مولد السيد النبهان ونشاته

مولده وطفولته:…

وفي مطلع القرن العشرين اضيئت الأنوار في دار أحمد النبهان معلنة ولادة الابن الأول له، ولا نستطيع الجزم بتاريخ محدد، إذ لم تكن سجلات التوثيق قائمة، ويرى البعض أنَّ الولادة تمت في شهر ربيع الأول عام 1318 هـ الموافق شهر تموز عام 1900، والمهم أنَّ الولادة تمَّت في هذه الفترة الزمنيّة.

فرح «أحمد» فرحة كبيرة بولده البكر، وسمّاه «محمّداً» وأقام في هذه المناسبة حفلة كبيرة لأبناء عشيرته وأبناء عمومته الذين وفدوا إلى داره مهنِّئين ومباركين، أحسَّ أحمد بالاستقرار النفسي، إذ أن حلمه قد تحقّق، بعد قدوم المولود الذي كان ينتظره.

ثم أخذت الأسرة تكبر وتتسع، ورزق أحمد بخمسة أبناء هم محمد وحسن وعليِّ وعبد المجيد وجميل، وثلاث بنات، وبدأت مظاهر الترف تظهر على الأبناء، إنهم يشعرون بقوّة عشيرتهم وعندما كانوا يزورون أبناء عمومتهم في قراهم القريبة كانوا يشعرون بالاعتزاز والتميّز، أنهم أبناء المدينة، وبالتالي صاروا يشعرون بأثر الحضارة في سلوكهم، وعوائد الحضارة واضحة في حياتهم وفي أحاديثهم وفي اهتماماتهم.

ومن هنا راحوا ينفقون الكثير على مظاهر الحياة وأنماط العيش، وفي الوقت ذاته فهم في المدينة مميَّزون باهتمامات قديمة وأصيلة في عشيرتهم، كالفروسيّة وأخلاقيات الريف، كالشجاعة والمروءة والسخاء.

وهذا ما جعلهم في نظر أصدقائهم من أبناء الأسر الأكثر حضارة في المدينة في موطن الاحترام.

عاش «محمد» حياة مترفة، كان الابن البكر لأبيه، والصديق المقرّب إليه، والمرافق الذي يرافقه في كلّ زياراته، إنه الأمل بالنسبة له، ينظر إليه بإعجاب ويرى في وجهه ملامح الغد، سيحمل عنه العبء كله، وسوف يسند إليه مهمّة التجارة والتصرف في الثروة، وربما يكون أقدر من أبيه على تنمية هذه الثروة.

كان الأب يحلم كلّ يوم، إنه الحلم الكبير… كان ينظر إلى ولده بحبّ وحنان.. يعطيه المال الذي يطلب، ولا يضيق بطلباته مهما كبرت.. أليس هو الأمل المنتظر ؟!..

كبر الطفل الصغير.. وكبرت أحلام الأب والأم وأخذ إخوته الصغار يتساءلون.. لماذا يحظى هذا الأخ المدلل بكل المحبة والرعاية.. كان أخوته يحبِّونه ويجدون فيه ملامح في السلوك غير معهودة في أمثاله.

كان مشدوداً لأمر غريب.. كانت له اهتمامات غير معتادة في سلوك أمثاله.. كان كثير التأمل قليل الكلام محبَّاً للفضائل كارهاً للرذائل، أميناً في معاملاته صادقاً في لهجته مخلصاً لأصدقائه صريحاً في أقواله.

كان والده يصحبه في لقاءات عمله، ويعلمه لغة التجارة ويلقنه مبادىء التعامل، فيحاور والده ويناقشه، فيضيق والده به، ويدعوه إلى مزيد من الحرص على تعلّم أسرار التجارة.

أحياناً كان يفقده ويبحث عنه فلا يراه.. ثم يكتشف أنه في مجلس علم وذكر وعبادة في مسجد من المساجد التي اعتاد أن يؤدّي صلاته فيها.

أخذ الأب يتساءل بصوت هامس مع نفسه عن أسباب ما يفعله ابنه «محمّد»، لماذا يتخلف عن مرافقته إلى مجالسه التي اعتاد أن يجلس فيها مع أصحابه المقربين، ولماذا يجلس معه بجسده، وقلبه معلّق بغير هذا المجلس.. لماذا لا يصادق من ينصحه الأب أن يصادقهم من أقرانه من أبناء الأسر الصديقة الذين اعتادوا أن يذهبوا في كلّ مساء إلى مجالس اللهو والطرب في أحياء المدينة التي اعتادت أن تنظّم مثل هذه المجالس.

تزاحمت الخواطر في فكر الوالد الحائر، وأخذ يعيد النظر ويقلِّب الأمور، ويدعو أبناءه الآخرين الأصغر سنّاً ليشاورهم في سرِّ ما لاحظه في سلوك أخيهم الأكبر من غرابة.

وجه الأب أبناء أصدقائه لكي يطوقوا ابنه البكر ويأخذوه معهم إلى مجالسهم الممتعة المملوءة بالحياة والشباب، فيذهب معهم حتى إذا ما حان وقت الصلاة تركهم وذهب إلى المساجد، حيث اعتاد أن يلقى صحبه المقرّبين، يصلّون ويقرأون القرآن ويسبِّحون ويذكرون الله، حتى إذا ما انتهى مجلس الذكر عاد إلى داره هادىء النفس، متأمِّلاً في كلّ ما حوله، مبتعداً عن مجالس اللهو، ضيّق النفس بما يسمع من أقوالهم وتنابذهم وخصوماتهم.

انقطع الشاب عن هواياته التي اعتاد أن يلهو بها في طفولته، كان يحبُّ الفروسيّة وركوب الخيل، ويتفاخر بالخيول التي كان يملكها ويحتفظ بها، وكان يشيد بعد ذلك بتلك الهواية المحببة إليه، والتي تعلّم منها دروساً في علوِّ الهمَّة والمروءة وأخلاق الفروسيّة، كانت الفروسيّة بالنسبة له خلقاً يكتسبه الإنسان ويأخذ نفسه به.

وعلى الفارس أن يمسك بزمام فرسه وأن يتحكّم بها، والنفس كالفرس لابدَّ من ترويضها والتمسّك بمقودها، وإلاّ جمحت النفس وانزلقت كما تجمح الخيول إذا لم يتمكن فارسها من ترويضها.

أحسَّ الأب بحزن عميق، وأخذ يحاور ابنه بحنان وحب، ويسأله عن سرِّه، فلا يجيب، وماذا يفعل الأب في مثل هذه المواقف، هل يكون مع ابنه فيما اختاره لنفسه أم يقف في مواجهته لحمله على ما يريده له.

ووقف «محمّد» حائراً بين واجبه تجاه أبيه وأسرته(%1) وبين قلبه الذي يناديه في كلّ لحظة نحو هدف آخر، إنه صوت يسمعه في كيانه، في نهاره وليله، صوت يملأ عليه كيانه، ويغرقه في هذا الفضاء الفسيح من التأمل.. إنه يسمع ذلك الصوت، ولا يدري من أين يأتيه.. إنه يناديه: الرحيل.. الرحيل.. من عالمه إلى عالم جديد.

إنه لا يعرف الطريق، إنه مشدود بكليّته إلى وجهة لا يعرف الطريق الموصلة إليها.

حاول أن يستجيب لنداء أبيه بالعودة إليه.. إلى حياة التجارة والعمل، إلى حياة المتعة واللهو.. إلى حيث يبذل جهده لتحقيق المال والرفاه.. ولكن ليس هذا ممّا يغريه ويشدّه.

فتح له الأب الأبواب لكي يأخذ من أمواله ما يريد، ولكنّه أوصد تلك الأبواب.. ولم يغره بريقها.. واكتفى بالقليل الذي يسدُّ به الرّمق.

( الزيارات : 1٬859 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *