صوفية اصيلة وملتزمة..

اهم ما كنت أركز عليه فى احاديثى مع طلاب الكلتاوية  وكان يثير دهشتهم واهتمامهم هو دعوتي لتجديد الفكر الصوفي، لكي يكون معبرا عن صوفية ملتزمة هادفة ناهضة، ذات منهج تربوي يرتقي بمستوى السلوكية الإنسانية أخلاقيا ونفسيا، وكنت أندد بصوفية الطقوس والمظاهر التي اشتهرت به الصوفية المعاصرة والتي تكرس التخلف وتشجع المفاهيم التربوية الخاطئة وتدفع صاحبها لسلوكيات خاطئة..

ليست الصوفية مجرد شطحات متكلفة في الأقوال والأفعال لا تعبر عن شيء ولا تفيد صاحبها بشيء، ولا نجد لها سندا في سلوكيات الأولين من السلف الصالح، وليست مجرد استخدام مصطلحات محفوظة لدى رموزها يدعيها بعض المنتسبين للصوفية وهم لا يفهمون حقيقة معناها، ويرددونها أمام العامة لاستمالة عواطفهم بادعاء ما هو متوهم من الأحوال والمقامات العالية، وليست الصوفية مجرد مشيخة متوارثة من جيل إلى جيل، ويمسك بمقودها من لا يحسن فهم آدابها ممن يدفعهم الطمع لاستغلال عواطف العامة بادعاء سر خفي تكشف به الأسرار وتزاد به الأرزاق وتدفع به الأمراض وتتوقف به الأسباب، ويصدق العامة ما يسمعون فيستسلمون، وينتظرون أن تكشف عنهم الكروب، ويدفعون ثمن ما يوعدون به وهم بذلك سعداء ومطمئنون.

كنت افهم الصوفية بطريقة مغايرة لما هو شائع عنها، وكنت ارفض ما رأيته من مظاهرها السلبية، واقبل منها ما كان يجد سنده في سلوكيات السلف الصالح من مجاهدة للنفس لتزكيتها، ومقاومة انزلاقات الغرائز، وتحرير الإنسان من قبضة الشهوات المذلة، وتمكينه من السيطرة على خواطره بحيث تكون معبرة عن تطلع للكمال، وهذه هي صوفية محمودة ولا مجال لذمها والانتقاص من أهميتها، في التربية النفسية…

والصوفية كلمة دالة على منهج، فان دلت على سلوك مذموم فهي مذمومة، وان أدت إلى شيء محمود فهي محمودة، وإنما نذم ما ارتبط بها من سلوكيات المنتمين إليها والمنتفعين منها، ونمدح ما هو جيد من آثرها الايجابية…

إننا نحكم على أي فكر من خلال ما يقدم نفسه إلينا، فان كان نافعا لمجتمعنا فيما هو فيه ناهضا، بإرادته إلى الأعلى، داعيا له إلى الأفضل والأكمل، مسهما في تقدمه، ناشرا فيه قيما إنسانية عالية، فهو فكر مطلوب لأنه محمود الأثر ومفيد لنا في حياتنا، وإننا نحتاج إليه، ونتطلع لدوره في نهضة مجتمعنا واغناء ثقافتنا، وان كان الفكر مما لا يفيدنا في شيء، ولا يحقق لنا ما نريده منه، و لا يضيف إلينا ما ينهض بأمرنا فما المبرر لكي نشغل أنفسنا به، أليس هذا المنطق هو منطق العقلاء…

والفكر الصوفي النقي النظيف الذي يسهم في ترقية مناهجنا التربوية، ويغني فكرنا وثقافتنا بإضافاته وتلميحاته وتحقيقاته الرفيعة والرائعة، ويعمق في ذاتنا القيم الروحية ويهذب سلوكنا ويرتقي بمستوى احترامنا للآخر المخالف لنا، ويدعونا لمزيد من التمسك بالصفات المحمودة، ويسهم في طهارة نفوسنا، ويدفعنا لمحاسبة ذاتنا عند كل تقصير، ويشجعنا على التزام الأدب والتمسك به في علاقتنا بذاتنا وبمن حولنا وبمن نتعامل معه، فهذا فكر نحترمه ونبحث عنه، ونشجعه، وندعو إلى التمسك به…

هذه هي صوفيتنا التي ندعو إليها، ونشجع عليها، ونلتزم بها، أما صوفية التواكل والتخاذل والكسل، فما حاجتنا إليها، ويكفي فكرنا ما يعاني منه من أسباب التخلف، ورصيدنا من التقاليد الخاطئة والقيم الهابطة كبير، ولا حاجة لنا بمزيد من هذه المخلفات السلبية الضارة.

نريد صوفية أصيلة المعالم شرعية الأسس أخلاقية الملامح، تقدس العقل وتحترم اختياراته، وترفع من شأن العلم وتقاوم الانحراف وتحض على التضحية للدفاع عن الحريات والحقوق الإنسانية، وتتحالف مع المستضعفين في الأرض لكي يتمكنوا من الدفاع عن حقوقهم المشروعة في الحرية والكرامة..

هذا ما كنت أدعو إليه أبنائي من طلاب العلم في الكلتاوية، كنت أشجعهم على أن يتعلموا العلم لكي يرفعوا من مكانته في نظر العامة، بعلو همتهم والتزامهم بالاستقامة والنزاهة… 

ولا شيء أروع من نزاهة العلماء وعفتهم وعلو همتهم، وان يكونوا هم أصحاب اليد العليا في كل المواقف، فان فقدوا المال فعليهم أن يكونوا من أهل النزاهة، والنزاهة هي التي ترفع الرؤوس بالعزة والكرامة، والطمع يذل صاحبه ولو كان صاحب مال أو سلطة أو جاه، ولا جاه لمن أذل نفسه، ولا مكانة لمن طمع في مال غيره…

ومما كنت ألاحظه على الصوفية المعاصرة كما تقدم نفسها للمجتمع أنها كانت تميل للعزلة عن قضايا المجتمع وبخاصة ما يتعلق بدورها في الدفاع عن القضايا الوطنية، ولم تكن الصوفية كذلك من قبل، ويحدثنا التاريخ عن نماذج حية لشخصيات صوفية كانت تقود الأمة إلى معارك الجهاد والتحرر، وكانت تعبئ المجتمع لمقاومة المحتلين، وتقود النضال الوطني ضد الأخطار الخارجية كما كانت تدعو للإصلاح الاجتماعي…

وليست هناك قاعدة، والأمر يختلف بحسب طبيعة البيئة الاجتماعية وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ولا خلاف في أن الفكر الصوفي هو فكر تربوي يهدف إلى الارتقاء السلوكي، إلا أن الصوفية كانت تمثل قيادة روحية ذات اثر اجتماعي ويمكن توجيه هذه القوة في المواقف العصيبة لتحقيق أهداف وطنية ومناصرة الدعوات الإصلاحية… 

وليس هناك أسوأ من تحالف بعض الزوايا الصوفية ذات النفوذ الاجتماعي مع بعض الأنظمة الاستبدادية الظالمة أو الأنظمة المعادية للمطامح الشعبية في الحرية والكرامة، وهذه هي ظاهرة مرضية يدان أصحابها ورموزها وتسقط مكانتها في نظر مجتمعها..

وكنت أؤكد دائما على هذه الحقيقة وأنا أخاطب ذلك الجيل الناشئ من طلاب العلم في كلتاوية حلب، وكنت أريد منهم أن يكونوا رموزا للصوفية الحقة في دفاعها عن الفضيلة والقيم الإنسانية، وفي مواقفها الوطنية ضد رموز الاستبداد والطغيان ودعاة التبعية لأعداء هذه الأمة…

( الزيارات : 1٬695 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *