مشاركاتى فى الدروس الحسنية

الإنسان متجدد، والثقافة هي وليدة الإنسان، ولكل عصر ثقافته وعطاؤه، والأجيال المتعاقبة تسهم في اغناء الثقافة بما يجعلها حية معطاءة..لم أختر موضوعات دروسي في المجالس الحسنية عبثا، كنت أفكر فيها من قبل، وأعدها بذهني، وأركز أفكارها وما يجب أن يقال فيها، كانت هذه الدروس هي المنبر الأهم والأعلى صوتا، وما يقال في هذه الدروس يسمع ويسجل ويناقش ويجري تداوله، وهذا هو المطلوب، كنت أعلم أن ما نقدمه في المحاضرات العامة والمؤتمرات سرعان ما يموت بعد حين، ولا يترك أثرا، ربما تحييه الأجيال المقبلة إذا اطلعت عليه، أما ما يلقى في مجلس الملوك فلا يموت إلا إذا كان لا قيمة له من الأساس، ولا يضيف شيئا ولا يعالج مشكلة ولا يخاطب مجتمعنا بما يحتاج إليه..

خلال سبعة دروس طرحت أهم أفكاري التي كنت اعتبرها جديدة أو هامة أو جديرة بالحوار أو مثيرة للتساؤل، لم تكن دروسا تقليدية وليست تقريرية، ولم تكن غايتي منها عرض المعلومات، وإنما طرح قضية، أحيانا كانت تطرح الفكرة وتفهم وتصل إلى العقول، وأحيانا لم تكن تدرك في حينها، وقد تدرك فيما بعد إذا شرحت الفكرة ونشرت.

لو استعرضت أهم أفكاري لوجدت معظمها قد أشرت إليه في هذه الدروس، أو لعلي قد وجهت اهتمامي إلى الأفكار فيما بعد أكثر من غيرها..

الدرس الأول: ” ملامح الفكر الاقتصادي في الإسلام”

هذا هو الدرس الأول والأهم، وهو الدرس الذي ألقيته في رمضان عام 1973م وقد اشتمل على ثلاثة أفكار رئيسية:

الفكرة الأولى : عرض ملامح الاقتصاد الإسلامي كفكر إنساني يرتقي بمستوى اهتمامات الإنسان وسلوكياته، انطلاقا من تحديد مفهوم الحق الذي يملكه الإنسان لحماية مصالحه التي يعترف بها الشرع ويمنحه بسبب ذلك الاعتراف سلطة يمارس بها حقه على ما يملكه من حقوق أو أموال أو ملكيات، والتركيز على أهمية الطبيعة الاجتماعية لأي حق من الحقوق بحيث لا يجوز إغفال حق المجتمع في ممارسة الحقوق الفردية، والطبيعة الاجتماعية تحدد طبيعة الحقوق وتقيد علاقة الإنسان بماله، وتعترف بحق المجتمع في ممارسة رقابته على الأموال والملكيات والسلوكيات عن طريق السلطة المؤتمنة على حماية المصالح الاجتماعية، ولا حدود لحق المجتمع في تقييد الحقوق الفردية حماية لقيم أخلاقية وإنسانية أكثر أهمية، جلبا لمصالح عامة أو درءا لمفاسد ضارة، فالسلطة الشرعية المؤتمنة على المصالح العامة والتي تملك سلطة التفويض عن المجتمع مطالبة بالتدخل وتقييد الحقوق الفردية وإعادة النظر في السلوكيات والنشاط الاقتصادي في مجال الاستثمار والأموال والضرائب والاستهلاك والأجور و الإشراف على جباية الزكاة بشرط أن يكون الدافع إلى هذا التدخل هو حماية مصالح اجتماعية عامة يعترف بها الشرع، وان يكون التدخل عاقلا وعادلا ومنصفا وخاليا من الأحقاد الطبقية ولا يحقق مصلحة خاصة لرمز السلطة، وأن يكون التدخل مما يرتضيه عقلاء الأمة ولا يؤدي إلى ظلم يحرمه الدين…

الفكرة الثانية: الدعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي وإعادة الحياة إلى تراثنا بالإضافة المتجددة إليه، وإحيائه بالفكر والجهد العقلي، وإغنائه بجهود الأجيال المتعاقبة، ما كان منها وما سيكون، وعدم التوقف، ورفض ظاهرة الجمود والتوقف وتشجيع المناهج الاجتهادية السليمة، وإحياء دور مجالس العلم التي تثري المعرفة، والثقة بما تراه العقول وما ترتضيه من أفكار وأراء واجتهادات، وعدم الاستسلام لظاهرة التقليد التي أدت إلى الجمود، والنهوض بمستوى الإنسان وتعميق وعيه الثقافي، وتشجيع المناهج العقلية في التفكير، ومراعاة المقاصد الشرعية التي تراعي المصالح الاجتماعية، وتفسير النصوص بما يحقق روح النص وأهدافه المرجوة..

الفكرة الثالثة: اقتراح إنشاء مجمع فقهي عالمي تجتمع في رحابه طائفة مختارة من علماء الأمة المتمكنين ومن ذوي الدراية والنظر السليم، الذين لا يجاملون حاكما في موقف حق، ولا يساومون على ما يؤمنون به، يخافون الله ويحتكمون إلى ضمائرهم، ويقدمون إلى مجتمعهم عصارة أفكارهم في قضايا عصرهم.

الدرس الثاني: ” معالم الفكر السياسي في الإسلام  “

وقد ألقيته في رمضان عام 1974م وكنت يومها أعد كتابي عن نظام الحكم في الإسلام، الذي طبعته جامعة الكويت عدة طبعات..

وقد تضمن هذا الدرس أفكارا ثلاثة:

الفكرة الأولى: التأكيد على أهمية مراعاة المبادئ الإنسانية التي يقوم عليها نظام الحكم، وأهمها الشورى في ممارسة الحكم، واحترام حقوق الإنسان الأساسية والتأكيد على أهمية مبدأ الحرية الإنسانية، وهذه المبادئ هي التي تعطي للحكم شرعيته، ولا شرعية لحكم لا يحترم مبادئ الإسلام، فالشورى تعني المشاركة في الحكم، واختبار الحاكم عن طريق أهل الحل والعقد، وهم أهل الاختيار والقرار، ولا شورى في ظل الأنظمة الفردية والاستبدادية، وليس المراد بالشورى مشاورة الحاكم لأعوانه وإنما أن يكون القرار جماعيا معبرا عن رأي الأمة، ولا شورى مع الاستبداد السياسي وتجاهل حقوق الإنسان المشروعة، ولا بد من الاحتكام لوثيقة دستورية ترتضيها الأمة وتلزم الحاكم باحترامها، والاستبداد مخالف لمنهج الإسلام في الحكم ويعطي الأمة حق الدفاع عن حقوقها السياسية.

الفكرة الثانية: التعريف بمفهوم البيعة الشرعية لا كما كانت في التاريخ وإنما كما يجب أن تكون، معبرة عن قرار الأمة واختيارها منشئة للشرعية، ومؤكدة معنى التعاقد المتبادل بين الأمة ومن تختاره، ولا بيعة مع الإكراه ولا شرعية لسلطة الاستيلاء، ولا طاعة لحاكم لم يلتزم بميثاق البيعة، وهي بيعة إرادية معبرة عن إرادة الأمة في حماية مصالحها.

الفكرة الثالثة: إدانة الأنظمة الفردية الاستبدادية، والاحتكام للإسلام لا يعني عدم وجود دستور ملزم للحاكم موضح لصلاحياته مقيد لسلطته، وأنظمة الاستبداد لا يحميها الإسلام وان استظلت بمظلته لإخفاء استبدادها، ومن حق الأمة أن تعلن عن إدانتها لكل الأنظمة الاستبدادية، ولا حدود لحق الأمة في دفاعها عن حقوقها المشروعة في الشورى الحقيقية والبيعة المنشئة للشرعية واحترام الوثيقة الدستورية من غير تحايل على نصوصها لحماية التجاوزات في مجال السلطة.

الدرس الثالث: “مفهوم الربا في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة”

وقد ألقي هذا الدرس في رمضان عام 1975م، ثم نشر في كتاب مستقل في المغرب، وقد تضمن هذا الدرس الأفكار التالية:

الفكرة الأولى: التأكيد على تحريم الربا لوضوح موقف القرآن في ذلك، ولا مجال للاجتهاد أو التشكيك في أمر التحريم، وهذا أمر لا يقبل النقاش.

الفكرة الثانية: اختلاف العلماء قديما وحديثا في تحديد مفهوم الربا كما ورد في القرآن، فما المراد به، هذه هي نقطة الخلاف في الأمر، وهو ما يجب أن يتجه إليه اهتمام الباحثين…

الفكرة الثالثة: الربا المحرم في القرآن هو الربا الجاهلي المعهود، وهو الذي كان شائعا في مجتمع مكة، وكان كبار تجار مكة يتعاملون به، وأكد القرآن أنه حرم الربا لكيلا ” تظلمون أو تظلمون” والظلم هو سبب التحريم وتحريم الربا هو لمنع الظلم في المجتمع، والمظلوم مستضعف لا يقوى على دفع ظالمه، ولذلك تدخل القرآن لحمايته وإلغاء الزيادة الظالمة المفروضة عليه، ولا إرادة لمستضعف في مجال العقود والالتزامات لأنه مكره، ولا يترتب على الإكراه أي اثر، ولا بد في العقود من إرادتين متساويتين في القوة وفي حالة الاختيار والرضا والوضوح..

الفكرة الرابعة: تحريم كل أنواع الظلم في العقود والتصرفات المالية، وتحريم عقود الإذعان التي تنتفي فيها الإرادة، ويختل فيها التوازن بين طرفين ليسا متساويين في القوة، في الأجور والبيوع والإيجارات والتبادلات، لاشتمال هذه العقود على الظلم الذي حرم الله الربا بسببه، واعتبار كل زيادة ظالمة أو ربح ناتج عن الاستغلال من الربا بالمفهوم اللغوي وهي الأرباح التي تأتي عن طريق الظلم..

الفكرة الخامسة: إعادة النظر في الأجور بحيث تكون الكفاية هي الأجر الأدنى للعامل، فلا اجر يقل عن الحاجة، والكفاية مكفولة ومضمونة بالوجود الإنساني، والعاجز تضمن له الكفاية وكذلك الطفل، والكفاية مضمونة للحيوان، والعاقل أولى بالكفاية ولا قيمة لعقود العمل الموقعة من الأجراء ولا تلزمهم بقبول ما دون الكفاية، وتجب إعادة النظر في هذه العقود، والنهوض بمستوى الأجور بحيث تكفي العامل لحياة كريمة يستغني فيها عن الآخرين، ولا يفتقر إلى أحد، ولا يصح إنسانيا أن يكون اجر العامل اقل من تكلفة طعامه ومسكنه، ولو تصورنا الإنسان آلة منتجة  لروعي في إنتاجها أن يغطي تكلفتها، فكيف  يمكن للإنسان الذي كرمه الله أن يكون جهده وعمله لا يكفيه لتلبية حاجاته الضرورية، ألا يعتبر ذلك مما يسيء للإنسان ويعبر عن خلل في الموازين والمعايير التي تتحكم في حياة المستضعفين من العمال والأجراء، وقد أوضحت رأيي هذا في بحث مستقل عن قيمة العمل كما يراها الإسلام في مؤتمر عقد في القاهرة نظمه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية..

مما كان يثير انتباهي ويشعرني بالسعادة أن الملك الذي كان يرأس هذه الدروس كان يسمع باهتمام لهذه الآراء والاجتهادات، وكان صدره يتسع لكل ذلك، ولا يضيق بما يمكن أن تثيره بعض هذه الآراء على الصعيد الشعبي من مطالب أو طموحات أو تأملات، وكنت ضيفا خلال هذه الدروس الثلاثة، وربما لم يكن يجرؤ أحد أن يطرح مثل هذه الأفكار في مجلس الملك، ولكن الملك كان يتقبل كل ذلك، ويكرر دعوتي في كل عام لإلقاء درس جديد، لعل الملك كان يلاحظ صدقي فيما أعرضه وكلمة الصدق تنشرح لها القلوب ويهيئ لها الله سعة في الصدور.

عندما بدأت استعيد ذكريات الماضي قبل ربع قرن أعجب من نفسي كيف كنت اقتحم هذه الموضوعات الشائكة، لماذا أتحدث عن نظام الحكم كما يجب أن يكون عليه وعن نظام الأجور كما يجب أن يكون عليه وعن حقوق الجماعة في الأموال والملكيات؟

الدرس الرابع: “منعطفات في مسيرة الثقافة الإسلامية”

وقد ألقي هذا الدرس في رمضان عام 1978م وهو الدرس الأول الذي ألقيته بعد استلامي إدارة دار الحديث، لم ألاحظ أنني لم أعد ضيفا عابرا، وإنما أصبحت مسئولا عن إدارة مغربية، فما كان يمكن أن يكون مقبولا في الماضي لم يعد مقبولا الآن، لقد اختلفت الظروف والنفسيات، وكان يجب أن ألاحظ ذلك وأكون على بينة منه، وأن ما يقبل من الضيوف العابرين لا يقبل من أهل الدار..

تكلمت بصراحتي المعهودة عن أمرين:

الأمر الأول: أزمة الثقافة الإسلامية في العصر الحديث، ولا بد من إحياء هذه الثقافة بالاجتهاد المتجدد، ولا يمكن للثقافة الإسلامية أن تواكب مسيرة الثقافة إلا بالنهوض بالمؤسسات الثقافية والتخطيط المحكم للنهوض بدور الثقافة في المجتمع، ولا يمكن الاكتفاء بإحياء التراث وطبعه من جديد، ذلك هدف ضروري، ولكن لا ينهض بالثقافة ولا يجدد معالمها ولا يضيف إليها الجديد من الأفكار، وانتقدت النظرة التقليدية التي تقدس التراث وتقف عند حدود الاهتمام بالماضي، وانتقدت أساليب وزارات الثقافة والتربية في تضييق الخناق على المفاهيم الثقافية والتخوف من الجديد من الأفكار، وطالبت بالاعتراف بدور المثقف في المجتمع وتوفير الحرية الواسعة للتعبير عن قضايا المواطن والمجتمع..

الأمر الثاني: طالبت بتكوين قيادات فكرية وثقافية ليست مهمتهم الوعظ والإرشاد وإنما تكوين عقلية واعية تنهض بالفكر وتؤدي دور التنوير، ولا بد من تشجيع ثقافة التنوير وليس ثقافة التجهيل، وهنا ركزت على دور دار الحديث الحسنية في تكوين هذه القيادات الفكرية وقلت الكلمة التي أثارت انتباه الجميع، وكنت أريد أن تصل إلى الملك، قلت  ” دار الحديث بين خيارين لا ثالث لهما إما أن تكون أو لا تكون” وسمعت صوت همهمات ناقدة في المجلس سرعان ما أسكتها الملك بإشارة منه، وبعد انتهاء الدرس تناول الملك الكلمة، وتحدث عن الآمال المعقودة على دار الحديث الحسنية وأكد أن دور دار الحديث الحسنية ليس تكوين الوعاظ والمرشدين، وإنما تكوين قيادات فكرية في مستوى ما عرفه تاريخ المغرب، وأكد على ضرورة تشجيع الاجتهاد في مجال الفكر والثقافة، وعبر عن سعادته لان دار الحديث الحسنية ما زالت حية وتدافع عن وجودها ورسالتها وما زالت دماء الشباب تجري في عروقها..

أسعدتني كلمة الملك، وفرحت بها، وأعادت إلي الابتسامة والأمل، وكنت أظن أنني أقول كلمتي الأخيرة بعد أن أصابني اليأس والإحباط، أدركت يومها أن الملك يريد هذه الدار بما يحقق طموحه، يريدها أن تكون شعلة عهده، وتحقق النهضة العلمية المرجوة، وكلمة الملك كانت مشجعة ودافعة، وكان علي أن أدافع عن هذه المؤسسة بكل طاقتي.. ولن يكون طريقي معبدا فهناك خصوم لا يريدونها أو يريدونها كما يتصورون.. وكنت أريدها أن تكون كما يجب أن تكون، مؤسسة لتكوين العلماء والباحثين، يعلون راية المغرب العلمية في المؤتمرات الدولية، ويغنون المكتبة الإسلامية بمؤلفاتهم وبحوثهم، ويضيفون الجديد إلى تراث السابقين.

كان البعض لا يريد هذه المؤسسة لكيلا تنافس بفكرها وعلمائها الفكر المشبوه الذي يهدف إلى إضعاف الثقة بالثقافة الإسلامية والتشكيك في مكانة تراثنا الإسلامي، وتشويه صورة القيم الإسلامية الأصيلة، وعزل رموز الثقافة الإسلامية..

بعد هذا الدرس أصبحت الصورة واضحة، والتف أنصار الثقافة الإسلامية حول هذه المؤسسة، واشتد الإقبال عليها، وأصبح علماؤها يحظون بكل التكريم في الأوساط العلمية…

ومن الإنصاف والوفاء أن نذكر في هذه المناسبة موقف الملك الحسن الثاني رحمه الله في هذه الأزمة القاسية، فقد كادت المؤسسة أن تغرق في الأوحال، وكانت على وشك الانهيار وكان رهاني صعبا، ولكن لابد منه، لإنقاذ هذه المؤسسة… ولولا ذلك الموقف لما بقيت المؤسسة على قيد الحياة، ولولا تأييد الملك لها وتشجيعه لمسيرتها ورعايته لأمرها لما استمرت… وكان يراد لها أن تكون ولا تكون في آن واحد، فهي موجودة بالفعل ولا يراد أن يكون لها وجود، ولما صدر بعد ذلك المرسوم الوزاري المنظم لشؤونها والذي يعترف بكل شهاداتها وعلمائها اقتحم أبناؤها من العلماء صروح الكليات الجامعية في كل المدن المغربية واثبتوا جدارتهم وتميزهم في مجال البحث والتدريس…

لم أتصور قط أن هذه الأزمة التي أعقبت هذا الدرس ستولد وضعا جديدا يتيح لي الفرصة لإعادة تنظيم هذه المؤسسة على أسس جامعية سليمة، وان أرى أبناء هذه المؤسسة يأخذون مواقعهم في معظم الكليات الجامعية، لا انتقد أحدا ممن وقف في وجهي في تلك الفترة، لعلهم كانوا يظنون أنني احلم ويصيب فكري الجموح، وان ما أفكر فيه لا يحتاج إليه المغرب، وهذا صحيح فالمغرب لا يحتاج إلى مزيد من المؤسسات وإنما يحتاج إلى نوعيات جديدة من المثقفين والعلماء القادرين على توفير ظروف النهضة الثقافية وبخاصة في مجال التربية الإسلامية…

ولا ينبغي أن نخاف من العلم أو الثقافة أو الحرية الفكرية أو الديمقراطية، وإنما يجب أن نخاف من الجهل بالثقافة الإسلامية، لان الجهل ينتج الفكر المريض العابث الذي يشوه القيم الأصيلة ويجعلها أسيرة رؤيته القاتمة المرعبة.

 الدرس الخامس: “أثر الفضيلة في تقييد الحقوق المشروعة”

وقد ألقي هذا الدرس في رمضان عام 1986م، ونشر ضمن كتاب بعنوان “الفكر الإسلامي والتجديد” وحاولت في هذا الدرس أن اعرض الأفكار التالية:

الفكرة الأولى: تحديد معنى الفضيلة وهي الزيادة المؤدية إلى الكمال، والفضيلة وسط بين رذيلتين، وهي معبرة عن المصلحة الاجتماعية، وهي سلوك ايجابي، ولا يمكن للفضيلة أن تكون سلبية الأثر مصادمة لمصالح المجتمع، والفضيلة قيد في ممارسة الحقوق، ولا يمكن أن تمارس الحقوق بطريقة منافية للفضيلة، ولا شرعية لفعل يلحق الضرر بالمجتمع، وإباحة الشيء لا تعني انه يطبق بطريقة منافية للفضيلة…

الفكرة الثانية: لا يجوز لأحد أن يمارس حقه المشروع إلا في إطار الفضيلة، فان أدت ممارسة الحق لضرر أو اتصف الفعل بالظلم فهذا دليل على عدم رعاية الفضيلة في استخدام الحق، فالحقوق ليست مطلقة وهي مقيدة بالفضيلة والمصلحة الاجتماعية، ولا شرعية لظلم أبدا، فمن طلق زوجته فعليه أن يراعي الفضيلة في استعمال هذا الحق، ومن أراد أن يمارس حريته في النقد فعليه أن يراعي الفضيلة في ممارسة هذا الحق، وليس هناك حق مطلق، ولابد من مراعاة الطبيعة الاجتماعية والأخلاقية للحق لكي يكون حقا مشروعا لا ضرر فيه على المجتمع، وقد كان هذا الدرس هو بداية منعطف في حياتي العلمية، فقد اضطررت وأنا ابحث عن معنى الفضيلة أن أخوض في بعض المباحث الأخلاقية والفلسفية، واكتشفت عالما جميلا رائعا اتجهت فيما بعد إلى الاهتمام به، ولم أكن من قبل أعيره الاهتمام الكافي، وقرأت في هذه الفترة كتاب ابن مسكويه عن “تهذيب الأخلاق” وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، واكتشفت أن العلم متكامل، فان قرأت بعضه كانت معرفتك ناقصة، ولا بد من نظرة شمولية، ولابد من مراعاة الفضيلة في ممارسة الحقوق المشروعة، وإلا كانت سلطة الحق كسيف ظالم لا تراعى فيه القيم الأخلاقية، وهنا يكون الظلم تحت مظلة الشرعية المتوهمة، والشرعية لا يمكن أن تتجاهل الفضيلة.

الدرس السادس: ” العلاقة بين التفسير والتجديد في الفكر الإسلامي”

وقد ألقي هذا الدرس في رمضان عام 1987م، ونشر مضمون هذا الدرس في كتابي ” الفكر الإسلامي والتجديد”، وقد حاولت أن اطرح في هذا الدرس منهجية التجديد كما كنت أراها، من منطلق التفسير، والتفسير هو أداة التجديد، لأن المخاطب بالنص هو الإنسان وهو الذي يقوم بالتفسير، والمخاطب متعدد بحسب الأجيال، ويتجدد الخطاب بتجدد المخاطب، وهذا المخاطب هو وليد عصره، وهو ليس كغيره من المخاطبين، وتفسير جيل للخطاب لا يلغي حق الأجيال اللاحقة في التفسير، وإذا انطلقنا من هذا المنطلق كان التجديد منهجا حتميا.

وكنت في هذا المنطلق أريد أن أؤكد على الأفكار التالية:

الفكرة الأولى: التجديد أمر يستدعيه فهم النص، وهو أمر حتمي، والتجديد لا يعني تجاوز النصوص، وإنما هو إعمال النص وفهمه بما يراه المخاطب بالنص، وتفسير جيل لا يعتبر حجة لأجيال لاحقة، ولا يلغي حقها في قراءة النص وفهمه…

الفكرة الثانية: التأكيد على أثر البيئة الاجتماعية والمكونات النفسية في تكوين فكر المجتهد وبلورة استعداداته، وهذه البيئة والمكونات لا يمكن تجاهل أثرها في تكوين ملامح الفكر.

الفكرة الثالثة:  إشاعة الطمأنينة في النفوس أن التجديد في إطار التفسير هو الحد الأدنى الذي لابد من الأخذ به لمواجهة حالة الجمود في المنهج الاجتهادي، فالعقل هو أداة الفهم، والعقول متفاوتة في قدراتها وفي مكوناتها ومصالح المجتمع يجب رعايتها ولا يجوز إغفالها…

ومن المؤسف أن معظم مجتمعاتنا الإسلامية ما زالت تخشى من لفظة التجديد وتضيق بهذه الكلمة، وأحيانا تنادي بها طبقة النخبة المثقفة، وسرعان ما ترتد عنها وتستجيب لضغط العامة في حماية المعتقدات السائدة والأعراف القائمة، وهناك من يستظل بمظلة الفكر التقليدي إخفاءا لجهله أو حماية لمصالحه أو تقربا من العامة… 

الدرس السابع: “أثر التربية النفسية في تعديل الغرائز الفطرية”

وقد ألقي هذا الدرس في رمضان عام 1995م، ويعتبر هذا الدرس بداية تحول في طبيعة اهتماماتي الفكرية، ويبدو أن عكوفي على دراسة آراء ابن مسكويه والفكر التربوي عند الغزالي قد دفعني بعيدا عما كنت اهتم به من قبل، كنت قبل ذلك اكتب عن الفكر الاقتصادي والفكر السياسي ومفهوم الربا والحقوق ثم وجدت نفسي على أبواب الدراسات التربوية والنفسية، لقد شدني هذا الجانب ..ولعلي وجدت فيه ذاتي، لأنني بدأت أخوض غمار تجربتي الذاتية، بعد أن كنت اكتب عن غيري، لعلي أصبحت اشتاق لطفولتي الأولى حيث التربية الروحية والحوار الداخلي مع الذات..

وجدت من خلال تجربتي أن قضايا التربية والنفس أكثر التصاقا بحياتنا الخاصة، ومعرفة طبيعة النفس ومكوناتها يساعدنا على فهم سلوكنا بشكل أفضل، وسيقودني هذا بعد حين للاهتمام بالتربية الصوفية فكرا وثقافة وتجربة ومنهجية تربوية…

أعجبت بفكر الإمام الغزالي في كتابه الأحياء وهو يتحدث عن النفس والقلب والعقل، وقد أجاد وحلق في فضاء بديع من التصوير المحكم لاستعدادات ذلك الإنسان المجهول..

عندما تحدثت في هذا الدرس عن النفس والغرائز والمجاهدات والتغالب بين الغرائز والعقل، ودور العقل في السيطرة على غريزتي الشهوة والغضب أثار الموضوع اهتماما كبيرا، ولعلي في هذا الموضوع بدأت اتجه لما اتجه إليه الغزالي من الاهتمام بالقلب، واعتبار القلب هو أداة المعرفة بالله، فهو المخاطب والمعاتب والمعاقب وهو المقرب إلى الله وهو المحجوب عن الله…

بداية تحول لاحظتها في فكري واهتماماتي، وبدت واضحة في كتاباتي ومحاضراتي، وهي لاشك تحول إلى الأفضل في هذه المرحلة من حياتي، وازداد شوقي إلى ذلك الدفء الروحي كما كنت اشعر به في طفولتي.  

كل درس من الدروس التي ألقيتها في الدروس الحسنية كان بالنسبة لي مشروع كتاب، وعزمت أكثر من مرة أن اكتب كتابا في كل موضوع، ولكن الوقت لم يسعفني لفعل ذلك، واكتفيت بالكتاب الذي أعددته عن مفهوم الربا في ظل التطورات الاجتماعية المعاصرة، وقد أشرت الى هذه الموضوعات فيما نشرته فيما بعد من البحوث…

لم تتوقف الدروس في عهد الحسن الثاني بسبب مرض أو سفر أو انشغال سوى مرة واحدة في عام 1976م بسبب المرض، وكان يعطيها الأولوية ويفرح بها، ويشارك أحيانا في درس أو مناقشة أو يقترح شيئا، وكانت دار الحديث الحسنية هي صاحبة الحظ الأوفر في هذه الدروس، وكان علماء الدار يشاركون بفعالية وكفاءة في هذه الدروس…

كانت الدروس الحسنية هي الظاهرة الأهم التي هزت كياني عندما رأيتها لأول مرة، رأيت شيئا مثيرا وجميلا ورائعا، رأيت عظمة العلم وكرامة العلماء، رأيت عصر العباسيين ومجالس المأمون…

شيء رائع أن تخاطب الملك في قصره وأمام رجال دولته ووزرائه وشعبه، وتراه يصغي إليك ويسمع منك، ويثق باختيارك لأفكارك وانتقائك لعباراتك…

تمنيت من كل قلبي أن أرى هذه الظاهرة الأصيلة في قصور كل الملوك والأمراء والرؤساء، وان يجدوا شجاعة في دعوة العلماء للكلام في مجالسهم، ولو مرة واحدة في رمضان، أن هذا يسعد شعبنا على وجه التأكيد، ويخفف من مشاعر الإحباط في نفوسهم…

لقد اعتدنا أن نسمع حكامنا كلمات المدح والثناء واعتاد حكامنا على سماع ذلك، وضاق شعبنا بما يسمع من مبالغات في عبارات الإطراء والتملق، ولو التزمنا الجدية والموضوعية لكان لقاؤنا بحكامنا أكثر فائدة وهم بحاجة لكي يسمعوا صوت شعوبهم من حناجرهم المبحوحة، لا من حناجر المتزلفين….

وخلال مشاركتي في الدروس الحسنية سواء عندما كنت ضيفا زائرا قادما من المشرق أو عندما أصبحت مقيما مسئولا عن إدارة لم اسمع قط أي توجيه أو ملاحظة أو نصح يدفعني لاختيار موضوع أو تعديله أو التطرق لأي فكرة أو الإتيان بأي عبارة للمدح والثناء، وكنت اختار موضوعي وأفكاري وألفاظي بكل حرية، وكان هذا مما يشعرني بالمسؤولية الجسيمة…

وما زلت أعاتب نفسي على بعض الأفكار التي أدركت فيما بعد أنني يجب أن ابتعد عنها، لصعوبة قبولها وما يمكن أن تثيره من دلالات، واعترف بعد أكثر من ربع قرن أنني أخطأت في بعض المواقف، ورغم هذا فقد كان الملك الحسن الثاني في غاية النبل والشجاعة والسعة، كان يدرك أنني صادق فيما أقول، ولم اقل كلمة واحدة بنية الإساءة والنقد، معاذ الله أن افعل ذلك… ولكنني كنت أقول ما أؤمن به بحسب قناعتي الذاتية…

سيبقى اسم الدروس الحسنية كما كان، وستبقى هذه الدروس هي الظاهرة الأكثر روعة والمعبرة عن أصالة الأعراف المغربية، واعتزاز ملوك المغر

( الزيارات : 1٬780 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *