم، وتكلمت لأول مرة في هذه الدروس عن الاقتصاد الإسلامي، ثم تكلمت عن منهجية التجديد في الفكر الإسلامي، واقترحت على الملك إنشاء مجمع فقهي غايته دراسة القضايا الفقهية المعاصرة بعقلية اجتهادية متفتحة تراعي المصالح الاجتماعية وتحترم المقاصد العامة للشريعة..

بدأت ملامح السرور على وجه الملك، وعندما انتهى الدرس أعرب الملك  عن سعادته بما سمع، واخذ يستفسرني عما قلته من أفكار ، واستعداده لتبني هذه الاقتراحات البناءة، كان كل الحاضرين من وزراء وسفراء وعلماء وكبار رجال الدولة يرقبون هذا الحوار باهتمام كبير، لم أكن اعلم ما يعنيه ذلك في نظر المغاربة..

كل المغاربة يرقبون حركة الملك باهتمام بالغ، ما يفعله هو نقطة الانطلاق لهم، ما يحبه يحبونه، وما يكرهه يكرهونه، إنهم يثقون بالملك ثقة لا حدود لها، انه الرمز الكبير، لا احد يتحدى إرادة الملك، ولا احد يملك شرعية أقوى من شرعيته، انه الإمام وأمير المؤمنين والملك والرمز الوطني والمؤتمن على المغرب، وعندما يقع الاختلاف بين المغاربة في أي أمر من الأمور يحتكمون إليه، ويركنون إلى حكمه، وهو بذكائه يجيد فهم العقلية المغربية، ويعرف كيف يصل إلى قلب كل مغربي..

لا أحد يفهم طبيعة المجتمع المغربي مثل ملك المغرب، انه يحسن فهم ما يريدون، ومهما ارتفعت أصوات المعارضين سرعان ما يحتكمون إلى حكمة الملك، انه يمسك المقود بذكاء، ولا يسمح لغيره أن يمسك مقود السلطة إلا بإرادته، ومن خصوصياته انه لا يلجأ للقوة في ممارسة حكمه، ويمارس الحكم بذكاء، ويستوعب المعارضين ويتسع صدره لتجاوزاتهم وانفعالاتهم، ولا يضيق بطموحاتهم المشروعة في ممارسة السلطة، وتولي المناصب القيادية، ولا يلجأ أبدا لسياسة الانتقام والإذلال وبخاصة بالنسبة للقيادات السياسية المعروفة بمواقفها الوطنية..

بعد ذلك الدرس الذي ألقيته أمام الملك وما تركه من آثار جانبية مريحة، انفتحت الأبواب أمامي على مصراعيها، وتلقيت دعوات كثيرة لإلقاء محاضرات في معظم المدن المغربية،  وأصبحت استقبل كثيرا من الشخصيات المغربية، وتعرفت على شخصيات بارزة من أمثال الحاج محمد باحنيني الوزير القوي وصاحب النفوذ، واحمد بنسودة مدير الديوان الملكي، والسيد الداي ولد بابا وزير التربية الوطنية، والشيخ عبد الرحمان الدكالي شاعر الملك، وعبد الهادي بوطالب المستشار الملكي والسياسي البارز، وعبد الوهاب بنمنصور مؤرخ المملكة، وعبد الله كنون الأمين العام لرابطة علماء المغرب وعشرات غيرهم..

أحببت المغرب وأحبني، هذا ما شعرت به عندما غادرت المغرب بعد زيارتي هذه الأولى، حملت معي وفي قلبي الكثير من العواطف والذكريات، ربما لم يحملها احد من قبل، تلقيت بعد عودتي عشرات الرسائل من أصدقائي المغاربة.. وكلهم يثني ويمدح ويدعوني لتكرار زيارتي للمغرب، أصبحت صديقا للمغرب ومحبا له ولكل مغربي، وبدأ اهتمامي بالمغرب يتزايد، تاريخه تراثه أعلامه قضاياه..

لم يكن هناك احد يملك ما يملكه الملك من قدرة فائقة على تكوين صداقات، كان يشعرني بالمحبة والرعاية وكأنه قريب منك، ويشعرك بمكانتك في نفسه وكأنك الصديق المقرب إليه، فلا تملك إلا أن تحبه وتبادله العواطف.

هذا هي قصتي مع الدروس الحسنية، كانت البداية لمنعطف كبير في حياتي، ما زلت مدينا لها، وكانت الدروس هي أجمل مناسبة في حياتي، لم انقطع عن أي درس منها منذ ذلك الدرس الأول إلى نهاية عهد الملك الحسن الثاني، وهي مدة تزيد عن سبع وعشرين سنة، وحضرت قرابة خمسمائة درس، وألقيت سبعة دروس فيها..

كانت الدروس هي الجامعة الرمضانية المفتوحة، وكل المغاربة يتابعون هذه الدروس بعناية، ويستفيدون منها ويناقشون أفكارها وما يرد بها من أراء، ولم يكن احد يتخلف عن متابعتها إلا بعذر، ثم يجري الحوار بين أفراد الأسرة حول هذا الدرس أو ذاك..

واشتهر ملوك المغرب منذ قرون بتنظيم دروس الحديث في القصر الملكي، ويحضر هذه الدروس كبار علماء المغرب، ويقرؤون صحيح البخاري ويتبارون في شرح معاني الألفاظ ودلالتها، كما كانوا يتبارون في بيان سند الحديث والتعريف برواته، وكان الملك يرأس هذه المجالس الرمضانية ويشارك أحيانا في الحوار ويرجح ما يراه اقرب للصواب، ثم يختم صحيح البخاري بما ختم به البخاري صحيحه في ليلة السابع والعشرين من رمضان ، وتتوقف الدروس بعد ذلك، وقد أحيا الملك الحسن الثاني هذا التقليد الأصيل، وأصبح يرأس هذه المجالس التي كان يدعى لها كل رجال الدولة، من وزراء وسفراء وعلماء وكبار الضباط وكبار الشخصيات العلمية والرسمية، ثم أصبح يدعي لهذه المجالس كبار علماء العالم الإسلامي، ولم تعد الدروس خاصة بالعلماء، وإنما أصبحت عامة تنقلها وسائل الإعلام، الإذاعة والتلفزيون والصحافة المغربية، ولذلك سميت بالدروس الحسنية، وكانت تسمى قبل ذلك بالمجالس العلمية السلطانية، وشجعت احد الطلاب أن يعد أطروحة عن هذه المجالس السلطانية كما كانت في عهد الملوك المغاربة، وطبعت هذه الأطروحة، التي درست تاريخ هذه المجالس ومدى إسهامها في إثراء الفكر الإسلامي والتأكيد على أهمية الاعتزاز بالثقافة الإسلامية..

لا أنكر أن هذه التظاهرة الثقافية أثارت إعجابي في أول زيارة لي إلى المغرب، رأيت كرامة العلم والعلماء، أثلجت هذه التظاهرة الثقافية صدري، تذكرت مجالس الخلفاء السابقين في عهد الدولة العباسية، وبخاصة في عهد الخليفة المأمون، ومناظرات العلماء والالتزام بأدب المناظرة..

عندما عدت إلى الكويت بعد زيارتي الأولى للمغرب أجرت جريدة الرأي العام الكويتية مقابلة صحفية معي ونشرته بعنوان كبير: “مجالس الخلفاء تظهر في المغرب” وتكلمت الجريدة عن المشروع الذي اقترحته على الملك وهو إنشاء مجمع الفقه الإسلامي، وظهرت لأول مرة في صحافة المشرق العربي صورة المجالس الحسنية كما هي..

ربما كانت الدروس الحسنية بما كانت تشير إليه وتعبر عنه من اعتزاز ملوك المغرب بالثقافة الإسلامية هي العامل الأهم الذي لفت انتباهي إلى ما ينطوي عليه التراث المغربي من أصالة في التقاليد..

من منا لا تثيره هذه المجالس الرمضانية، ومن منا لا يشعر بفرحة واعتزاز بأصالة هذا التقليد ودلالته، إن شعبنا يحتاج إلى إحياء هذه العادات الأصيلة التي تذكرها كتب التاريخ ونحسبها أحيانا وكأنها مبالغات يراد بها تحلية تاريخنا بروايات متكلفة…

ليس عيبا أن نحيي تراثنا الأصيل إذا كان ذلك التراث مما يشعرنا بالاعتزاز، ويجسد قيما أصيلة، ويجب أن يفخر حكامنا بمجالس العلم، وان يتنافس العلماء في الفهم والتفسير والاجتهاد، وان يرفع العلماء رؤوسهم اعتزازا بعلمهم..

لقد ضاقت صدورنا بالوصاية المفروضة على العلم والعلماء، وملت آذاننا سماع أصوات العلماء وهم يمجدون الحكام ويتملقون لهم بالمدح المتكلف الذي تضيق الصدور به، طمعا في شيء أو رهبة، وليس بهذا تعلو رتبة العلماء في نظر العامة..

نريد كلمة الحق التي تقال للحكام، أداءاً للأمانة، نريد الكلمة الناصحة الصادقة التي تشعر الحكام بمسؤوليتهم أمام الله، ولا مانع من دعوة صادقة بالتسديد..

ومن الخطأ أن نضع أنفسنا بين خيارين إما التزييف والتملق والنفاق وإما النقد الجارح المحبط لإرادة الخير، وليس بالتملق يكون الخير وليس بالشتم يكون الإصلاح..

ولا بد في النصيحة الصادقة من الالتزام بأدب النصيحة وأهمها اختيار الكلمة الطيبة المعبرة المشجعة التي تنشرح القلوب لسماعها، فلا احد يرفض النصيحة الصادرة من الحكماء والعقلاء والتي يراد بها الخير والدالة على الطريق الصحيح..

والكلمة الطيبة تنشرح لها القلوب، وتجد موقعها في الأرض الخصبة، وسرعان ما تنبث بذورها إرادة الخير التي تثمر ما يؤكل من الطيبات..

شاركت سبع مرات في الدروس الحسنية، وكنت سعيدا بذلك، تحدثت فيها عن أهم القضايا الفكرية التي كانت تشغلني، كنت اختار الموضوع المعبر عن قضية فكرية، وكان كل موضوع يثير حوارا وأحيانا غيارا..

لم أكن أتحرج من طرح أي موضوع كان يشغلني، وكان الملك ينصت باهتمام، وأحيانا يعلق على الدرس كما حدث في الدرس الرابع عام 1978م عندما تحدثت عن الثقافة الإسلامية والدور المنتظر من دار الحديث، وكنت أتطلع إلى تجديد المناهج الثقافية بالمعرفة الإنسانية، والتخطيط للنهوض بمستوى الثقافة..أسعدني تدخل الملك بعد الدرس، شعرت وكأنه يساندني، كنت بحاجة لتدخله، وكأنني كنت احتكم إليه، كنت اعلم جيدا أن الملك يريد النهوض عن طريق تجديد المناهج الثقافية وتحديث المناهج لكي تكون مواكبة لمسيرة المجتمع، وليس من اليسير اقتحام المخادع الآمنة التي يحتمي رموز الثقافة التقليدية فيها من غير مقاومة، ومن الخطأ أن نفترض أن الثقافة الإسلامية لا تقبل الجديد وليست مهيأة لمواكبة التطورات الاجتماعية المعاصرة، ولا بد من الجديد في مجال الفكر والثقافة، بحيث تعبر الثقافة عن وعي الإنسان وقضاياه..

( الزيارات : 2٬095 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *