ذاكرة الأيام…تربية في الطفولة

ذاكرة الأيام…تربية في الطفولة


منذ طفولتي الأولى علمني السيد النبهان طيب الله ثراه قدسية العلم ومكانة العلماء، وحبّب إليّ الكتب والقراءة، وعندما كنت أسأله سؤالاً في العلم كان يجلسني إلى جانبه ويشرح لي الجواب بطريقة ميسرة ومحببة.
وبفضل تشجيعه المستمر لي حبب إلي العلم وكرهني في الجهل، وحذرني من علماء السوء الذين يتاجرون بعلمهم للتقرب من أصحاب السلطة والنفوذ، أو الذين يتملقون العامة بالتقرب إليهم بما يرضيهم، وكان يحدثني عن ثمرات العلم , وأهم ثمراته العمل به، فمن لم يعمل بما علم فلا فائدة من علمه، وعلمه حجّة عليه، ويقول لي تعلم كل شيء، فالعلم بالشيء خير من الجهل به، ولكن لا تستخدم العلم فيما هو ضار أو غير مفيد.
ومما كان يحذرني منه الجدل، والجدل هو محاولة التغلب على الآخر «بقصد الانتصار للذات»، وهو صفة مذمومة، ودليل على غفلة القلوب، فالقلب الطاهر يميل للحق ويكره الجدل، فمن مالت نفسه إلى التغلب ولو بالباطل فهذا من صفات النفس التي تحب الظهور والمكانة في نظر الناس، والجدل يميت القلب لأنه ينمي قوى النفس الغريزية…
كان يقول لي: لابد للعلم من خُلُق، فمن تعلم ولم يتخلق فلا فائدة من علمه، وعلمه حجة عليه، فقد يعذر الجاهل بسبب جهله ولا يعذر العالم، لأنه علم الحق وخالف الحق، فهو مسؤول عن هذه المخالفة، والعلم له نور يضيء، فإذا لم ينشر العلم ضوءه فلا فائدة منه، ويبقى الظلام مخيماً على القلوب، والظلام يحجب النور، وبخاصة إذا كانت القلوب ملوثة.
والاستكبار عن الحق من صفات المنافقين، فالمنافق يعلم الحق إلا أنه لا ينصاع له ولا يستجيب لدعوته، ومن خصائص العلم أنه يعلم صاحبه الالتزام بالحق والخضوع له، وهذا هو العالم الذي يشرق العلم في قلبه نوراً، ولابد للعلم من ثمرة وأهم ثمرات العلم أن يتخلق العالم بالأخلاق المحمودة وأن يترك الأخلاق المذمومة، لأنها قبيحة، والعلم يمكنه من رؤية القبح فيها لكي يتحاشاه.
وكان يحذرنى من علماء السوء، وهم الذين يتعلمون العلم للتكسب به، وليس للعمل به فمن تعلم العلم لكي يكون أداة لمعيشته أذل علمه , والعلم ليس أداة للتعيش به، فلا يقبل من العالم أن يكون ذليلاً ولا متملقاً ولا منافقاً، فالعالم رمز للنزاهة والاستقامة والترفع عن الصغائر.
كنت أسمع كل ذلك في كل خطوة، وقلّما كان يمرّ علي يوم لا أسمع فيه كلمة ناصحة مفيدة، ربما لم أكن أستوعب كل ذلك وأحياناً لا أفهم ما تعنيه تلك الكلمات من دلالات، إلا أن من المؤكد أنها كانت تختزن في الذاكرة، كحبات زرع ترمى في الأرض، أو كقطرات مطر تتجمع في أعماق الأرض، أصبحت هذه الكلمات التي أسمعها كل يوم جزءاً من تفكيري وجزءاً من ثقافتي حيث تمثل الرصيد الذي أحتفظ به في ذاكرتي.

( الزيارات : 1٬453 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *