شخصية السيد النبهان وخصاله

شخصيّته وخصاله

 

 

ملامح شخصيّة الشيخ:

كان الشيخ طيّب الله ثراه يتمتع بشخصيّة قويّة مهيبة، وفراسة صادقة، مبعثها صفاء قلبه، وكان مجلسه مجلس مهابة واحترام، وكان حديثه مؤثراً بسبب صدق لهجته، فإذا جلس في مجلسه أحسَّ الجميع بالهيبة بالرغم من تواضعه الكبير وابتسامته الدائمة، وقلما كان يغضب أو يثور إلا إذا رأى ما يمسُّ الدين فكان يغضب لله، ويدافع عن العقيدة الإسلاميّة والقيم المستمدّة من الدين.

كان يغضب لله في المواقف العامَّة، ولا يخشى لومة لائم، ولا يهمه من كان أمامه، وبخاصّة إذا كان من رموز السلطة، فكان ينصحهم ويوجههم بالكلمة الطيبة، فإذا لم تجد كلماته صداها في النفوس أعلن موقفه الصامد في الدفاع عن الموقف الذي يراه مناسباً، ويعتبر أنَّ مهمَّة العالم في المجتمع أن ينصح ويوجه ويحمي شعائر الدين وقيم الفضيلة.

وكان إذا دخل أي مجلس عام أو خاص وقف الجميع احتراماً له، وإذا تكلّم أنصت الجميع، وإذا سكت أمسك الجميع عن الكلام، إلى أن يبدأ بالكلام، وكانت الهيبة هي الصفة الواضحة في مجالسه، وهي هيبة احترام وليست هيبة خوف، فلم يكن يملك سلطة التخويف، ولا قوة السلطة، ولم تسمع منه قط كلمة نابية أو مستهجنة أو خارجة عن حدود الأدب واللياقة، وإذا سمع كلمة نابية تجاهلها وقد يغادر المجلس بأدب ولا يُشعر أحداً بالحرج.

كان الأكابر في نظر الناس يهابونه ويحترمونه وينظرون إليه من بعيد نظرة الاحترام ولا يجرؤون على مخالفته، وكان خصومه يخشونه ويظنون فيه التكبر والترفع، فإذا اقتربوا منه وجدوه واسع الصدر في علاقته مع الآخرين متواضعاً من غير تكلّف، يسع صدره لكلّ الناس، ولا يحاسب أحداً على تقصيره، ولا يعاتب، والتواضع صفة راسخة فيه من غير تكلّف، فهو مع الضعفاء والفقراء والمسنين والأطفال والأرامل والعجزة، وهؤلاء يجدون في شخصيته العطف والحنان والمحبة والرعايّة، وكان يتبسط مع هؤلاء ويباسطهم في الحديث ويمازحهم في الكلام ويسمع شكاويهم، ولا يضيق صدره بما يطلبونه منه من عون ومساعدة.

ولم يفرّق في مجلسه قط بين قوي وضعيف وغنيّ وفقير وحاكم محكوم ولم يردّ ضعيفاً قط عن مجلس أو يضيق به، وكان هؤلاء يحظون بكلّ الرعايّة العطف، وإذا دعاه ضعيف أو فقير إلى داره فكان يجيب الدعوة بكلّ فرحة، ويأخذ معه كبار إخوانه من أصحاب النفوذ الاجتماعي إلى دار ذلك الرجل الفقير في الأحياء النائيّة، تطييباً لخاطره، وإشعاراً له بالمكانة.

وما زلت استحضر عشرات المواقف التي رأيتها في سيرته التي تعبر عن شخصيّة متميّزة في تكوينها الخلقي، وكنت أرافقه في كثير من زياراته لأسر فقيرة في الأحياء النائيّة، أو لامرأة مسنة عاجزة كانت تدعوه وتجمع أبناءها لاستقباله والاحتفاء به.

رأيته مرات كثيرة يعتذر عن دعوة شخصيات ذات نفوذ اجتماعي ويضيق صدره بهذه الدعوات، وتتفرج أساريره لزيارة أسرة فقيرة ويسرع لزيارتها، لأشعارها بالرعايّة، فكان هذا من خصوصيات شخصيته.

ورأيته مراراً يقف لمدة طويلة يسمع شكوى من طفل ضاق صدره بأهله أو ضاق صدر أهله بمطالبه، فجاء يشكو للشيخ ممّا يعانيه من أمه وأبيه، فيسمع من الطفل ما يؤلمه، ويستدعي الأبوين ويوصيهما بأن يتسع صدرهما لمطالب ذلك الطفل وتفهم حاجاته.

وجاءه مرة أحد إخوانه يشكو إليه من همومه وآلامه بسبب ما يلاقيه من متاعب أطفاله الصغار الذين اقلقوا راحته في داره فطلب منه أن يحضر أطفاله إلى داره لكي يقوم بنفسه برعايتهم، فخجل الأب من نفسه، وعاد إلى أطفاله يرعى شؤونهم.

كلّ ذلك رأيته وعشته بنفسي، ولم أشعر قط أنَّ هذه المواقف متكلفة، أو أنه يفعلها لكي ترتفع مكانته عند الخلق، فهذا ممّا لا يخطر بباله، فلم يؤدِّ أي عمل بتكلف، أو لإرضاء أحد، كان هذا هو خلقه، ولا قوي ولا ضعيف في مجلسه، ولا غني ولا فقير، والكلّ سواء.

وعندما كان يموت أحد إخوانه الضعفاء ويترك أسرة وأطفالا ولا مال لهم ولا معيل، كان يعتبر نفسه مسؤولاً عنهم، ويرعى شؤون الأطفال الأيتام مادياً وتربوياً ويحظون منه بكلّ الرعايّة والحنان.

ولم يضق صدره قط بصاحب حاجة جاء إليه يطلب منه مساعدته لرفع الظلم عنه أو لمساعدته الماديّة أو لحل خلاف مع شريك في العمل أو لتحقيق صلح بين الزوج وزوجته والأب وأولاده، وكان وقته يتسع لكلّ ذلك برحابة صدر، ولم يعتذر قط عن أمر كلف به أو صلح طلب منه، أو مفاوضة بين مختلفين، وكان يقوم بكلّ ما يمكن أن يساعد الآخرين، فإذا توقف حل الخلاف على أمر مادي تكفل بأن يدفع من ماله الشخصي ما ينهي الخلاف، فإن كان في ضائفة ماديّة استدان من الآخرين وحل المشكلة.

كان يأتيه أحد إخوانه أو أي أحد ولو كان لا يعرفه من قبل، فيشكو له من مرض أصابه أو أصاب زوجته أو أحد أطفاله، فيتصل بالطبيب المعالج ويطلب منه تشخيص مرضه ويشتري له الدواء، ويجري له التحاليل الطبيّة والصور الشعاعيّة ويتابع أمره بنفسه، إلى أن يأخذ علاجه، فيتكفل له بالعودة إلى موطن إقامته إذا كان في قريّة، ولما أبلغ أنَّ بعض من يطلبون مساعدته ليسوا صادقين في أقوالهم، أجاب: أخشى أن أتردد في مساعدة من كان صادقاً منهم، وربما يكون بعضهم محتاجاً ولا يجد من يقف معه، وكان يستدين ويساعد الآخرين.

وإذا جاءه من يطلب مساعدته لشراء قمح أو أرز أو زيت أو سكر أو ما كان ضرورياً لمعاشه، اشترى له ما يحتاج إليه بما يكفيه لمدة معقولة، ويطلب أن يعود إليه إذا ما انتهى هذا المقدار من الطعام.

وكان يَرُدُّ على بعض من يجد في ذلك مشقة عليه بأنَّ الله تعالى قد سخَّره لخدمة هؤلاء المجتاجين، والخلق عيال الله، وأحب الناس إلى الله أنفعهم لعياله، وأنَّ هؤلاء لو أرادوا الاقتراض لما أقرضهم أحد، ولذلك كان يقترض لرفع الحاجة عنهم.

وما رأيت رجلاً يفعل الخير ولا يتكلفه ولا يضيق به، ويؤدّيه بعفويّة وتلقائيّة كما كان يفعل، وكان إخوانه يشفقون عليه، فيبتسم بفرحة ويقول هذا رزقهم سخرني الله لكي أقدمه لهم، ولا فضل لي في ذلك.

ولم أجد فيه قط كبراً على الناس أو ترفعاً على الضعفاء أو ضيقاً بمطالب المحتاجين أو تبرُّماً بما كان يلقاه أحياناً من مشقة في أداء هذه المهمة الإنسانية، وكان كل من يعرفه ويحضر مجالسه اليومية يرى ذلك فيه ويشاهده، وهو سعيد بكل ما كان يؤديه.

ولم يدخر مالاً قط في داره، فما يأتيه في كل يوم ينفقه، فإذا أنفق ما عنده كله قال بصراحة: ليس عندي مال.. وكان يردد في مجالسه أننا لا نتكلف وكان يكره التكلف في أي أمر من الأمور، والمال في نظره يؤدّي مهمة وخلق لغاية هي الإنفاق المشروع على الحاجات الضرورية.

كان كريماً بغير حدود وسخياً من غير تكلف، فلم يتكلف الكرم والسخاء، وكان ما يحتاج إليه في داره يأتي به، وما لا يحتاج إليه لا يأتي به، وما يحتاج إليه هو الضروري للحياة من الطعام والملبس والعلاج بالقدر الذي يحتاج إليه الإنسان، ولم يعرف إنفاق الترف وعوائد الترف في داره وعوائد حياته، وكان يضيق بهذه العوائد التي تصرف القلب عن عبادة الله.

ولم يشغله أمر المال قط، جمعاً وادخاراً، ولم يفكر فيه، فإذا جاء المال أنفقه في مصارفه الضرورية على النفس والأسرة والمحتاجين، وإذا غاب المال فلا ينبغي للقلب أن ينشغل بذلك، لأنَّ ذلك ممّا تولى الله أمر تدبيره.

وكان يقول دائماً في تعريف الإيمان بأنَّ حقيقة الإيمان تتطلب الامتثال لأمر الله تعالى والاستسلام لقهره، وأنه لابدَّ من إسقاط التدبير مع الله تعالى، فالله تعالى هو المدبر للأمور، وقيام العبد بالتدبير هو نوع من أنواع الشرك بالله، فالله بحكمته هو الأقدر على اختيار الأفضل للإنسان، والتدبير سابق على وجود العبد، فكما كان تدبير الله قبل وجود العبد فكذلك تدبير الله سبحانه وتعالى للعبد بعد وجوده لقوله تعالى: {{ع94س9ش111ن1/س9ش111ن444ع94س9ش111ن5/س9ش111ن001} [التوبة: 111] والله هو الذي يتولى أمر تدبير مملكته والتصرف في شؤون عباده، وليس للعبد أن يتولى تدبير شؤونه والتدبير يشغل القلب عن الله تعالى وهو الجانب المذموم فيه.

وكان يردد: أنَّ الإنسان عبد لله وأنَّ عليه أن يتحقق بعبديته، فمن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى، وإذا عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز، وإذا عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة، وناداه: يا غني يا عزيز يا قوي.. وأنّ ممّا يجعل العبد قادراً على تحمل الآلام علمه بأنَّ الله تعالى هو المتصرف في الوجود وهو صاحب الاختيار، والله أرحم بالعبد من نفسه فكيف يتصور ألاّ يكون رحيماً بعباده وهو المتولّي لأمرهم بحسن الاختيار وحكمة التدبير.

وكان شديد التفاؤل بسبب إيمانه بالله، مهما اشتدت المحن عليه، ولم أره قط متشائماً من أمر أو حزيناً أو مغتماً في أقسى الظروف، وكان الدنيا بكلّ أثقالها لا تعنيه ولا تساوي بالنسبة له شيئاً إذ كان مسلماً أمره لله راضياً بقضائه وقدره، عظيم الثقة بربه، وما يأتيه من ابتلاءات يتقبلها بهدوء نفس وكأنها جاءت لغيره، وكأنها محمولة عنه، ولا يضيق بها لأنها كما يقول ابن عطاء الله «مثل المدبر مع الله كمن بنى بناءً على شاطىء البحر كلما اجتهد في بنائه كثرت عليه الأمواج فتداعى هذا البيت، والمدبر مع الله يبني مباني التدبير وتهدمها واردات المقادير، وأنَّ العبد إذا انصرف لخدمة مولاه تكفل الله بأمره لأنه في خدمة سيده، وكان يرى أنَّ التدبير من أمر الله وهو المختص بالتدبير، وهو المنفرد بالحكم والتسيير، وكان يردد هذه المعاني في أحاديثه ومذاكراته، ويقول إنَّ المنع من الله كالعطاء بل إن اـنع هو عـ العطاء، كلاهما من أمر الله، وليس من اختصاص العبد أن يتدخل في أمر مولاه، إذا أعطاه شكر وإذا منعه صبر ورضي بما اختاره الله له.

ولم يكن أمر التدبير يشغله، ولم يمنعه هذا الاعتقاد من الاشتغال بالدنيا، والعمل والإنتاج، وكان هذا من السعي الذي يكلف به العبد، لا لأجل الرزق، وإنّما امتثالاً لأمر الله في العمل، أما الرزق فقد تكفل الله به، والله هو الرازق وقد أمضى الله أمر الرزق في سابق القضاء، ولم يذكر كلمة الرزق في مجال العمل والسعي، فالأمر بالعمل والسعي فيه لا لأجل الكسب، وإنما لأجل القيام بأمر الله، وكان يردد في مجالسه الآية القرآنية: {{ع94س56ش2ن52/س56ش3ن55} [الطلاق: 2 ـ 3] وقد نسب الله الرزق إليه للإشارة إلى أن الله هو الرازق، والعمل هو سبب للرزق ووسيلة له، ولكن الرازق هو الله، والمتكفل بأرزاق العباد هو الله، وربط الرزق بالأسباب الظاهرة إشارة من الله إلى الأخذ بالأسباب، لتطييب القلوب وتشجيعها على العمل والسعي.

واشتهر بالشجاعة في مواقفه دفاعاً عن الحق والتزاماً بالقيم الإسلاميّة، وكان غيوراً على الحق، لا يساوم فيه ولا يتنازل، فإذا كان الحق مرتبطاً بنفسه كان يسقط حقه ولا يطالب به، وإذا كان الأمر يتعلق بغيره كان يدافع عنه، وإذا كان الأمر يمس العقيدة أو الأخلاق أو يسيء إلى الإسلام فهذا موطن شجاعته، ولا حدود لغضبه من غير انفعال، ولا تهاون في قضايا الدين والأخلاق، ولا يقبل أي مساومة في أمور الدين، ولا يخشى حاكماً مهما كان قوياً أو زعيماً مهما رسخت مكانته أو مركزاً من مراكز القوى الاجتماعيّة، فالدين في نظره مقدس، ولا يقبل التنازل في أي حق من حقوق الله، ويصبح في أمور الدين كالمحارب الذي يدافع بكل وسيلة، مهما كلفه ذلك من تضحيات.

وما زالت مدينة حلب تذكر مواقفه الشجاعة في وجه خصوم الدين الذين يسيئون لعقيدة الأمة وينتهكون حرمة الدين بكلمة أو عبارة أو موقف، وكان يعتبر نفسه في مواقف الدفاع عن الدين جندياً في معركة إلى أن يعود الحق إلى نصابه.

وما زلت أذكر حادثة وقعت في مدينة حلب في بداية الخمسينيات عندما تعرض صحافي بارز في مقالة نشرت في جريدة حلبية شهيرة للإسلام وأساء لعقيدة الأمة، وخرج الشيخ غاضباً لله في مسيرة باتجاه دار الحكومة وانضم إليها عشرات الآلاف من سكان حلب تأييداً لموقف الشيخ تطالب بمعاقبة ذلك الكاتب الذي أساء للدين.

العوامل المؤثرة في تكوين شخصيّة الشيخ:

لكل شخصية خصائصها الفكرية واختياراتها السلوكية وقيمها الذاتية، وهذه الخصائص تكون معالم الشخصية وتصوغ ملامحها العامة، وهذه الخصائص هي وليد مكونات ذاتية وتربوية وعوامل اجتماعية، وإذا أردنا استكشاف طبيعة الشخصية فلابد من دراسة المكونات المؤثرة في السلوك البشري.

وأهم العوامل المؤثرة في تكوين شخصية الشيخ رحمه الله ما يلي:

العامل الأول: الاستعداد الفطري:

وهذا العامل هو الأهم في تكوين الشخصية، وهو أمر لا يمكن إنكاره في التكوين وكما تخلق الأجسام مختلفة في ملامحها كالطول والقصر والنحافة والبدانية والجمال والقبح وملامح الوجه والجسد فإن النفوس تخلق مختلفة في استعداداتها، فالخلق (بفتح الخاء) يختلف عن الخلق (بضم الخاء)، فالخَلْق يرتبط بأشكال الجسم ولا يقبل التغيير، فالطويل لا يكون قصيراً والقصير لا يكون طويلاً، والقبيح لا يكون جميلاً، وبخلاف الخُلُق المرتبط بالنفس فيقبل التغيير والتبديل، فالبخيل يمكن أن يصبح كريماً بالتأديب والتعويد، والجبان قد يصبح شجاعاً بالتربية والتأهيل، وبعض الأفراد تستقيم طبائعهم بالجود الإلهي الذي يخص الله به بعض خلقه فتكون النفس مهيأة بحسب استعدادها للكمال، كمن خلقه الله على حالة من الكمال الخلقي، بحيث يكون هواه منذ البداية متجهاً للاستقامة، فلا يحب ما يتنافى مع الكمال، وهذا هو الاستعداد الفطري المرتبط بنقاء الفطرة الأصلية التي يخلقها الله صافية محبة للاستقامة نفورة من الرذائل المسقبحة، ثم يتجه المزاج الفطري بحسب المؤثرات الموجهة له، نحو الاعتدال أو نحو التطرف، فيعتاد الإنسان ما ترسخ لديه من خلال المحيط التربوي الذي يوجهه ويحدد له قيمه السلوكية.

والنفوس بحسب فطرتها مهيأة لاختيار سلوك الخير أو لاختيار سلوك الشر، ثم يترجح الاختيار بالأثر التربوي والاجتماعي.

ومن المؤكد أنَّ الشيخ منذ طفولته الأولى كان يملك قابليات فطريّة وذاتية ترجح لديه سلوكيّات الاستقامة والالتزام بالقيم الدينيّة السليمة، وهذا ما تشهد عليه سلوكيات طفولته وما كان يشعر به في أعماق ذاته من نفور من مجالس اللهو المعتادة لدى الشباب بتأثير الغرائز، وقد دفعه هذا إلى التهرب من أصدقائه والبحث عن عالم يأنس به ويطمئن فيه وقد شرح الإمام الغزالي ظاهرة الاستقامة في السلوك بأنَّ ذلك يكون بأحد أمرين بالجود الإلهي الذي يجعل النفس تنقاد للحق والأخذ بأسباب الفضائل وأما بالمجاهدات والرياضات النفسية عن طريق حمل النفس على التخلق بالفضائل بقدر من التكلف في البداية إلى أن تتمكن في النفس.

إن مرحلة الحيرة والتردد التي سيطرت عليه في بداية شبابه هي نتيجة ذلك الصراع الداخلي بين محيطه الاجتماعي واستعدادته الفطرية، فالمحيط يطوّقه بمغريات الشباب والمال والملذات. واستعداده ومزاجه يدفعانه نحو عالم جديد لا يعرفه وكان يبحث عنه، ولكن لا يدري أين طريقه ووجهته.

العامل الثاني: الرياضات النفسيّة والمجاهدات:

وهذه الرياضات والمجاهدات التي رافقت رحلة الشيخ في المرحلة الأولى من حياته الروحية بدأت بعد أن اختار طريق التربية الصوفية واعتزل الناس لكي لا يشغل قلبه بقضاياهم ولا يضطر لمداراتهم، ثم تعقبها الخلوة التي يشعر فيها بالإنس في خلوته، وكان يأكل القليل من الطعام ويسهر الليل بالعبادة والأذكار وقراءة القرآن، والغاية من كل ذلك إخماد القوة الغريزية والتحكم فيها وإخضاعها لحكم الشرع، ويلتزم في هذه المرحلة بحفظ آداب الشريعة والابتعاد عن مواطن الحرام ودرء الشبهات وحفظ الحواس من سماع ما يشغل القلب أو يعكر صفاءه ومحاسبة النفس على كلّ ما يصدر عنها من أفعال، والتحكم في خواطر القلب لكيلا تأتيه الخواطر المذمومة، وأن يلتزم بعهده مع الله تعالى في أداء حقوق الله.

وكان الشيخ طيب الله ثراه يتحدث كثيراً عن هذه المرحلة من حياته والتي دامت عدة سنوات، وقد قضاها في ذلك الجامع المنعزل الهادىء البعيد عن الناس في الكلتاوية، وكان رفيقه في مجاهداته النفسية صديقه الدكتور معروف الدواليبي الذي كان يشاركه حياة التقشف والمجاهدة قبل أن يسافر إلى فرنسا لمتابعة دراسته العليا.

وغاية الرياضة النفسية تحقيق طهارة القلب وتهذيب طبائع النفس والتغلب على قسوة القلوب بسبب ما تراكم عليها من حجب، فالشهوات المسيطرة على الحواس تحجب النفوس عن التزام الفضائل، وكلما سيطرت الرذائل تقلصت الفضائل، وكلما التزمت النفس بالفضائل تراجعت الرذائل، لأن الرذائل هي الأضداد الطبيعية للفضائل، والرذائل موجودة في الحيوانات وهي أقوى فيها من الإنسان، وما يميز الإنسان عن الحيوان هو التزامه بالفضائل، ولا يمكن إخماد القوى الشهوانية في النفس كالرغبة في الأكل والشرب والجنس، ولكن يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها، وإخماد تمردها، وتتمثل الفضيلة في القوة الشهوانية في العفة والعفة تولد حسن المعاملة والألفة والصداقة والنزاهة وحب الخير للناس.

وعبر الأصفهاني في كتابه «الذريعة» في مجال حديثه عن أهمية المجاهدة النفسية أن خلافة الله تعاـ ـ الأرض وعمارته لها لا يصلح لها إلا من كان طاهر النفس، ومن لم يكن طاهر النفس فلا يصلح لمهمة العمارة اـرتبطة باـلافة(%1).

وطهارة النفس لا تتحقق إلا بإصلاح القوى الثلاث للإنسان، وهي القوة الفكرية ويميز بها بين الحق والباطل في الاعتقاد وبين الصدق والكذب في المقال، والقوة الشهوانية وتصلح بها غرائز الإنسان وتطلعه للملذات فيتمكن من التحكم بها، أما القوة الثالثة وهي الغضبية ويؤدي إصلاحها والتحكم بها إلى الحلم والتحكم في سلوكيات الغضب والحمية، فلا يغضب إلا لله تعالى(%1).

وكان الشيخ يرى في المجاهدة خيراً ويدعو إلى مجاهدة النفس، ولا يجيز للداعية أن يتصدى للعمل الدعوي إلا بعد طهارة النفس بالمجاهدات، لكي تصل كلمته إلى القلوب صافية نقية، ويكون نصحه لله، ولا مجال لحظ النفس فيما ينصح به الناس، فالنفوس إذا تقابلت تصادمت، أما من جاهد نفسه فإنه يتحكم في غرائزه، فلا تبرز نزعته إلى الجاه والرياسة، ولا يتعالى على الناس بسبب استقامته فيشعرهم بالمذلة والمهانة.

ولا شك أنَّ تلك المجاهدات النفسية أسهمت في صقل شخصية الشيخ وهذبت طبائعه وطهرت قلبه من أمراض القلوب، وأهمها التحاسد والأطماع والأحقاد، واستبدلت ذلك بصفات تميز بها واشتهرت شخصيته الذاتية بها، وأهمها الألفة والتواضع والشكر والقناعة والزهد والأدب مع الله ومع الناس.

وحدد الإمام الغزالي غاية المجاهدة بما يلي:

أن يجد قلبه مع الله تعالى على الدوام، ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو عن غيره، ولا يخلو عن غيره إلا بطول المجاهدة، فإذا حصل قلبه مع الله تعالى انكشف له جلال الحضرة الربانية وتجلى له الحق، وظهر له من لطائف الله تعالى ما لا يجوز أن يوصف بل لا يحيط به الوصف أصلاً(%1).

العامل الثالث: البيئة الاجتماعية:

ويشمل هذا العامل المحيط الاجتماعي الذي عاشه الشيخ في طفولته وشبابه الأول في المدينة والريف، وتأثير القيم السائدة عليه، وهذه القيم ترسخ في النفس من خلال تأثير البيئة على الفرد، ويتميز مجتمع الريف بخصائص معينة وقد تحدث ابن خلدون في مقدمته عن البداوة والحضارة وخصائص كل منهما في تكوين الإنسان، واشاد بخصائص البداوة في مجالات الأخلاق والقيم، وبخاصة فيما يتعلق بالسخاء والشجاعة والوفاء، واعتبر البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، وسبب ذلك أنَّ أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملذات وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك، حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً(%1).

وكان الشيخ رحمه الله بالرغم من حياته في المدينة فقد كان الحي الذي عاش فيه في طفولته أقرب في قيمه وتقاليده وأخلاقه إلى حياة الريف، من حيث تماسك أسره من خلال انتماءات عشائريّة واضحة وتقاليد مسيطرة في المدافعة والمغالبة والحميّة وطبائع البأس والاعتزاز بقيم الشجاعة والكرم والشرف، ومدينة حلب ما زالت محتفظة بقيمها الأخلاقية العاليّة، وبخاصة فيما يتعلق بقيم الشرف والمروءة والتماسك الأسري والاعتزاز بالفضائل.

ومن المؤكد أن الشيخ قد تأثر بهذه القيم، وكانت واضحة في سلوكه وآرائه ومواقفه وكان يعتز بها ويدعو إلى التمسك بقيم الشجاعة والمروءة والشرف والفضيلة والترفع عن الصغائر والوفاء والتراحم، وفي الوقت ذاته كان يدين القيم الخاطئة المتمثلة في العصبية والحمية وعادات الثأر وسلوكيات العنف والتناصر القبلي وتجاهل الحقوق الإنسانية للمرأة وأكل أموال الأيتام والضعفاء بالباطل، والقسوة في العلاقات الإنسانية والتنابذ بالألقاب واستعمال الألفاظ غير اللائقة في الخصومات والمشاحنات.

وكان يمدح قيم الريف الأخلاقية ويشيد بترفع أهل الريف في مواطن المخاصمات، وكان ينكر قيم أهل الحضر وسكان المدن الذين تسيطر عليهم الأنانية، فيغلقون أبوابهم في وجه الفقراء والمستضعفين، ولا يتزاورون في الأتراح، ولا يحمل القوي منهم الضعيف، ولا يفتح الغني بيته للمجتاجين، ويتجاهلون حقوق ذوي الأرحام عليهم، ولا يبرون آباءهم وأمهاتهم.

ومن أوضح آثار هذه القيم على سلوكه وفكره اعتزازه الكبير بقيم الشرف، والغيرة على سمعة المرأة، والحرص على تربيتها، وعدم التساهل في أي أمر يمس الشرف والمروءة، والمرأة في نظره يجب أن تظل نقية السمعة طاهرة السلوك، لا تخرج من بيتها إلا لحاجة ولا تخالط الرجال، ولا تقترب من مجالسهم وأن تكون في أعلى درجات الحشمة في ملابسها وفي سلوكها وفي نبرات صوتها، ويضيق بأي تساهل في هذا الأمر، ويغضب لذلك أشد الغضب.

وفي الوقت نفسه كان يحب صفة الرجولة في الرجال، ويضيق بالرجال الذين لا يعتزون برجولتهم، ويرى أن الفروسية هي رجولة ومروءة وقيم عالية، وكان يحب ركوب الخيول الأصيلة ويقتني بعضها، ويتحدث في مجالسه عن أخلاق الفرسان، ويشبه الرجل بالفارس والمرأة بالفرس الأصيل التي تعجب بالفارس الذي يحسن ترويضها والإمساك بمقودها، فإذا فشل في ترويضها رمته أرضاً وتخطته بحثاً عن فارس متمكن يرضي كبريائها.

ومن الواضح أن العوامل المؤثرة في تكوين شخصيته سواء منها ما كان ناتجاً عن تكوينه الذاتي أو مجاهداته النفسيّة أو القيم الأخلاقيّة التي ورثها من بيئته الخارجية قد أسمهت بقدر متفاوت في تكوين ملامح شخصيته، والاستعدادات الذاتية هي الركيزة الأهم في هذه المعادلة لأنها الأساس التي يقوم عليها البناء كله، وهو تطلعه الذاتي للكمالات وحبه للفضائل وتعلقه بقيم أخلاقية عالية، وكثيراً ما كان يردد في مجالسه العبارات التي تؤكد هذا التعلق بالمعالي، ويقول ذلك البيت الشهير:

ومنذ كنت طفلاً فالمعالي تطلبيوتأنف نفسي كل ما هو واضعولي همة كانت وها هي لم تزلعلي أنَّ لي فوق الطباق صوامعولم تكن المعالي التي يتطلع إليها هي المكانة الاجتماعية أو الطموح المالي أو الجاه أو الزعامة، فقد كان واضح الزهد في هذه المعاني، وإنما يقصد المعالي التي تجسد الكمال الإنساني.

والراغب الأصفهاني على حق في حديثه عن الفضائل الإنسانية، وأن جميع الفضائل على ضربين، نظري وعملي، وكل ضرب منهما يحصل على وجهين(%1):

أحدهما: عن طريق التعلم ويحتاج فيه إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة بدرجة، وإنَّ كان بعض الناس يكفيه أدنى درجة ومنهم من يحتاج إلى زيادة ممارسة وذلك بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة.

وثانيهما: يحصل بفضل إلهي، كمن يولد وهو صادق اللهجة وسخياً وجريئاً وآخر على عكس ذلك، وقد يكون بالتعلم والعادة.

وهذا المعنى نفسه ذكره الإمام الغزالي في بحثه عن حسن الخلق، وأن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة وكونها للعقل مطيعة وللشرع أيضاً، وهذا الاعتدال يحصل على وجهين(%1):

أحدهما: بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق قد كفي سلطان الشهوة والغضب.

والوجه الثاني: اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة واعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب.

الانسجام بين الشخصية والفكر:

أبرز ما يلاحظه الإنسان على الشيخ رحمه الله هو ذلك الإنسجام العجيب بين شخصيته وفكره، ولا يمكن أن تفهم أفكاره إلا في إطار فهم شخصيته الذاتية، ففكره هو ثمرة من ثمار شخصيته، وكان يركز في أحاديثه على دور الشخصية في تكوين الفكر، فالشخصية المتوازنة المتماسكة تولد فكراً متوازناً ومنسجماً لأن الشخصية هي منتجة الفكر وهي حاملة له.

ولا يمكن للفكر وحده أن ينهض إلا بوجود شخصية حاملة له مبشرة به من خلال رقيها وانسجامها وتوازن خصالها، فالشجاعة ليست صفة خارجة عن نطاق الإنسان، فالإنسان هو الذي يجسد هذه الصفة من خلال سلوكه، ولا يمكن أن يتحدث عن الشجاعة إلا من كان شجاعاً، ولا يمكن أن يصف السخاء إلا من كان سخياً ولا يمكن أن يدرك معنى الحكمة إلا من كان حكيماً وفاقد الشيء لا يعطيه للآخر ولا يقنع به.

والعلم لا يثمر العمل إلا إذا كانت النفس مستعدة لذلك، فالاستقامة ثمرة ليست للعلم وإنما حبّ الذات لصفة الكمال، فمن الكمال أحب الاستقامة، ومن كان عاجزاً عن بلوغ الكمال فلا يمكنه أن يتعلق بالاستقامة، لأن الاستقامة هي تعلق بالكمال، ومن هذا المنطلق فقد كان يحرص على اختيار طلاب العلم من محبي الكمال وممن يتفهمون معنى الكمال، فإذا أعطي العلم لغير أهله فسرعان ما يساء استخدامه، فصغار النفوس لا يستطيعون حماية كرامة العلم، وقد يستخدمون العلم للارتزاق به أو للتقرب به إلى الحكام أو للتزلف به إلى الأغنياء، فيكون العلم مطية لشيء مذموم، بخلاف أهل الكمال فأن حبهم للكمال يدفعهم للترفع عن صغائر الأمور، فترتفع مكانة العلم في النفوس. فالعلم إذن يحتاج إلى من يحميه.

وكثيراً ما كان ينقد العلماء الذين يذلون علمهم باستخدامه كمطية لتحقيق مطامح دنيوية، كالتقرب من الحكام أو لتبرير أخطاء الموسرين، طمعاً في جاه أو منزلة اجتماعية، ولذلك فلا ينهض بالعلم إلا من تعلق قلبه بالكمال، وحبه للكمال يدفعه للتمسك به، فيكون العالم رمزاً للكمال ومدافعاً عن الحق.

والكامل من الرجال يقود ولا يقاد، فإذا تعلم العلم من أحب الكمال كان سبباً في هداية المجتمع إلى الحق والرشد، لأنه يكره النقصان، والعلم ينهض برموز الكمال فيصقل شخصيتهم ويرتقي بمستوى تصورهم، فإذا تعلم العلم سفهاء الناس من أهل الطمع والحسد والنفاق استخدموا علمهم للإساءة للآخرين، فسقطت بذلك مكانة العلماء في المجتمع.

ومهمة المربي أن يصقل المواهب الذاتية وينميها لكي تكون في المستوى الأفضل، ولا يمكن للمربي أن يوجد صفة من عدم، فضعفاء الشخصية لا ينهض العلم بضعفهم ولأن عضلاتهم في أساسها ضامرة لا تقبل التنمية ولابد من البحث عن رموز الكمال في المجتمع ممن يحبون الكمال ويتعشقون الكمال فهؤلاء تنفعهم التربية وتتنهض بأمرهم، وتصحح الهم مسارهم وتنمي فيها القدرات الذاتية.

كان الشيخ كثيراً ما يتحدث عن هذا المعنى، ويحب الكمال ويحب كل من يحب الكمال ولو كان منحرفاً في سلوكه، لأن حبه للكمال سرعان ما يدفعه للترفع عن الصغائر والالتزام بالحق والرضوخ له، ولا يرضخ للحق إلا من كان محباً للحق، ولا يخاصم للدفاع عن الباطل إلا من كان من الجهلة.

كان الشيخ يحب الكمال ويحب كل من وجد فيه صفة الكمال ولو كان مخالفاً له في الرأي، ويحترم رموز الكمال والاستقامة، كان يحب من توفرت فيهم صفات الرجولة، والسخاء والعفة والحكمة والتواضع والانصياع للحق، ويشيد بهم، ويكره من وجد فيه صفة الجبن والجهل والتردد والكبر والعجب والبخل والحقد والحسد، لأن هؤلاء لو أحبوا الكمال لما تخلقوا بالأخلاق المذمومة، فالخلق المذموم مرفوض لذاته، وهو صفة قبيحة، والقبح في المحرمات ذاتي لأنه منافٍ للطبع والفطرة.

ولا يمكن للشرع الحكيم أن يقر نقصاً أو يحرم كمالاً، كما لا يمكنه أن يمنع مصلحة للبشر، والنفس تدرك بفطرتها من غير تكلف ما هو ناقص وما هو مذموم من الصفات، فإذا أحبت النفس صفة ناقصة فهذا دليل على مزاج مرضي خاطىء تكرس في النفس بسبب اعتياد الأفعال المذمومة.

وكان يردد أن الأصل في النفس أنها تحب النور وتكره الظلمة، والفطرة خلقت بيضاء نقية صافية، فإذا أحبت الفطرة الأشياء القبيحة فهذا دليل على خلل في الفطرة ومزاج خاطىء ومنحرف.

ومن اليسير ملاحظة ذلك الانسجام الكبير بين فكر الشيخ وشخصيته، فقد كانت شخصيته تمثل فكره، وما كان يدعو إليه كان يحبه ويدافع عنه ويلتزم به ويعتبره خلقاً له ولعل هذه الملاحظة هي الأهم في شخصية الشيخ وفي فكره، فقد كان خلقه اليومي هو فكره الذي يدعو إليه، وكان يكره من يفصل بين فكره وسلوكه، ويعتبر ذلك من مواطن الضعف في الدعاة والمربين، إذ لا يمكن للمربي أن يكون سلوكه نقيضاً لفكره ولما يدعو إليه.

القدرة على التواصل مع الآخر:

كانت شخصية الشيخ متميزة بخصال رفيعة، سواء على مستوى الخصال الذاتية أو على مستوى علاقته مع الآخر، كان الآخر بالنسبة له محترماً مهما كان الخلاف معه، سواء على مستوى القيم أو على مستوى الأفكار، فلم يكن يفرض على الآخر رأيه أو فكره أو منهجه، بل كان يبحث عن القواسم المشتركة التي تجمعه به وهي القواسم الإنسانية.

وقلما كان يصطدم مع الآخر في حوار، كانت وسيلته البيان وليس الجدال، ولم يكن يحب الجدال، بل كان يكره ذلك، فإذا وجد من الآخر رغبة في الجدال أعرض عنه، وهذا هو الحد الأقصى الذي كان يلجأ إليه لإيقاف الجدال.

أحياناً كان يجتمع مع مخالفين له في الفكر، سواء كانوا من دين آخر أو من مدرسة فكرية مختلفة أو كانوا غير مؤمنين، ولم يكن يحدثهم من منطلق يرفضونه، وإنما كان يحاورهم بحكمة وهدوء من خلال تلك القواسم المشتركة الفكرية التي تجسد معاني الكمال والاستقامة.

لم يضق يوماً بحوار مع الآخر، وإنما كان يضيق بالتزمت وعدم الرضوخ للحق، ويصف من يرفض الحق بالجهل المطبق الذي يدل على ضيق في الأفق وضعف في الفهم.

وأهم خصاله مايلي:

أولاً: التفتح في الأفكار:

التفتح صفة تجسد القدرة على التواصل مع الآخر الذي يخالفك في الرأي، والتواصل دليل على احترام الآخر، ولولا ذلك الاحترام للآخر لما تحقق التواصل.

قد يظن بعضهم أن التفتح على الآخرين دليل على عدم التزام الإنسان بفكره الذاتي الذي يؤمن به، وهذا خطأ كبير، فالتفتح ليس نقيض الالتزام، وإنما هو نقيض التزمت والجهل، فالتزمت هو رفض للآخر وعدم القدرة على التواصل معه، وهو دليل على ضيق الأفق، فالمتزمت يرفض الآخر لأنه يخالفه في الرأي، ولا يمكن أن يوصف التزمت بالفضيلة والتزمت لا يعني الورع والالتزام وإنما يعني ضيق الأفق.

ولا يمكن أن يوصف التفتح على الآخر بالضعف وقلة الالتزام، فلا علاقة بين الالتزام والتزمت، فالمتزمت رجل تنقصه المرونة في المواقف، فلا يحتمل الآخر، وبالتالي فإنه قد يرفض الحق إذا ظهر له على يد الآخر.

كان الشيخ معروفاً بقدرته على التواصل مع الآخرين، على مستوى الصلات الشخصية أو على مستوى المواقف، فلا يضيق بالآخر إلا إذا ظهر منه ما يدل على قلة الأدب في لهجته أو في عبارته أو في مجلسه، فلم يكن يحتمل قلة الأدب، لأن ذلك لا يليق بالإنسان ويعتبر قلة الأدب من ضعف التهذيب وقلة العقل وسيطرة الجهل.

ولم يكن الشيخ يوجه النصح للآخرين بطريقة مباشرة، احتراماً لخصوصيات الآخرين فيما اختاروه لأنفسهم.

فإذا حضر مجلس من كان غير ملتزم بأداء الواجبات الدينية أو كان معروفاً بالفسق تجاهل ذلك، ووجه كلامه إليه بكل عناية وأدب، وشرح له حقائق الدين وما يدعو إليه من التحقق بصفات الكمال والابتعاد عن كل الأوصاف المذمومة، ولم يشعر ذلك الرجل بالتقصير والذنب، لأنَّ مهمة المرشد هي أن يرتفع به من حيث هو إلى ما يجب أن يكون عليه من استقامة وهداية، ولو أشعره بالذنب والتقصير لتوقف التواصل وأخفقت مهمة المرشد في الأخذ بيد المقصرين.

ثانياً: الترفع عن الصغائر:

اشتهر الشيخ رحمه الله بترفعه عن صغائر الأمور، فلا يلتفت إلى ما لا يليق من المواقف، ولا يرضى لنفسه أن تصدر عنه كلمة نابيّة بحق، ولو كان عدواً له، ولا ينتقم ولا يحقد، لأنه يرى ذلك لا يليق بالرجال.

كان يقول في مجالسه بأنَّ الإنسان عليه ألا يرضى أن تصدر عنه الأفعال المذمومة، لا لأنها تدخل ضمن الحرام، ولكن لأن الإنسان يجب ألاّ تصدر عنه الأفعال الناقصة والمذمومة، ومن أحب الكمال تعلق به ولا يرضى ما دونه من أنواع السلوك.

لم ينتقم الشيخ قط ممن أساء إليه، وكان يحسن لمن أساء إليه، ويكرر الإحسان، ويقابل الإساءة بالإحسان إلى أن يغلب إحسانه على الإساءة، فينقلب العدو صديقاً ويصبح البعيد قريباً، ولم يكن في ذلك الخلق متكلفاً، بل كان يصدر هذا الخلق عنه بصفة راسخة ودائمة وتلقائيّة ومن غير بذل جهد وتكلف، ويقول بأن النفس يجب أن يصدر عليها ما يليق بها من فعل الكمال، فإذا قابل الإنسان الإساءة بمثلها انتفى التميز، ولا فضل لأحد على آخر لأنَّ كلا منهما صدر عنه من الأفعال ما ينافي الكمال، فلا يحق للمسيء أن يدعي الكمال وقد رضي أن يصدر عنه الفعل الناقص.

وقد كان من عادة الشيخ أنه لا يتلفت لما يقال عنه من مدح أو ذم، ويعلل ذلك بأنه أعرف الناس بذاته، فالمادح يقول ما يرى من الأفعال المحمودة، والذام يذم ما يعتقده نقصاً، وهو معذور في ذمه، ولو عرف الحقيقة وكان منصفاً لتغير رأيه، فالمادح معذور والذام معذور، وكلّ منهما يصف ما يرى، وعليهما أن يبحثا عن الحق، والجاهل يفرح بالمدح ولو كان المادح كاذباً، وكأنه يكذب على نفسه بصفة ليست فيه.

كان يلتمس العذر لخصومه وأعدائه، لأنهم يذمّون ما يعتقدون أنه خطأ، ولو عرفوا الحقيقة لما كانوا ذامِّين، ويمكن التغلب على الخصومات الناتجة عن الجهل بمعرفة الحقيقة، ولكن لا يمكن التغلب على الخصومات الناتجة عن الحسد والحقد، فهذه أمراض نفسية تجعل صاحبها أسير غشاوة مظلمة تمنعه من رؤية الألوان على حقيقتها، ولابد من إزالة هذه الغشاوة بتزكية النفس وطهارة القلب، لكي يبتعد الإنسان عن الصفات المذمومة التي تبعده عن الحق والنور والهداية.

ولم يكن في مجالس الشيخ ذلك الهمس المذموم عن الآخرين، وكان يكره الغمز واللمز والحديث الهامس بالغيبة والنميمة، وكأنه لا وجود للآخرين في مجالسه تعففاً عن الإساءة لأحد، ويعتقد أن انشغال القلب بهذه الأمور الصغيرة دليل على الغفلة والظلمة، فالقلوب تتكدر بما يدخل إليها عن طريق السمع والبصر، وأفضل طريق لصفائها ألا تشغل نفسها ويعكر صفو الأمزجة بالأحقاد ومشاعر البغضاء.

ثالثـاً: علـو همتـه:

كان الشيخ عالي الهمة في اهتماماته وفي سلوكه وفي انشغالاته، كان يشغل نفسه بهموم الآخرين من الضعفاء والمرضى والمسنين، ولكنه لم يشغل نفسه بقضاياهم المادية ولا باهتماماتهم الدنيوية، فذلك أمر خاص بهم، ولا يليق الانشغال بالدنيا في مجالس المذاكرة والتربية، فهذه مجالس غايتها التحليق في فضاءات روحية سامية، لكي تتحرر النفوس من تعلقاتها الدنيوية التي تكدر صفاء القلوب بمرغوبات مادية.

كانت يده هي اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ، فكان الأكثر سخاءً وعطاءً، ولا حدود لسخائه، لا على نفسه ولكن على الآخرين المحتاجين، فلم يكن يضيق بحاجاتهم أبداً ولو استدان من غيره، ويكتفي لنفسه بالقليل الذي تدعو إليه الحاجة.

وقد أرهق نفسه بهذه الصفة، وتحمل الأعباء الثقيلة، ولم ينسب لنفسه شيئاً مما كان يفعل، ويعتقد أن الله تعالى أكرمه لكي يكون أداة للعطاء، وما هي إلا أموالهم ردت إليهم.

كل ذلك كان يفعله بغير تكلف ولا منّة، ولا يهمه إن علم الخلق بذلك أم لم يعلموا، إذ كان عمله لله تعالى خالصاً لا رياء فيه، ولا استجلاباً لمحبة الآخرين، وإنما هي صفات راسخة في النفس تصدر عنها أفعال الفضائل من غير تكلف ولا روية.

وأكثر ما كان يؤلمه أن يجد فقيراً محتاجاً ولا يستطيع إعطاءه أو مريضاً متألماً ولا يستطيع إسعافه أو طفلاً باكياً ولا يستطيع إيقاف دموعه، كان هؤلاء هم الأحبّ إليه والذين تشغله همومهم وتؤلمه أحزانهم، فقد كان قلبه يتسع لهم ويحنو عليهم، بالمساعدة والكلمة والابتسامة.

كان كبيراً في مواقفه واسع الصدر صادق اللهجة لم يخاصم عدواً وإن خوصم، ولم يرد بإساءة ولو أسيء إليه، ويلتمس العذر لكل من خاصمه، ويمد يده لكل من عاداه، ويحسن لكل الناس ولو لم يعرفهم، ولم يشعر أحداً بأنه الأفضل والأتقى والأورع والأعبد، ويحذر من خطورة التعالي على مرتكبي الخطايا الغارقين في مستنقعات الانحراف، ويدعو لهم ويطلب الأخذ بيدهم ومساعدتهم على التخلص مما هم فيه بالتشجيع والأمل والنصيحة الصادقة المخلصة التي لا غرور فيها ولا استعلاء.

كانت همته عالية في مرحلتي المجاهدة والإرشاد، كما كانت همته عالية في مرحلتي الطفولة والشيخوخة، ويحض على أن تكون الهمة عالية بالنسبة لكل إخوانه، لأن علو الهمة من الإيمان، ولا يبلغ القمة المرجوة إلا من كان عالي الهمة، ويعجبه أصحاب الهمم العالية، ولو انصرفت همتهم إلى الأمور الدنيوية، فصاحب الهمة العالية يريد أن يكون الأفضل بين زملائه في طفولته وبين رفاقه في المدرسة وفي دراسته وتجارته وعمله، وكان يضيق بضعاف الهمة.

ولا حدود للآثار الإيجابية لعلو الهمة في تكوين الإنسان، فهي مفتاح الشخصية القوية المؤثرة المتطلعة إلى الأفضل، وعلو الهمة يتمثل في التطلع إلى الكمال في كل شيء، ولا يرضى ما دون الكمال، ويؤلمه أن تنسب إليه صفات تتنافى مع علو الهمة.

وأصحاب الهمم العالية لا يحنون رؤوسهم طمعاً في المكاسب الدنيوية، ولا يتملقون الأقوياء لكسب مادي أو معنوي، وهم سادة حيثما كانوا، في بيوتهم منعزلين أو في مجتمعاتهم ومناصبهم مقيمين، والعلماء هم رموز الهمة العالية، لأنه حملة رسالة، فإن انحدرت همتهم كانوا عبيداً لمطامعهم، يستذلهم الكبار ويحتقرهم الصغار، وليس بهذا ينهض العلم، وليس بهذا ترتفع مكانة العلماء في المجتمع.

كان الشيخ يحضّ طلاب العلم من إخوانه على أن يكونوا من أصحاب الهمم العالية لكي يكونوا سادة في مجتمعهم، كما كان ينصح التجار أن يكونوا من أصحاب الهمم العالية، فلا تذلهم أموالهم طمعاً في الاستزادة منها، وكان يعجبه في الأطفال أصحاب الهمم العالية الذين يرفعون رؤوسهم فلا يخافون ويتطلعون إلى الأفضل في حياتهم.

 

 

 

 

   

 

التحوّل إلى طريق العلم:

عندما ضاق الأمر بوالده، وسدّت أمامه أبواب الأمل، أمسك بيد ولده الشاب وقاده برفق إلى غرفة منعزلة، وخاطبه بكلّ العواطف التي يملكها الأب نحو ابنه الأكبر، وبكلّ الحب الذي بدأت ملامحه في كلماته الهادئة الرصينة، وسأله عما يريده ويبحث عنه.

انهمرت دمعة سخيّة من عيني الشاب، وقال لوالده بكلّ رفق وأدب: ممّا يؤلمني يا والدي ويحزنني أنني لم أحقق لك ما كنت تتطلع إليه وتنتظره منّي، لقد حرصت بكلّ طاقتي على أن أكون الابن البار لك الذي يسعدك بعمله معك، ولكن لا أقدر على ذلك، ولا أشعر بكياني وذاتي في هذا الطريق، وأبحث عن طريق آخر قد أجد صفاء قلبي فيه، وقد شرح الله صدري للتفرغ لعبادته وسلوك الطريق إليه تعالى لمعرفته ومصاحبة الصالحين ممن تنفعني صحبتهم وتقودني مجالستهم إلى شهود منة الله عليَّ بما أكرمني به من نعمه وفضله.

وأخذ «محمّد» يحدث والده عما يشعر به في أعماقه من فضل الله عليه، وأنه يريد أن يسلك طريقه إلى الله بالعلم والطاعة وطهارة القلب من التعلِّق بمظاهر الدنيا.

فاضت عينا الأب بالدموع، وأمسك برأس ولده برفق وضمه إلى صدره، وقال له:

ألا تريد يا ولدي أن نحتكم إلى عالم كبير من علماء الشريعة ومن فقهاء الدين، لعلَّه يدلّنا على الطريق الذي يرضيك ويرضيني.

وذهبا معاً إلى علاّمة مدينة حالب وشيخها الكبير المعروف بعلمه وورعه الشيخ نجيب سراج الدين، وشرح الأب للشيخ الطريق الذي اختاره ابنه وتوجَّه الشيخ إلى «محمّد» ونصحه بأن يقسم وقته بين العلم والعمل، وبذلك يحقق رغبته بطلب العلم ويلبِّي رغبة والده بالعمل معه في تجارته.

أطرق الشاب رأسه أدباً وحياءً من الشيخ وأجابه بأنَّ العلم الذي اختار طريقه يحتاج منه إلى أن يتفرّغ قلبه له، ولا يمكن لقلبه الذي أحبَّ العلم وتعلَّق به أن يجتمع فيه حب آخر للعمل، ولابدّ من التفرغ لطلب العلم.

وتعلق «محمّد» بمجالس العلم التي كانت تعقد في المساجد الكبيرة، وأصبح يجالس العلماء الذين اشتهروا بالعلم والصلاح والتقوى والورع، ثم انتسب إلى المدرسة الخسرويّة الشهيرة التي تقع قرب باب القلعة، وكانت هذه المدرسة بالنسبة لمدينة حلب كالأزهر في مصر، وتخرّج منها كبار العلماء، ولم يكن يعترف بالعالم إلا إذا تخرج من هذه المدرسة الشرعيّة العريقة، وكان كبار علماء حلب يدرسون فيها العلوم الشرعيّة، وما زالت حتى اليوم تقوم بهذا الدور العلمي الرائد.

وفي هذه المدرسة انضمّ «محمّد» إلى أسرة جديدة لم يكن يعلم من أمرها شيئاً من قبل، فلم يكن في أسرته علماء من قبل، وكان الأطفال في المدينة يدرسون مبادىء القراءة والكتابة في الكتاتيب القرآنيّة التي كانت ملحقة بالمساجد، ويتعلم فيها الطفل قراة القرآن مع أقرانه وأبناء حيِّه، يجتمعون في قاعة واحدة، ويجلس المعلم في موقع مرتفع يشرف عليهم ويعلمهم القرآن ومبادىء الكتابة والإملاء وقواعد الحساب، وقلّما كان يتجاوز ذلك، ويتلقّى أجره من تلاميذه كلّ يوم خميس، وكانت هذه الكتاتيب موزعة في معظم الأحياء، وتحلّ مكان المدرسة، ولم تكن هناك مدارس في تلك الفترة التاريخية، ممّا أدى إلى شيوع الأميّة في المجتمع، وبخاصة بالنسبة للبنات، وكانت لفظة «الشيخ» تعني معلم القرآن للأولاد، و«الخوجة» معلمة القرآن للبنات، فإذا ختم الطفل القرآن أقيمت له حفلة تكريم واسعة، ورافقه زملاؤه إلى داره بكلّ مظاهر الفرحة، فتفرح الأسرة بطفلها الذي ختم القرآن، وغالباً ما كان التعليم يتوقف بعد ذلك.

أمّا من يختار طريق العلم فعليه أن يلتحق بالمدرسة «الخسرويّة»، فهناك علماء كبار وفقهاء مشهود لهم بالرواية والدراية وهم شيوخ، ولكنهم ليسوا كشيوخ الكتاتيب القرآنيّة التي كان يقوم بها إمام المسجد، والذي لا يتجاوز علمه القليل من الأحكام.

و«الخسروية» هي «أزهر» حلب، فمن تخرَّج منها فهو عالم يحتجُّ بعلمه، فإذا ذهب إلى الأزهر بعد ذلك فقد أصبح من علماء الأمّة، وتفخر أسرته به، وتفرح بما يضفيه على أهله من مهابة واحترام.

لم يكن «محمّد» عندما التحق بالخسرويّة يطمح بما يطمع به غيره من وظيفة في الأوقاف يسد بها حاجته للمال، فقد كان المال متوفراً لديه، ولم يكن يطمع في مكانة اجتماعيّة فقد كان طريقه معبداً لتحقيق هذه الغاية عن طريق أسرته وعشيرته، ولعلَّ هذا هو السبب الذي جعل والده وأسرته لا يشجّعون اختياره لطريق العلم، ويتساءلون فيما بينهم عن سرّ اختياره للعلم فلا يجدون جواباً سوى ما وجدوه في ولدهم من تعلّق بالعلم لا حدود له.

كان العالم في مدينة حلب يحظى بمكانة كبيرة من الاحترام، وبخاصّة إذا ارتبط العلم بالعمل، وتميّز سلوكه بالنزاهة والورع والتقوى، إلاّ أنَّ معظم الأسر الثريّة وذات المكانة الاجتماعيّة لا تشجِّع أبناءها على طلب العلم الشرعي، وقد تشجعه على الالتحاق بالدراسة العلميّة كالطب والهندسة والقانون، لأنَّ هذا العلم يأتي بالمال، ويقود صاحبه إلى مناصب عليا في الدولة، أمّا العلم الشرعي فلا يحقق الهدف الدنيوي، ولا يؤهِّل صاحبه لحياة مرفهة، وهذه ظاهرة كانت في الماضي واستمرت فيما بعد، وما زال الناس يبحثون عن الشهادات التي تؤهّل صابحها للكسب المادي والترقي في وظائف الدولة.

وكانت المدرسة «الخسرويّة» من أقدم المدارس العلميّة، ولم تكن هناك معاهد أو جامعات، ومن أراد العلم فهذا هو طريق العلم وهذه هي بوابته الأولى المعترف بها والمشهود بقيمتها.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك مدارس أقل قيمة، وهي مدارس كثيرة، وغالباً ما يلتحق بها أبناء الريف الذين يبحثون عن العلم، وتضم غرفاً خاصة للإقامة، وهناك أوقاف ينفق منها على هذه المدارس، وتعقد فيها مجالس للعلم، يقوم بها علماء متطوعون، يقرأون فيها كتب التفسير والحديث والفقه والأصول، وهذه المدارس لا يعترف بها ولا بقيمة شهادتها، إذ لم تكن الدراسة فيها منتظمة.

ارتدى «محمّد» ملابس العلماء، وأصبح يعرف «بالشيخ محمّد» وكان المجتمع في ذلك الحين لا يعترف بالعالم إلاّ إذا ارتدى ملابس العلماء، كالعمة والجبة، أما العالم الذي لا يرتدي ملابس العلم فلا يعترف بعلمه، ولو كان من كبار العلماء، وتحظى الشكليات في مجتمع ذلك العصر بأهميّة كبيرة، وعلى العالم أن يعتز بعلمه، ومظاهر العلم تتجلى في الالتزام بزيِّ العلماء، ولا يقبل من العالم أن يخلع ملابس العلم مهما كانت الأسباب.

وما زالت هذه الظاهرة قائمة في بعض المجتمعات أو البيئات الضيقة، وبالرغم من التطور الحاصل في المفاهيم فقد استمرت الظاهرة معبرة عن أهميّة المظاهر في البيئة الشعبيّة، بتأثير الموروث القديم من القيم والعادات، وهذه الظاهرة ليست خاصة بملابس العلماء، وإنّما نجدها في المظاهر والسلوكيّات الاجتماعيّة، فالتجّار لهم ملابسهم، والعلماء لهم ملابسهم، والمتدينون لهم ملابسهم، ويحظى الطربوش التركي الأحمر بمكانة في ذلك العصر، فالعالم يضع العمامة البيضاء، والتاجر المتدين يضع إطاراً أصفر على الطربوش، وإذا جاء الطربوش خالياً من كلّ شيء فهذا لباس أهل المدينة.

ويختلف اللباس بحسب الأجيال، فالأجداد لهم زيّهم الوطني الذي يلتزمون به، ويختلف لباس الأبناء والأحفاد عن لباس آبائهم وأجدادهم، وهذه قضيّة قيم سائدة يتعارف المجتمع عليها ويألفها ويلزم نفسه بها، ومن اليسير أن نجد أنَّ ملابس العلماء في كلّ بلد عربي يختلف عن الآخر، وهو لباس وطني يعبر عن اختيارات اجتماعيّة وتقاليد سائدة.

حظي الشيخ محمّد بمكانة ممّيزة بين أفراد أسرته وعشيرته، وأخذ والده يعامله باحترام وتقدير، لا بسبب ما التزم به من ملابس العلماء، وإنّما بسبب ما اشتهر به بين أسرته وأصدقائه من استقامة في السلوك ونزاهة في المواقف وصدق في الأقوال وترفّع عن الأطماع وزهد فيما يطمع فيه غيره، وهو بالإضافة إلى هذه الأخلاق كان محبباً إلى النفس بسبب نقاء قلبه وطهارة نفسه وإيمانه بربه والالتزام بطاعته في كلّ ما أمر به ونهى عنه، والتطلّع إلى الفضائل والكمالات، والتحلّي بالخلق الحسن.

أعجب اساتذته في المدرسة الخسرويّة بخلقه الرفيع وتمسكه بالقيم الإنسانيّة العاليّة، ورأوا فيه نجابة ذهنيّة وصفاءً نفسياً واستقامة سلوكيّة، وأخذوا يقربونه منهم، ويتحاورون معه، فيزدادون به إعجاباً وتقديراً.

كان بعيداً عن اللغو في الكلام والجدل العقيم، وكانت له خصال مثيرة للاهتمام، وأهمها أنّه يتحدّث بلغة غير مألوفة لدى زملائه من الطلاّب، فلا يشاركهم في همومهم المعتادة، ولا يتخاصم مع أحد منهم، فإذا أساء إليه أحدهم بكلمة أو نقد أعرض عنه، وإذا وجد أحدهم في ضائقة أو شدّة وقف معه بصدق وأخذ بيده.

كان مشهوراً بعفِّة اللسان، فلا يجري على لسانه ما يجري على لسان أمثاله من سباب وشتيمة، وكان بعيداً عن الحقد الذي لا يعرف له مكاناً في قلبه، وبعيداً عن الطمع فلا مكان في قلبه لمال أو جاه ممّا يشغل سواه.

مفهوم العلم لدى الشيخ:

كان الشيخ يبحث عن العلم، ولكن ما هو العلم الذي يبحث عنه، لم يجد ما يبحث عنه في علوم النحو والصرف، ولم يجده في علوم الفقه والأصول والتوحيد، كان يبحث عن علم آخر يشعر معه أنَّ العلم يقوده إلى العمل، وينعكس أثره على السلوك، سموّاً وتخلّقاً وهمَّة.

وأخذ يبحث عن العلم الذي يريد من خلال ما يسمعه من أساتذته، فلم يسمع الجواب الشافي لسؤاله، وأخذ يبحث عن ذلك من خلال الكتب المقرّرة للدراسة والتحصيل، فلم يجد الجواب.

وعكف على كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رضي الله عنه يقرأه كلّ يوم، كان سعيداً بقراءته لهذا الكتاب، لعلَّه هو المعلم الأول الذي كان يلقّنه المفاهيم الأولى للعلم الذي يبحث عنه.

ووجد أنَّ العلماء اختلفوا في مفهومهم للعلم المطلوب والمحمود الذي يعدّ فرض عين، وجاءت النصوص بالدعوة لطلبه، وكان كلّ فريق من العلماء يدافع عن العلم كما يراه ذلك الفريق، فقال المتكلمون إنّه علم الكلام لأنّه يُدرك به التوحيد وتعلم به ذات الله وصفاته، وقال الفقهاء هو علم الفقه لأنّه يدرك به الحلال والحرام في العبادات والمعاملات وما يحتاج إليه الناس، وقال المفسِّرون هو العلم الذي تدرك به معاني القرآن وأحكامه، وقال المتصوِّفة هو العلم الذي يدرك به العبد حاله ومقامه من الله تعالى وهو علم الإخلاص الذي ترتقي به النفوس وتصفو به القلوب.

وبدأت النافذة المغلقة تتفتح أمامه عن عالم جديد لم يعرفه من قبل، كان يشعر به في أعماقه، ولا يجد أثره في محيطه، ولابدّ من التوغل في هذا الفضاء الرحب من المعرفة التي أشعرته بالسكون القلبي وأمدّته برؤية معرفيّة جديدة.

والعلوم كما شرحها له الإمام الغزاليّ هي أصول لابدَّ منها ولا يمكن لطالب علم أن يجهلها، فإن جهلها فقد ضلَّ طريقه، وهي معرفة ما في كتاب الله وما في سنّة رسول الله وما أجمعت عليه الأمّة وما ورد عن الصحابة من آثار، والعالم الذي يجهل هذه الأصول ولا يعلمها لا يسمّى عالماً بحال من الأحوال، وقد ضلَّ من ضلَّ بسبب جهلهم بهذه الأصول.

أمّا علوم الفروع فهي نوعان، ما تعلّق بشؤون الدنيا وهو الفقه، والفقهاء هم علماء الدنيا وما تعلّق بشؤون الآخرة فهو علم أحوال القلب، وما يعتريه من صفات محمودة ومذمومة، وما يجري في القلب ينعكس أثره على الجوارح، فتستجيب لدعوة القلب وتوجيهاته واختياراته.

ووقف الشيخ متأملاً في ملامح هذا العلم، ولعلَّه العلم الذي يبحث عنه، ويشعره بالسكون النفسي والطمأنينة التي يسعى إليهاوتلك هي الضالّة التي هجر عالمه الأول لأجلها، إنّه الحب الجديد الذي يشدّه بقوة إليه.

إنّه يريد العلم الذي يقوده إلى المعرفة، والمعرفة هي غاية العلوم، والعلم الذي لا يقود صاحبه إلى المعرفة هو علم قاصر لا يؤدّي الغاية المرجوة منه، وأول الطريق لهذه المعرفة أن يتحرر الإنسان من كلّ تعلق له بالدنيا وأن يتجرد من كل العوائق، وأن يطهِّر قلبه من كل الكدورات وأن يكون ورعه ليس ورع الصالحين الذين يبتعدون عن الشبهات في مجال الحلال والحرام، وإنّما يمتد هذا الورع لكي يشمل الإعراض عن كل ما سوى الله مما تتعلّق به النفس ويميل إليه القلب.

اتجهت أبصار الشيخ خارج نطاق مدرسته وبعيداً عن أساتذته، إنهم في المدرسة يدرسونه علوم الدنيا، وهو يريد أن يعرف علوم الآخرة، العلوم التي توصله إلى ربه، لكي يتحقق بعبديته لله تعالى، وبدأت رحلة البحث عن الشيخ المربي الذي يأخذ بيده، ويرتقي به في معارج السلوك، إلى مرتبة المعرفة.

حياتهم. 

 

 

 

   

 

( الزيارات : 1٬292 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *