طلاب الكلتاوية..امل كبير

الطريق إلى الكلتاوية

ذهبت إلى الكلتاوية لصلاة الجمعة كما اعتدت أن افعل خلال إقامتي في حلب على امتداد عشرات السنين، والكلتاوية هي رمز ذلك التراث الروحي، وبالرغم من مكانها النائي البعيد فقد كان المكان الأقرب والأحب إلي، منذ طفولتي الأولى كنت هناك، طفلا وشابا، وكانت مدرستي الأولى، وكنت أرى أصدقائي الأوائل وأبناءهم وأحفادهم، كلهم يصلي هناك، إذا ذكرت الكلتاوية في حلب فهي مقر الشيخ النبهان رحمه الله…

وهي بالنسبة لي كانت الانتماء، ولا خيار لي إلا أن أكون معها، وكانت تربطني صلة محبة بكل من انتسب إليها من أبنائها…

عندما كنت أغيب عنها يذكرني العشرات ممن ينتمون إليها، أتحدث إلى أبنائها من طلاب العلم، كنت أجد في هذه الصفوة النقاء والصفاء واجد فيهم ملامح الغد…

وجهت اهتمامي إلى هؤلاء الطلاب الذين يدرسون في مدرسة الكلتاوية لمدة ست سنوات، وهي مدرسة داخلية ذات نظام صارم وجاد، ويربون التربية التي تنسجم مع الخط السلوكي الصوفي الذي أرساه الجد رحمه الله، تخرج المئات من هذه المدرسة العلمية والتربوية، وهم اليوم علماء يقتدى بهم، وقد أعدوا لمهمة الوعظ والإرشاد، ويتميزون عن غيرهم بخصوصيات واضحة في فكرهم وتكوينهم واستقامتهم، وبالرغم مما كنت ألاحظه عليهم أنهم أكثر تشددا في آرائهم وأقل قدرة على قبول الآخر المخالف لهم في الرأي إلا أنهم أكثر جدية واستقامة ونزاهة، وهذه صفة واضحة فيهم، وهم في مجملهم يتميزون بأدب واضح وأخلاقية في السلوك، ولهم تأثير واضح في مجتمعهم ويحضون بالاحترام بسبب ما يتحلون به من نزاهة واستقامة..

في لقائي الأسبوعي معهم بعد صلاة الجمعة كنت اطرح أمامهم فكرا أكثر انفتاحا مما اعتادوا سماعه، كنت أركز على قضايا أكثر أهمية بالنسبة لعصرهم، وأهمها ما يتعلق بدور العلماء في المجتمع، وهو دور تنويري وتجديدي، ويهدف إلى توفير شروط النهوض بالمجتمع عن طريق مواجهة مظاهر التخلف والعوائد السائدة والقيم الهابطة، وتوجيه الاهتمام للتركيز على أهمية الإنسان والاهتمام بحرياته وحقوقه الإنسانية، وهذه هي ثقافة الرقي والنهوض بالمجتمع، ولابد من ثقافة النهوض التي تعترف بدور العقل في اغناء الفكر والاحتكام إليه كأداة للمعرفة الإنسانية ومعرفة المصالح والتمييز بين الحق والباطل والحسن والقبيح…

في كل لقاء كنت اطرح قضية للتأمل، وكنت أريد تحريك تلك البحيرة الراكدة لكي تفكر في الجديد مما لم تعتد على التفكير فيه، ومجرد التفكير هو بداية فجر سرعان ما يبشر بالنور والصباح، ليس المهم أن يكون الكل متفقا معك، ولكن المهم أن تبدأ رحلة التأمل، وهذا هو المطلوب أولا، ولابد في التأمل العقلي من ثمرة مرجوة وهو عدم الخوف من ارتياد ذلك الفضاء الخالي من الحياة، وعندما تقتحمه ولو بتردد مبدئي فسرعان ما تكتشف فيه عالما جديدا يستحق أن يكون مكانا للتأمل…

ليس هناك شيء اشد خطرا على الفكر من أن تتسع دائرة الثوابت على حساب المتغيرات، وتضيق الخناق علي العقل فلا يحد متسعا لحركته، وسرعان ما يصطدم بجدران حديدية تمنع حركته وتصده بقوة وتدفعه إلى الوراء صاغرا، والأصل في الثوابت أن تكون أداة لمنع استطالات العقول والغرائز على القيم الإنسانية الراسخة كالحرية والعدالة والشورى والمساواة، وهذه ثوابت أريد بها أن تكون قاعدة لتحقيق شروط النهضة الاجتماعية.

والإيمان بالله يرسخ مكانة الثوابت ويعمقها ويجعلها في موطن الدراسة والاحترام ويحيطها بأسوار قوية وراسخة من النصوص التي تحميها، والثوابت تمثل الجذور الأساسية التي تحمي المجتمع من الانحراف، ويأتي العقل البشري لكي ينظر في المتغيرات ويختار لها التفسير الذي يحقق مصالح المجتمع، ولا حدود لحق العقول في الدفاع عن المصالح الاجتماعية عن طريق اختيار الطرق التي تقود إلى الغايات المرجوة.

والاجتهاد هو أداة تحقيق المصالح، وهو فرض على كل القادرين عليه، ولا يقبل التقليد من أهل العلم أبدا، ولا عذر لهم إذا اختاروا أن يكونوا في معسكر الأميين الذين لا يحسنون الفهم، ولا يقدرون على النظر العقلي في قضاياهم، وكل فرد يملك الاجتهاد فيما يحسنه ويقدر عليه، فالفلاح يجتهد في أمور زراعته، والطبيب في مجال اختصاصه، والتاجر في مجال تجارته، ولا مجال للعاجزين عن كل شيء في معسكر القادرين.

والذين يخافون من الاجتهاد بسبب ورع مزعوم مع قدرتهم عليه هم جهلة بحقيقة الدين، ومثلهم في ذلك كمثل ذلك الطبيب الذي لا يعالج المرضى بسبب خوفه من الخطأ، ولا عذر له في ذلك…

كنت أخاطب هؤلاء الطلاب بذلك الخطاب الذي كان يفتح عيونهم على منهج غير مألوف لهم، وهو منهج غير مألوف في معظم المؤسسات العلمية التي اعتادت على ترسيخ منهجية تقليدية في النظر بقداسة إلى ذلك الموروث القديم، الذي ورثه الجيل اللاحق عن سابقه، ولا يحتج باللاحق ما لم يجد سنده في كتاب منقول عن السابقين، ولو كان مما وقع الاختلاف فيه بينهم، وهذه الظاهرة منتشرة فيما يكتب ويفتى ويقرر ويقال، ولا يقبل أي رأي إلا إذا استظل قائله بقول منسوب لأحد السابقين، ولو كان ذلك السابق ممن لا يحتج برأيه ولا يستشهد باجتهاده…

ولم استوعب ذلك المنهج المعتاد والمألوف، وكنت أتساءل في حوار داخلي مع نفسي: لماذا تقع الثقة في أقوال وفتاوى السابقين ولو كانت خالية من دليل ولا تقع الثقة بفتاوى واجتهادات المعاصرين ولو استدل عليها صاحبها بأوثق الأدلة ما لم يستظل بمظلة رأي منسوب لأحد فقهاء السلف ولو كانوا ينتمون لجيل متأخر…

ومما كان يسعدني أنني كنت أرى ملامح السعادة على وجوه هؤلاء الطلاب، وهم يسمعون كلاما لم يعتادوا سماعه من قبل، ولو سمعوا مثله من غيري لما قبلوه، ولكنهم كانوا يقبلون ذلك مني ويفرحون به، وأنا واثق أن اثر هذه الأفكار التي كانت تحدث لديهم ذلك التفاعل الايجابي ستؤدي حتما إلى تكوين منهجية لديهم أكثر قدرة على التفكير والتأمل…

لم أكن أريد أن يأخذوا بأفكاري وان يحاكوها وان يقلدوها وإنما كنت أريد أن ادفعهم للتفكير والتأمل، لكي يختاروا الطريق الذي يعبرون به عن ذاتهم، شواء كان موافقا أو مخالفا…

وهذا هو الإغناء والإثراء لفكر السابقين، وبذلك نحيي ذلك التراث بالإضافة المتجددة إليه، لكي تكون النوافذ مفتوحة وتطل على الحدائق الأمامية والخلفية، لكي تكون الرؤية شاملة وصادقة.

رأيت لدى هؤلاء الطلاب في الكلتاوية استعدادا لم أجده لدى طلابي في الجامعات، قد يكونون اقل فهما لما أقول، ولكنهم كانوا أكثر استعدادا للقبول، وكانوا يحفظون هذه الأفكار ويتحاورون فيما بينهم حولها..

 

( الزيارات : 1٬086 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *