السيد النبهان..وطريق العلم

التحوّل إلى طريق العلم:

عندما ضاق الأمر بوالده، وسدّت أمامه أبواب الأمل، أمسك بيد ولده الشاب وقاده برفق إلى غرفة منعزلة، وخاطبه بكلّ العواطف التي يملكها الأب نحو ابنه الأكبر، وبكلّ الحب الذي بدأت ملامحه في كلماته الهادئة الرصينة، وسأله عما يريده ويبحث عنه.

انهمرت دمعة سخيّة من عيني الشاب، وقال لوالده بكلّ رفق وأدب: ممّا يؤلمني يا والدي ويحزنني أنني لم أحقق لك ما كنت تتطلع إليه وتنتظره منّي، لقد حرصت بكلّ طاقتي على أن أكون الابن البار لك الذي يسعدك بعمله معك، ولكن لا أقدر على ذلك، ولا أشعر بكياني وذاتي في هذا الطريق، وأبحث عن طريق آخر قد أجد صفاء قلبي فيه، وقد شرح الله صدري للتفرغ لعبادته وسلوك الطريق إليه تعالى لمعرفته ومصاحبة الصالحين ممن تنفعني صحبتهم وتقودني مجالستهم إلى شهود منة الله عليَّ بما أكرمني به من نعمه وفضله.

وأخذ «محمّد» يحدث والده عما يشعر به في أعماقه من فضل الله عليه، وأنه يريد أن يسلك طريقه إلى الله بالعلم والطاعة وطهارة القلب من التعلِّق بمظاهر الدنيا.

فاضت عينا الأب بالدموع، وأمسك برأس ولده برفق وضمه إلى صدره، وقال له:

ألا تريد يا ولدي أن نحتكم إلى عالم كبير من علماء الشريعة ومن فقهاء الدين، لعلَّه يدلّنا على الطريق الذي يرضيك ويرضيني.

وذهبا معاً إلى علاّمة مدينة حالب وشيخها الكبير المعروف بعلمه وورعه الشيخ نجيب سراج الدين، وشرح الأب للشيخ الطريق الذي اختاره ابنه وتوجَّه الشيخ إلى «محمّد» ونصحه بأن يقسم وقته بين العلم والعمل، وبذلك يحقق رغبته بطلب العلم ويلبِّي رغبة والده بالعمل معه في تجارته.

أطرق الشاب رأسه أدباً وحياءً من الشيخ وأجابه بأنَّ العلم الذي اختار طريقه يحتاج منه إلى أن يتفرّغ قلبه له، ولا يمكن لقلبه الذي أحبَّ العلم وتعلَّق به أن يجتمع فيه حب آخر للعمل، ولابدّ من التفرغ لطلب العلم.

وتعلق «محمّد» بمجالس العلم التي كانت تعقد في المساجد الكبيرة، وأصبح يجالس العلماء الذين اشتهروا بالعلم والصلاح والتقوى والورع، ثم انتسب إلى المدرسة الخسرويّة الشهيرة التي تقع قرب باب القلعة، وكانت هذه المدرسة بالنسبة لمدينة حلب كالأزهر في مصر، وتخرّج منها كبار العلماء، ولم يكن يعترف بالعالم إلا إذا تخرج من هذه المدرسة الشرعيّة العريقة، وكان كبار علماء حلب يدرسون فيها العلوم الشرعيّة، وما زالت حتى اليوم تقوم بهذا الدور العلمي الرائد.

وفي هذه المدرسة انضمّ «محمّد» إلى أسرة جديدة لم يكن يعلم من أمرها شيئاً من قبل، فلم يكن في أسرته علماء من قبل، وكان الأطفال في المدينة يدرسون مبادىء القراءة والكتابة في الكتاتيب القرآنيّة التي كانت ملحقة بالمساجد، ويتعلم فيها الطفل قراة القرآن مع أقرانه وأبناء حيِّه، يجتمعون في قاعة واحدة، ويجلس المعلم في موقع مرتفع يشرف عليهم ويعلمهم القرآن ومبادىء الكتابة والإملاء وقواعد الحساب، وقلّما كان يتجاوز ذلك، ويتلقّى أجره من تلاميذه كلّ يوم خميس، وكانت هذه الكتاتيب موزعة في معظم الأحياء، وتحلّ مكان المدرسة، ولم تكن هناك مدارس في تلك الفترة التاريخية، ممّا أدى إلى شيوع الأميّة في المجتمع، وبخاصة بالنسبة للبنات، وكانت لفظة «الشيخ» تعني معلم القرآن للأولاد، و«الخوجة» معلمة القرآن للبنات، فإذا ختم الطفل القرآن أقيمت له حفلة تكريم واسعة، ورافقه زملاؤه إلى داره بكلّ مظاهر الفرحة، فتفرح الأسرة بطفلها الذي ختم القرآن، وغالباً ما كان التعليم يتوقف بعد ذلك.

أمّا من يختار طريق العلم فعليه أن يلتحق بالمدرسة «الخسرويّة»، فهناك علماء كبار وفقهاء مشهود لهم بالرواية والدراية وهم شيوخ، ولكنهم ليسوا كشيوخ الكتاتيب القرآنيّة التي كان يقوم بها إمام المسجد، والذي لا يتجاوز علمه القليل من الأحكام.

و«الخسروية» هي «أزهر» حلب، فمن تخرَّج منها فهو عالم يحتجُّ بعلمه، فإذا ذهب إلى الأزهر بعد ذلك فقد أصبح من علماء الأمّة، وتفخر أسرته به، وتفرح بما يضفيه على أهله من مهابة واحترام.

لم يكن «محمّد» عندما التحق بالخسرويّة يطمح بما يطمع به غيره من وظيفة في الأوقاف يسد بها حاجته للمال، فقد كان المال متوفراً لديه، ولم يكن يطمع في مكانة اجتماعيّة فقد كان طريقه معبداً لتحقيق هذه الغاية عن طريق أسرته وعشيرته، ولعلَّ هذا هو السبب الذي جعل والده وأسرته لا يشجّعون اختياره لطريق العلم، ويتساءلون فيما بينهم عن سرّ اختياره للعلم فلا يجدون جواباً سوى ما وجدوه في ولدهم من تعلّق بالعلم لا حدود له.

كان العالم في مدينة حلب يحظى بمكانة كبيرة من الاحترام، وبخاصّة إذا ارتبط العلم بالعمل، وتميّز سلوكه بالنزاهة والورع والتقوى، إلاّ أنَّ معظم الأسر الثريّة وذات المكانة الاجتماعيّة لا تشجِّع أبناءها على طلب العلم الشرعي، وقد تشجعه على الالتحاق بالدراسة العلميّة كالطب والهندسة والقانون، لأنَّ هذا العلم يأتي بالمال، ويقود صاحبه إلى مناصب عليا في الدولة، أمّا العلم الشرعي فلا يحقق الهدف الدنيوي، ولا يؤهِّل صاحبه لحياة مرفهة، وهذه ظاهرة كانت في الماضي واستمرت فيما بعد، وما زال الناس يبحثون عن الشهادات التي تؤهّل صابحها للكسب المادي والترقي في وظائف الدولة.

وكانت المدرسة «الخسرويّة» من أقدم المدارس العلميّة، ولم تكن هناك معاهد أو جامعات، ومن أراد العلم فهذا هو طريق العلم وهذه هي بوابته الأولى المعترف بها والمشهود بقيمتها.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك مدارس أقل قيمة، وهي مدارس كثيرة، وغالباً ما يلتحق بها أبناء الريف الذين يبحثون عن العلم، وتضم غرفاً خاصة للإقامة، وهناك أوقاف ينفق منها على هذه المدارس، وتعقد فيها مجالس للعلم، يقوم بها علماء متطوعون، يقرأون فيها كتب التفسير والحديث والفقه والأصول، وهذه المدارس لا يعترف بها ولا بقيمة شهادتها، إذ لم تكن الدراسة فيها منتظمة.

ارتدى «محمّد» ملابس العلماء، وأصبح يعرف «بالشيخ محمّد» وكان المجتمع في ذلك الحين لا يعترف بالعالم إلاّ إذا ارتدى ملابس العلماء، كالعمة والجبة، أما العالم الذي لا يرتدي ملابس العلم فلا يعترف بعلمه، ولو كان من كبار العلماء، وتحظى الشكليات في مجتمع ذلك العصر بأهميّة كبيرة، وعلى العالم أن يعتز بعلمه، ومظاهر العلم تتجلى في الالتزام بزيِّ العلماء، ولا يقبل من العالم أن يخلع ملابس العلم مهما كانت الأسباب.

وما زالت هذه الظاهرة قائمة في بعض المجتمعات أو البيئات الضيقة، وبالرغم من التطور الحاصل في المفاهيم فقد استمرت الظاهرة معبرة عن أهميّة المظاهر في البيئة الشعبيّة، بتأثير الموروث القديم من القيم والعادات، وهذه الظاهرة ليست خاصة بملابس العلماء، وإنّما نجدها في المظاهر والسلوكيّات الاجتماعيّة، فالتجّار لهم ملابسهم، والعلماء لهم ملابسهم، والمتدينون لهم ملابسهم، ويحظى الطربوش التركي الأحمر بمكانة في ذلك العصر، فالعالم يضع العمامة البيضاء، والتاجر المتدين يضع إطاراً أصفر على الطربوش، وإذا جاء الطربوش خالياً من كلّ شيء فهذا لباس أهل المدينة.

ويختلف اللباس بحسب الأجيال، فالأجداد لهم زيّهم الوطني الذي يلتزمون به، ويختلف لباس الأبناء والأحفاد عن لباس آبائهم وأجدادهم، وهذه قضيّة قيم سائدة يتعارف المجتمع عليها ويألفها ويلزم نفسه بها، ومن اليسير أن نجد أنَّ ملابس العلماء في كلّ بلد عربي يختلف عن الآخر، وهو لباس وطني يعبر عن اختيارات اجتماعيّة وتقاليد سائدة.

حظي الشيخ محمّد بمكانة ممّيزة بين أفراد أسرته وعشيرته، وأخذ والده يعامله باحترام وتقدير، لا بسبب ما التزم به من ملابس العلماء، وإنّما بسبب ما اشتهر به بين أسرته وأصدقائه من استقامة في السلوك ونزاهة في المواقف وصدق في الأقوال وترفّع عن الأطماع وزهد فيما يطمع فيه غيره، وهو بالإضافة إلى هذه الأخلاق كان محبباً إلى النفس بسبب نقاء قلبه وطهارة نفسه وإيمانه بربه والالتزام بطاعته في كلّ ما أمر به ونهى عنه، والتطلّع إلى الفضائل والكمالات، والتحلّي بالخلق الحسن.

أعجب اساتذته في المدرسة الخسرويّة بخلقه الرفيع وتمسكه بالقيم الإنسانيّة العاليّة، ورأوا فيه نجابة ذهنيّة وصفاءً نفسياً واستقامة سلوكيّة، وأخذوا يقربونه منهم، ويتحاورون معه، فيزدادون به إعجاباً وتقديراً.

كان بعيداً عن اللغو في الكلام والجدل العقيم، وكانت له خصال مثيرة للاهتمام، وأهمها أنّه يتحدّث بلغة غير مألوفة لدى زملائه من الطلاّب، فلا يشاركهم في همومهم المعتادة، ولا يتخاصم مع أحد منهم، فإذا أساء إليه أحدهم بكلمة أو نقد أعرض عنه، وإذا وجد أحدهم في ضائقة أو شدّة وقف معه بصدق وأخذ بيده.

كان مشهوراً بعفِّة اللسان، فلا يجري على لسانه ما يجري على لسان أمثاله من سباب وشتيمة، وكان بعيداً عن الحقد الذي لا يعرف له مكاناً في قلبه، وبعيداً عن الطمع فلا مكان في قلبه لمال أو جاه ممّا يشغل سواه.

مفهوم العلم لدى الشيخ:

كان الشيخ يبحث عن العلم، ولكن ما هو العلم الذي يبحث عنه، لم يجد ما يبحث عنه في علوم النحو والصرف، ولم يجده في علوم الفقه والأصول والتوحيد، كان يبحث عن علم آخر يشعر معه أنَّ العلم يقوده إلى العمل، وينعكس أثره على السلوك، سموّاً وتخلّقاً وهمَّة.

وأخذ يبحث عن العلم الذي يريد من خلال ما يسمعه من أساتذته، فلم يسمع الجواب الشافي لسؤاله، وأخذ يبحث عن ذلك من خلال الكتب المقرّرة للدراسة والتحصيل، فلم يجد الجواب.

وعكف على كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رضي الله عنه يقرأه كلّ يوم، كان سعيداً بقراءته لهذا الكتاب، لعلَّه هو المعلم الأول الذي كان يلقّنه المفاهيم الأولى للعلم الذي يبحث عنه.

ووجد أنَّ العلماء اختلفوا في مفهومهم للعلم المطلوب والمحمود الذي يعدّ فرض عين، وجاءت النصوص بالدعوة لطلبه، وكان كلّ فريق من العلماء يدافع عن العلم كما يراه ذلك الفريق، فقال المتكلمون إنّه علم الكلام لأنّه يُدرك به التوحيد وتعلم به ذات الله وصفاته، وقال الفقهاء هو علم الفقه لأنّه يدرك به الحلال والحرام في العبادات والمعاملات وما يحتاج إليه الناس، وقال المفسِّرون هو العلم الذي تدرك به معاني القرآن وأحكامه، وقال المتصوِّفة هو العلم الذي يدرك به العبد حاله ومقامه من الله تعالى وهو علم الإخلاص الذي ترتقي به النفوس وتصفو به القلوب.

وبدأت النافذة المغلقة تتفتح أمامه عن عالم جديد لم يعرفه من قبل، كان يشعر به في أعماقه، ولا يجد أثره في محيطه، ولابدّ من التوغل في هذا الفضاء الرحب من المعرفة التي أشعرته بالسكون القلبي وأمدّته برؤية معرفيّة جديدة.

والعلوم كما شرحها له الإمام الغزاليّ هي أصول لابدَّ منها ولا يمكن لطالب علم أن يجهلها، فإن جهلها فقد ضلَّ طريقه، وهي معرفة ما في كتاب الله وما في سنّة رسول الله وما أجمعت عليه الأمّة وما ورد عن الصحابة من آثار، والعالم الذي يجهل هذه الأصول ولا يعلمها لا يسمّى عالماً بحال من الأحوال، وقد ضلَّ من ضلَّ بسبب جهلهم بهذه الأصول.

أمّا علوم الفروع فهي نوعان، ما تعلّق بشؤون الدنيا وهو الفقه، والفقهاء هم علماء الدنيا وما تعلّق بشؤون الآخرة فهو علم أحوال القلب، وما يعتريه من صفات محمودة ومذمومة، وما يجري في القلب ينعكس أثره على الجوارح، فتستجيب لدعوة القلب وتوجيهاته واختياراته.

ووقف الشيخ متأملاً في ملامح هذا العلم، ولعلَّه العلم الذي يبحث عنه، ويشعره بالسكون النفسي والطمأنينة التي يسعى إليهاوتلك هي الضالّة التي هجر عالمه الأول لأجلها، إنّه الحب الجديد الذي يشدّه بقوة إليه.

إنّه يريد العلم الذي يقوده إلى المعرفة، والمعرفة هي غاية العلوم، والعلم الذي لا يقود صاحبه إلى المعرفة هو علم قاصر لا يؤدّي الغاية المرجوة منه، وأول الطريق لهذه المعرفة أن يتحرر الإنسان من كلّ تعلق له بالدنيا وأن يتجرد من كل العوائق، وأن يطهِّر قلبه من كل الكدورات وأن يكون ورعه ليس ورع الصالحين الذين يبتعدون عن الشبهات في مجال الحلال والحرام، وإنّما يمتد هذا الورع لكي يشمل الإعراض عن كل ما سوى الله مما تتعلّق به النفس ويميل إليه القلب.

اتجهت أبصار الشيخ خارج نطاق مدرسته وبعيداً عن أساتذته، إنهم في المدرسة يدرسونه علوم الدنيا، وهو يريد أن يعرف علوم الآخرة، العلوم التي توصله إلى ربه، لكي يتحقق بعبديته لله تعالى، وبدأت رحلة البحث عن الشيخ المربي الذي يأخذ بيده، ويرتقي به في معارج السلوك، إلى مرتبة المعرفة.

البحث عن الشيخ المربي:

اشتهرت مدينة حمص بجمال طبيعتها ونقاء هوائها، وصفاء فطرة أهلها، وما زالت حتى اليوم محتفظة بخصوصياتها الإنسانيّة، ويخترقها نهر العاصي الذي يضفي على أهلها تلك الجماليّة المحببة إلى النفس في التربيّة والتوجيه والمزاج الهادىء والطبيعة المعتدلة.

ويتوسطها جامع خالد بن الوليد الصحابي الجليل الذي قاد جيوش الفتح بعبقريّة فريدة وحقق بهم أعظم الانتصارات، وبفضل بركته على هذه المدينة التي تقع في وسط سوريا كثر الصالحون فيها وامتد عطاؤهم إلى المناطق الشماليّة في مجال التربيّة الروحيّة.

واشتهر الشيخ سليم خلف الحمصي بالولايّة والصلاح والورع وترأس الطريقة النقشبنديّة عن جدارة، ولمّا توفِّي خلفه في مشيخة الطريقة ابنه الشيخ أبو النصر بن سليم خلف، وكانت له زاويّة مشهورة في حمص، واشتهر أمره في مدينة حلب وفي المناطق الريفيّة التابعة لها، وكان صاحب سرِّ مشهود به.

التقى الشيخ محمّد وهو المتعطّش إلى سلوك طريق القوم بالشيخ الوافد من حمص، فانجذب إليه وتعلّق به وأحبّه ووجد فيه المربي الذي يبحث عنه، وقرّبه الشيخ منه وبادله الحب بعد أن وجد في سلوكه الصدق في الطلب.

ازداد تعلق الشيخ محمّد بشيخه أبي النصر، ولازم مجالسه، وتمسّك بصحبته، وأعطى هذه الصحبة حقها من الأدب مع الشيخ والتخلّق بأخلاق الصوفيّة الحقّة، والالتزام بآداب السلوك، وأول خطوة في ذلك أن يعرف السالك حقيقة المقامات والأحوال وطبيعة المواجيد والواردات، والالتزام بالشريعة والابتعاد عن الشطحات المعبرة عن ضعف السالك وعدم التحكم في مواجيده.

والتصوف تربيّة خاصة، وتقوم على أساس الأحوال، ولا يرث الأحوال إلا من صحح الأعمال، ولا يتم تصحيح العمل إلا بالتوبة وهي أول مقامات السالكين، والتوبة هي الرجوع عما هو مذموم من الأعمال إلى ما هو محمود منها، ولكي تتحقق التوبة فلابدّ من علم سابق يورث حالاً، والأعمال مواريث الأحوال، فمن لا حال له فلا يثمر علمه استقامة في السلوك، والأحوال مواهب تأتي سريعة كالبروق ثم تغيب مخلفة وراءها ذلك الأثر الذي يعقبه العمل، وهو الثمرة المرجوَّة.

فإذا أحسن السالك التوبة بعد محاسبة نفسه ومراقبتها فلابدّ له من مقام العبد، وهو مقام هام من مقامات السالكين وقد تحدث القرآن الكريم عن مقام الصبر، ومدح الصابرين بأنهم يوفون أجورهم بغير حساب، ولابدّ من مقام الصبر من حال يهيىء السالك للصبر على ترك الشهوات والملذات، وذلك بتقوية وتغذية القوة العاقلة على القوة الغريزية في حالتي الشهوة والغضب، ولابدّ من تنمية الباعث الديني في مواجهة الباعث الغريزي، فإذا قويت بواعث الدين تراجعت بواعث الشهوات، وتحقق الالتزام بأحكام الشرع وما يدعو إليه من القيام بالطاعات وترك ما يدعو إليه الهوى من المنكرات.

لم يتوقف «الشيخ محمّد» عن حدود الذكر المعتاد في الطريقة كما تقضى بذلك تقاليد الطرق وإنّما بدأت مجالسه ومذاكراته مع إخوانه تحظى بقدر واسع من الاهتمام، وأصحبت دروسه في المعرفة والتربيّة والمجاهدة والسلوك والمقامات والأحوال تعطي لمجالس الطريقة وأذكارها حياة معرفيّة جديدة.

مرحلة المجاهدة:

بدأ الشيخ محمّد بتزكيّة نفسه عن طريق المجاهدات التي ألزم نفسه بها، والمجاهدة في نظر الصوفيّة هي بدايّة الطريق إلى الله، ولابدّ في المجاهدة من السيطرة على النفس والتحكم في قواها الغريزيّة، فحظ النفس في المعصيّة ظاهر وجليّ وحظها في الطاعة باطن وخفيّ، ولابدّ من مداواة ما هو خفي بالمجاهدة ومقاومة الصفات المذمومة في النفس واستبدالها بالصفات المحمودة، وهذا الأمر لا يتحقق إلا بأمرين، إمّا الجود الإلهي الذي يكرم به بعض عباده ممن تولاهم بالعنايّة والرعايّة كالأنبياء وإمّا أن يتم ذلك بمجاهدة النفس، لكي ينحجب القلب عن العلائق الدنيويّة، ويقبل بكليته على الله تعالى، فمن أقبل على الله تعالى تولى الله تعالى قلبه، وتكفل بهدايته وأنار سرَّه بنور الرحمة، فكان في موطن الرعايّة والعنايّة الإلهية.

وبدأ الشيخ طريقه بالخطوات التاليّة:

الخطوة الأولى:

قطع علائقه بالدنيا وبكلّ ما يشغل قلبه من الانشغالات الخارجيّة من مال وأسرة وجاه وأصدقاء، وطريق ذلك هو الخلوة، وتبتدىء الخلوة بالعزلة لكي يتقي الناس، ويبتعد عن مداراتهم، ولكي يحفظ قلبه، فلا يدخله عن طريق السمع والبصر ما يعكر صفوه، وانطلاقاً من هذا المبدأ فقد اعتزل الناس وانصرف إلى العلم، ولابدّ من العلم في مرحلة السلوك الأولى لكيلا يضل طريقه، والسلوك إذا بني على غير العلم والالتزام بالشريعة فسرعان ما يؤدّي إلى الغرور والانحراف والضلال، وتحقيقاً لهذا الهدف انصرف الشيخ عن كلّ الانشغالات الدنيويّة وزهد في المال والجاه، وقنع بالقليل الذي يكفيه لحياة بسيطة، فكان يأكل قليلاً من الخبز اليابس ويلبس الملابس الخشنة البسيطة، ويحاسب نفسه إذا طالبته بما هو أكثر من ذلك، فكان يكفيه القليل من الطعام، مع وفرة الطعام إذا أراده، ولكنه اختار طريق المجاهدة لفطم النفس عن مطالبها الغريزيّة، وقد نتساءل عن سر ذلك، وسنجد الجواب لكلّ ما نتساءل عنه في كلام الإمام الغزالي الذي كان الشيخ يعكف في عزلته على قراءة كتابه «الإحياء»، ويقول الإمام الغزاليّ بأنّه لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع السالك نفسه عن التنعم، فإنَّ النفس إذا لم تمنع من المباحات طمعت في المحظورات(%1)، وطريق المجاهدة عند الغزالي يختلف باختلاف السالك، والأصل فيه أن يترك كلّ واحد ما به فرحه من أسباب الدنيا فالذي يفرح بالمال أو بالجاه أو بالقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولايّة أو بكثرة الاتّباع في التدريس والإفادة فينبغي أن يترك ما به.

الخطوة الثانية:

الأنس بالخلوة والابتعاد عن الناس، وهي مرحلة امتدت سنوات من حياته، وفي هذه المرحلة تتجه النفس إلى الخلوة بعد أن تشعر بالأنس بالله، فمن وجد أنسه بالله نفر من الخلق وضاق بهم، وكان الشيخ يتحدث كثيراً عن هذه المرحلة من حياته في السلوك، ولابدّ بعد العزلة من الخلوة، لأنَّ النفس إذا تزكت شعرت بسكون القلب، وأنست بالله تعالى، ولا تشعر بالوحشة في خلوتها، والخلوة هي صفة أهل الصفوة من السالكين، وقد اختار الشيخ جامع الكلتاويّة الصغير المنعزل الذي يقع فوق رابيّة تطل على باب الحديد وقبو النجارين وحي البياضة المتفرع من شارع القلعة، ولا أحد يدري لماذا اختار هذا الجامع المنعزل الصغير القديم، الذي أصبح فيما بعد منارة ثقافيّة عظيمة الأثر في حياة مدينة حلب، وقد اختار الشيخ هذا المكان على أي مكان آخر، وحافظ على وفائه لهذا الجامع، فلم يغادره فيما بعد حيث بنى فيه غرفة صغيرة وحماماً صغيراً، وجعل أرض الجامع حديقة غناء جميلة مليئة بالزهور والورود، وكان يحرص على العناية بهذه الحديقة بنفسه، ويستقبل في غرفته المتواضعة إخوانه المحبين، يقرأ في الصباح في كتبه ويستقبل في المساء إخوانه، ويعتكف في هذا المسجد فلا يخرج منه ولا يخالط أحداً إلا العدد القليل من محبيه، وكان في بداية سلوكه قليل الكلام يغلب عليه الصمت، يقوم ليله بالتهجّد والعبادة ويقضي نهاره بالتأمّل وقراءة القرآن.

الخطوة الثالثة:

استحضار القلب في الصلاة والأذكار، وتركيز الذهن في الله تعالى، عن طريق ترديد كلمة: الله الله الله، إلى أن تصبح كلمة الله جارية على اللسان من غير ترديد أو تكلّف، مع توجيه الهمّة إلى الله تعالى، وعندئذ ينجذب القلب إلى الله، وينكشف للسالك ما يعجز العقل عن إدراكه عن طريق الفطرة النقيّة من أنواع المعارف التي تنقدح في القلب الذي يعتبر كالمرآة التي تنطبع فيها الحقائق من غير حجب مانعة، وتحصل صورة المعلومات في القلب كما تحصل صورة الشمس في الماء الصافية.

وفي هذه المرحلة من السلوك يصل الإنسان إلى مرحلة المعرفة بالله، ومن أبرز علائم المعرفة بالله حصول الهيبة في القلب من الله تعالى، وعندئذ يغيب السالك عن نفسه ويستولي عليه ذكر الحق في حركاته وسكناته، فلا يشهد إلا الله فيما يصيبه وفيما يواجهه، فالله هو المعطي وهو المانع وهو المبتلي وهو الرازق وهو الباسط، وعندئذ تزول من قلبه الهيبة من الخلق، فلا يخشى الطغاة والمتجبرين، ويكون قريباً من الخلق لأنهم عيال الله، يفتح قلبه لهم، ويجند نفسه لخدمة المستضعفين، ولا تحمله نعم الله التي أنعمها عليه سواء كانت مالاً أو سلطة أو جاهاً على أن يهتك أسرار محارم الله، رحمة بهم، وامتثالاً لأمر الله في رعايّة شؤونهم.

وكان الشيخ يتحدث في مجالسه عن حضور القلب، ويعتبر ذلك من أهم ما تحققه مجاهدة النفس، وحضور القلب هو ثمرة المجاهدة، ولا يتحقق هذا الحضور إلا بإفراغ القلب عن كلّ ما هو ملابس له، فيتحقق الإنسان بعبديته لله تعالى، وهو طريق للفهم، ومن ثمراته الأدب مع الله تعالى، ويحذر من غفلة القلب في الذكر أو العبادة، فالغفلة تورث ظلمة وانقطاعاً، وتكون حجاباً للسالك، فلا تثمر عبادته الثمرة المرجوَّة منها، ولا يشعر بالنور الذي يضيء القلب بعد الذكر.

والمجاهدة التي لا تثمر حضور القلب وصفاءه هي مجاهدة الغافلين المحجوبين عن ربهم بانشغالاتهم الدنيويّة.

الترقي في مراتب السلوك:

أول ما يجب على المريد أن يلتزم به في سلوكه أن يرعى حق الله تعالى في قلبه، وأوّل خطوة في هذه الرعايّة أن يتحكم في جوارحه فلا يسمح لها بأن تتمرد عـ ما يجب أن تلتزم به من حقوق الله، وتتمثّل حقوق الله في أمور ثلاثة:

أولها:

الإيمان بالله وهذا يتطلب تصحيح العقيدة من كلّ السلوكيات والمعتقدات الفاسدة المتمثلة في الخضوع لغير الله، فالله تعالى هو الخالق الذي يستحق العبادة، ولا عبادة لغير الله، وأول ما يجب على المريد السالك أن يعرفه كما يقول الإمام المحاسبي أن يعلم العبد أنه عبد مربوب ولا نجاة له إلا بتقوى سيده جل وعز ومولاه، وأن يفكر في خلقه، لماذا خلق ولماذا وضع في هذه الدنيا وأنَّ هذه الدنيا لم تخلق عبثاً ولم يترك سدى، وإنّما خُلق في هذه الدنيا للبلوى والاختبار، فإما أن يكون طائعاً أو عاصياً، وأن العبد المربوب يجب أن يحرض على مرضاة ربه وأول خطوة في هذه الطاعة أن يتعلم ما في كتاب الله وسنة نبيه لئلا يضلّ طريقه، فالعلم هو دليل السلامة، والعلم يحتاج إلى ورع وتقوى، ولا تتحقق التقوى إلا بمحاسبة النفس وأداء الفرائض والسنن طلباً للفلاح، ولا فلاح إلاّ بالتقوى لقوله تعالى: {{ع94س3ش031ن9/س3ش031ن221} [آل عمران: 130] والناس ليسوا سواء في رعايّة حقوق الله، فمن نشأ على الفطرة الصافيّة والتزم بما أمر الله به، فهو أقدر على رعايّة حقوق الله، فإن وقع في الزلّة فسرعان ما يعود إلى الطاعة بالتوبة والندم، ومن غلبه الهوى وفسد مزاجه واضطربت فطرته، وضعف خوفه من الله فسرعان ما يسقط فريسة الغفلة ويقسو قلبه، ويصرُّ على تمرّده على حقوق الله، وتجاهله لما أمره الله به من الطاعات.

ثانيها:

التمسك بالسنة في مواجهة البدع الضالة من المعتقدات والعبادات، والبدعة في العقيدة مفسدة للعقيدة، والبدعة في العبادات تقود إلى الضلالة والانحراف، وعلى المربِّي أن يدفع السالك إلى طريق الاستقامة، وأن يحضّه على التمسك بمنهج السلف الصالح وأن لا يسمح له بتجاوز ذلك في سلوكه، ولا خشيّة على السالك في كل الأحوال التي يمر بها ما دام مراعياً حقوق الله الواجبة عليه، ولابد من أن تعترض طريق سلوكه أحوال مفاجئة نتيجة الواردات التي تأتيه فجأة، من فرح وحزن وخوف ورجاء وقبض وبسط، وسكون وحركة، وهي أمور طبيعيّة، وسرعان ما تزول، إلا أنّها يجب أن تخلف أثراً طيباً في السلوك يتمثل في مزيد من رعاية حقوق الله، وبأداء ما أمر به والابتعاد عما نهى عنه، والبدع ضارّة للسالك، وبخاصة في مجال المعتقدات، وبعض السالكين انحرفوا بسبب تلك البدع الفاسدة التي اعتقدوا بها.

ثالثها:

الابتعاد عن الرياء في أداء حقوق الله، والرياء يتنافى مع الإخلاص، ومن وقع فريسة الرياء في أداء عبادته افتقد أثّر هذه العبادة في قلبه، فلا تترك بعدها ذلك النور الذي يضيء القلب، والرياء هو أن يفعل العبد الطاعة مراعياً في ذلك نظرة العباد إليه، طلباً من مرضاتهم عن أفعاله، لكي يحمدوه في مجالسهم، ويرفعون مكانته في قلوبهم، ومعظم السالكين يقعون في حفرة الرياء وهي زلة كبيرة، ولا يقدرون على الخروج منها، فيضيع أجرهم عند الله، ولا يشترط الرياء في الأقوال والأفعال، فبعض السالكين تتجه قلوبهم لطلب المحمدة من الناس وارتفاع المكانة، وأخطر أنواع الرياء أن يظهر خلاف ما يخفى في مجال العقائد، فيظهر الإيمان ويخفى الكفر، وفي مجال الواجبات، فيؤدّيها أمام الناس ويتركها فيما بينه وبين نفسه، وفي مجال السنن والنوافل، يؤدّيها كاملة عندما يجتمع بالناس ويؤدّيها ناقصة عندما يكون مع نفسه، والرياء مرض في القلب، يؤدّي إليه الرغبة في الرئاسة والمكانة والجاه العريض، والرياء ينمو في النفس تحت تأثير الهوى المتمكّن من النفس، ولا يمكن التحكم فيه إلا بالسيطرة على نوازع الهوى في النفس بالمجاهدة الصادقة التي تعتمد على صدق النيّة والرغبة في الطاعة ومعرفة عيوب النفس الأمّارة بالسوء والمتطلّعة إلى الدنيا.

كان الشيخ يرى في الصوفيّة سلوكاً نقياً من كلّ الشوائب، ويرى فيها تجسيداً لقيم إنسانيّة عاليّة، وكان يريد أن يجسد هذه المعاني التي أدركها بفطرته الصافيّة في حياته الخاصّة.

كان يريد الصوفيّة كما يفهمها هو، وكما استمدها من القرآن والسنة، كان القرآن هو مرجعه الأول الذي يغرف منه فهمه الواسع والغني لمعنى الصوفيّة، وكانت السنة المتمثلة بالسيرة النبويّة الشريفة هي الهادي الذي ينير له طريقه، وفي كلّ أحاديثه كان يركز على أهمية «الاتباع» والاتباع هو الأخذ بما ثبت في السنة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، نظراً لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو مصدر الفضائل والكمالات في الوجود، وحياته هي قمَّة ما تعنيه لفظة الفضيلة والكمال.

وكان يرفض من الطرق الصوفيّة كلّ المظاهر السلبيّة المنافية للكمال، وقد دفعه هذا إلى التحرر من الطرق وتقاليدها وأعرافها المألوفة، كان يريد الصوفيّة بسموِّها الروحي وبكمال رجالها وبمفاهيمها المعرفيّة وبقيمها الساميّة، وكانت المعرفة في نظرة هي المعرفة التي تؤدّي إلى تعظيم الله في القلب، وليس كمثله شيء وهو السيمع العلَّيم.

( الزيارات : 1٬519 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *