فى حلب..ذكريات الطفولة

قضيت لأول مرة منذ أربعين سنة ثمانية أشهر في رحاب مدينتي الأولى التي غادرتها في مطلع شبابي، ولما عدت رأيتها كما كانت، لم يتغير فيها شيء، كل شيء كما كان، العادات والتقاليد والقيم السائدة…

كنت أطوف حول قلعتها القديمة التي تعتبر تراثها المعبر عن تاريخها الحضاري كمدينة عريقة فاشعر بسعادة لا حدود لها، هنا في طفولتي كنت امشي واجري، وهناك في الدروب الضيقة كنت العب مع رفاق الطفولة، مازال كل شيء كما كان… المدينة العتيقة كانت هي المدينة وهي القلب الذي ينبض بالحياة، ولم تعد كذلك، لقد هجرها سكانها الأصليون إلى خارج الأسوار القديمة بحثا عن السعة والهواء والجدة ومظاهر الترف… ولم يبق إلا بقايا الدور القديمة في الأحياء الشهيرة، واحتفظت الأسواق القديمة المتراصة بمكانتها التجارية…

استيقظت في أعماقي مشاعر جديدة لم اشعر بها من قبل، مشاعر حب ووفاء، رأيت جمال ما زهدت فيه من قبل، إنه التاريخ العظيم يتجلى بقدسية آثاره، وبعظمة ما يخلفه في النفوس من عواطف المحبة…

لم اصدق أنني كنت هنا قبل أربعين سنة، رأيت مدينتي القديمة لا كما رايتها في صغري، رأيتها جميلة عريقة، لم أرها من قبل كما رايتها الآن، كيف غادرتها، أليس من العقوق أن يغادر الإنسان عشه الجميل وبينه الدافئ …

– لا شيء يغنيك عن ذلك…

– ولا شيء ينسيك مرابع طفولتك…

انهمرت من عيني دموع سخية وأنا أتأمل ما كنت نسيته، حزنت وما ينفع الحزن وتألمت وما ينفع الألم، لقد فات الوقت ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء… ما يكسبه الإنسان من الغربة يخسر أضعافه بسبب الغربة… لا اشق أن تعود إلى وطنك وتشعر انك لا تعرف أبناءه… كل الجيل الجديد لا اعرفه… كنت أقول لهؤلاء وهم يقدمون أنفسهم لي بأنهم أبناء أصدقائي القدامى…

كنت أتألم وأنا اشعر بالغربة… والغربة تشعرك بالضعف… فأنت ضيف زائر سرعان ما تعود … قد تكرم أحسن تكريم ولكنك خارج نطاق أسرتك الكبيرة…

ما فائدة أن تبني قصرا عظيما في بلد غير بلدك، وعندما تعود إلى بلدك تجد نفسك في فضاء بغير جدران، ما يهم الناس أن يروا ما بنيته لا أن يسمعوا عنك، ولابد إلا أن تعود يوما إلى دروبك القديمة وتترك ذلك الصرح الكبير يتهاوى مع الزمن.

أصدقاء الطفولة ما زالوا كما كانوا… أوفياء للعهد، يذكرون الأيام الماضية، قطار الزمن لا يتوقف أبدا، جيل يصعد إليه، وجيل يهبط منه، وهو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ترقب حركته، وتشير إليه فلا ينتظر أحدا…

ما أروع ما يتلقاه الإنسان من دروس الحياة وهي تقص عليك قصص الأولين، وتحسب انك لست منهم وتكتشف فجأة أن الآخرين سيكونون يوما من الأولين.

تأملات كثيرة كانت تغرقني في ذلك الزحام الضبابي، ولا اعرف أين موقعي، كنت حائرا مترددا غير قادر على الإمساك، بمقود مسيرتي، أين المفر وأنت تلاحق ذاتك، وبعضك يحاور بعضك، ولا احد يدري سبب تلك الحيرة والتردد، حاضرك يناديك وماضيك يدعوك، وأنت في منعطف لا تدري أين المفر الذي ينقذك من واقعك…

ما ضعفت يوما في موقف ولا ترددت في اختيار الطريق، ولكنني وجدت نفسي ضعيفا في هذا الموقف، ما زال المغرب في قلبي أعيش قضاياه، افرح له واحزن، أتابع أخباره بحماس ورغبة، وأعادي من يعاديه، واجد فيه الدفء الذي يشدني في الأمسيات الشتوية، أتأمل ملامحه فأجد فيها الطمأنينة، وفي الوقت ذاته اسمع صوت الطفولة يدعوني إلى تلك الدروب التي مشيت فيها صباح مساء، وارى ملامح الأصدقاء وهم يبتسمون لي بمحبة ووفاء، أرى شبابا لا اعرفهم من قبل يلتفون حولي ويطوقونني في المجالس، وهم يعرفون عني ما لا اعرفه عن نفسي… وأسال نفسي: أما آن الأوان لرحلة العودة إلى ذلك العش القديم..

( الزيارات : 841 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *