مفهوم المشيخة..واهمية المرجعية

المشيخة… والاختيار الصعب

وكان كل من حولي يطالبني بإلحاح أن أتصدى لمهمة المشيخة الصوفية في الكلتاوية، وينتظر مني أن أقدم على هذه الخطوة بطريقة جادة، وان أتفرغ لهذه المهمة بكل ما يتطلب ذلك من استعداد نفسي… عندما أكون في حلب كان هناك صوت واحد اسمعه في كل صباح ومساء يتردد في كل مجلس، داعيا إلى ذلك مشجعا عليه، وكنت اسمع ولا أجيب، واسمع الرجاء والإلحاح ولا يتحرك ما في داخلي…

واطرح على نفسي ذلك التساؤل الذي يطرح علي دائما، ولا أجد جوابا مقنعا ومريحا…

كنت أتذكر كلمة الشيخ الجد رحمه الله وهو يقول لي دائما، وذكرت ذلك في كتابي عنه : إذا أرادك الله لأمر هيأك لقبوله وشرح صدرك له واوجد لديك الاستعداد، وحمل عنك العبء، وتندفع لذلك الأمر وأنت منقاد له، ولا خيار لك في ذلك… 

منذ ثلاثين سنة عرض علي الأمر بعد وفاة الجد رحمه الله، وكانت الأمور مهيأة لذلك، فقد كنت في نظر أتباع الشيخ الخليفة المعد لذلك والذي أعده الشيخ لهذه المهمة، واجتمع إخوان الشيخ وقرروا ذلك، ولكنني لم أجد في داخلي الاستعداد لذلك، كنت أريد العلم ولا أريد غيره، ولم يكن من اليسير علي أن ابتعد عن طموحي العلمي وفقا للطريق الذي رسمته لنفسي، لم أندم على هذا الاختيار، ولا أظنني سأندم عليه..

لو اخترت هذا الطريق لما كان المغرب في حياتي، ولم يكن بإمكاني أن أتفرغ للعلم، كنت سأختار طريقا آخر، ولا يمكن الجمع بين الاختيارين..

ما كنت رفضته بالأمس قبل ثلاثين عاما هل يمكنني أن اقبله اليوم، بالأمس كان يمكن أن أكون أكثر استعدادا لذلك لأنني كنت في بداية حياتي، وكنت أكثر مرونة في اختياراتي، واليوم اشعر بقدر كبير من المسؤولية عن اختياراتي، وما يجب أن يكون عليه الأمر هو ما يمكن أن يكون مقبولا لي ومنسجما مع فكري ومعبرا عن ذاتي…

والمشيخة كما هي في واقعها الاجتماعي ليست مما يطمع فيه الإنسان، قد تكون طموحا للبعض ممن يجدون أنفسهم في مرآتها وقد لا تكون مطلبا لآخرين لأنهم ينظرون إليها من نافذة أخرى، ولا بد فيها من استعداد ذاتي وتكوين ثقافي ومهارات في بعض المواقف ومواهب مؤهلة…

بعض رموزها يحظى بالاحترام ويحسن التصرف والتدبير، والبعض الآخر ينحدر بمستواها ويسيء الى سمعتها ويجعلها أداة لتحقيق طموحات مشروعة وغير مشروعة، محمودة ومذمومة، ولابد في المشيخة من مجتمع يستجيب لها ويشجع عليها، وبيئة تساعد على نموها وازدهار أمرها، وهي صورة للمجتمع ومرآة له وتعبر عن مستوى وعيه وثقافته وحضارته..

وكل مجتمع ينتج قيمه كما يراها هو، وكما يتصورها بنفسه، فان كان المجتمع يتمتع بوعي ثقافي ونضج في مفاهيمه أنتج قيما راقية تعبر عن رؤيته، وإن كان المجتمع متخلفا بسبب جهله وسيطرة العادات الجاهلية على حياته، أنتج قيما هابطة وارتضاها لنفسه، وأعطاها مكانة القداسة في حياته وتمسك بها من غير نظر في مدى انسجامها مع القيم الإنسانية الراقية..

والمشيخة هي مرآة عن واقع المجتمع، وهي منتج تفرزه العادات والقيم السائدة، وهي نوع من أنواع القيادة المحلية التي يقع فيها الاحتكام إلى من تقع الثقة به، وفي مجتمع يميل إلى التدين يجد الناس في رموز التدين من العلماء الشخصيات التي يمكن الثقة بها والاطمئنان إلى رأيها، وهذه الظاهرة نجدها في معظم المجتمعات الإنسانية..

وكلما ارتقى وعي المجتمع ارتفعت معاييره في الاختيار وحسنت موازينه، ويسهم الجانب الثقافي في وعي المجتمع، ولهذا فإننا نلاحظ أن الاختيار يختلف بحسب طبيعة الأحياء، كما نجد أن لكل فكر من يستجيب له ممن يؤمن بذلك الفكر..

عندما نرقب ما يجري في المجتمع نلاحظ أن هناك فكرا رائجا يمكن أن يستثمر من خلال توجيه الاهتمام إليه، ولكل مجتمع قضاياه وهمومه واهتماماته، فهناك مجتمع يهتم بالثقافة والعلم ولا يخاطب هذا المجتمع إلا بما يهتم به من شؤون الثقافة والعلم، وهناك مجتمع يهتم بالطقوس الدينية والأذكار والأوراد، ولا يخاطب هذا المجتمع إلا بما يثير اهتمامه، وتختلف مجتمعات الريف عن مجتمعات المدينة فيما يثير اهتمامها من القضايا الدينية والاجتماعية، ومن الطبيعي ألا يهتم سكان الريف الذين تغلب عليهم الأمية بما يهتم به المثقفون في المدينة من مشكلات الحوار الحضاري والعولمة ودعوات التجديد وحقوق الإنسان والديمقراطية والشورى، ومثل هذه القضايا لا تثار إلا في مجتمع يستوعب أهمية هذه الموضوعات.

الإسلام ليس واحدا في نظر المؤمنين به، كل فرد ينظر إلى الأمور التي تشغله، فهناك من يجد الإسلام في مفاهيمه الصوفية وفي الأوراد والأذكار والكرامات والأولياء والشطحات والأحوال والمقامات، ويحفظ الكثير مما يروى عن أئمة التصوف من أقوال وسلوكيات، وهناك من يرفض هذا المسلك ولا يعنيه،  ويرى الإسلام في أداء العبادة  والالتزام بها والأخذ بمنهج السلف في تجريد العبادات من كل البدع التي لم يرد فيها نص باعتمادها، وهناك من يرى الإسلام في الجهاد والتصدي لأعداء الإسلام ومواجهة الخصوم بالقوة، وهناك من يدعو إلى الثورة على الطغاة والمستبدين..

لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يقول بأنه يمتلك الحقيقة  منفردا، هو على حق وغيره على باطل، وكلهم يتسع لهم قلب الإسلام، أليس كل واحد من هؤلاء يبحث عن الحق، ويلتزم بما اقتنع به ، ولا احد من هؤلاء على باطل على وجه اليقين، هم يبحثون عن الإسلام الصحيح، وهم مأجورون في كل جهدهم، ويجب أن  يحترم اختيارهم، ولو اتسع صدرنا لكل هؤلاء واعترفنا لهم بما يستحقون لضاقت الفجوة بين الفرقاء وتقاربت الضفتان وتعانق الإخوان، ولا بد من هذا لكيلا تحدث الفرقة وينشغل البعض بمحاربة البعض الآخر..

لم أزهد في العمل الإسلامي الهادف إلى خدمة الإسلام ولكنني زهدت فيما هو واقع من ذلك التنافس غير الحميد على الزعامة والرياسة والغلبة باسم الدين، واستغلال الدين كأداة لتحقيق الطموحات الشخصية في المال أو الجاه أو المنزلة الاجتماعية أو الشهرة، والدين يبرأ من هؤلاء الذين يسخرون الدين لمقاومة خصومهم وإلصاق التهم بهم، وهم غير مخلصين للدين وغير ملتزمين بمواقفه وثوابته..

كنت أضيق بما أراه من مغالبات ومنافسات تستخدم سلاح الدين كأداة لتجريح الخصوم وتشويه مواقفهم، ولو كان هؤلاء صادقين لالتزموا بمنهجية الدين في الدعوة إلى الحوار والمناظرة للبحث عن الحق والالتزام به..

ومما كان يؤلمني أن أرى آثار هذه المغالبات على وجوه العامة الذين يفترضون في رموز الدين أن يكونوا النماذج المثالية الراقية التي يقتدى بها في المواقف، وأن تكون ملتزمة بأدب الاختلاف وأن يحترم كل فريق حق الآخر ويلتمس له العذر في مواقفه واختياراته..

ولا يمكن للمشيخة أن تكون زعامة محلية وإنما هي رسالة تربية وتوجيه وتهذيب وتعليم، وغايتها التعريف بالإسلام والدعوة إليه وتقوية الاستعداد للخير وتغذية النفس بما يمكنها من التغلب على الشهوات والأهواء والميول الفاسدة، والشيخ في حقيقته وكما يجب أن يكون هو رمز الكمال في شخصيته وخصاله ورمز الاستقامة في سلوكه ورمز النزاهة في زهده وترفعه ورمز المعرفة في سعة علمه وثقافته، ويتعلق الناس به نظرا لأنه متميز عنهم فكرا ووعيا وحكمة واستقامة، فيلجئون إليه لأنه يملك من سعة الأفق ما لا يملكون ومن الحكمة ما يفقدون، ومثل هذا يستشار ويؤتمن، وتقع الطمأنينة بما يراه وينصح به..

هذه المرجعية محمودة ومطلوبة، ولا يمكن الاستغناء عنها أو التقليل من أهميتها، نظرا لحاجة كل فرد إلى استشارة من يحسن الرأي، أما الشعوب الأقل ثقافة وإدراكا فتبحث عن مرجعيات تعكس رؤيتها وتعبر عن واقعها كما هو في حقيقته..

والمشيخة في حقيقة أمرها مرجعية دينية وثقافية، وأحيانا يمكن أن تؤدي دورا وطنيا، وهي ظاهرة تعبر عن حاجة المجتمع إلى مرجعيات موثوقة، هي أداة الانتماء لجماعة تجمعها أهداف مشتركة، والسلطة السياسية تشجع وجود هذه المرجعيات بشرط أن تضمن ولاءها أولا وأن تطمئن إلى عدم طموحها إلى السلطة ثانيا، فإذا تأكدت السلطة أن هذه المرجعيات غير منضبطة وطامحة إلى فرض وجودها واختيارها فسرعان ما تمزق وحدتها وتضعف وجودها عن طريق اختراق صفوفها وتوريطها في صراعات خاسرة..

والتاريخ يحدثنا أن أقوى التكتلات هي التي تنطلق من منطلق الدين والعقيدة، وتبتدئ أولا بالولاء لمرجعية دينية تملك قدرات روحية جامحة ومؤثرة، والمشيخة الصوفية ذات الأثر التربوي هي الأقوى تماسكا والأقدر على التضحية، وتدفعها عقيدة إيمانية، ويغذيها شيخ يملك إمكانيات شخصية وعلمية وروحية، وسرعان ما ينتقل دور هذه الجماعة من ذلك الدور التربوي المحدود إلى ذلك الدور الاجتماعي، وقد ترفع شعار الإصلاح الاجتماعي أو المقاومة الوطنية ضد خطر خارجي متوقع أو قد ترفع شعارات سياسية لمقاومة سلطة قائمة، ونظرا إلى أن هذه الجماعات تملك قدرات على الحركة الاجتماعية فإنها تملك إمكانات الدفاع عن النفس أو الدخول في معارك المغالبة مع الآخرين الذين يقفون في وجه حركة هذه الجماعة..

ولابد من وجود رمز يحظى بالاحترام لدى الجميع، وقد يكون قادرا على الفصل في المواقف واختيار السياسات الحكيمة التي تعبر عن آمال المجتمع..

والركن الأهم في نجاح هذه المرجعيات الدينية أن تحسن اختيار مواقفها في الشؤون العامة، فلا تراهن على القضايا الخاسرة، وأن تحسن قراءة الظروف المحيطة بها، فلا تندفع تحث تأثير العاطفة للاصطدام بقوة لا تستطيع التغلب عليها، ومعظم هذه المرجعيات الدينية لا تملك الرؤية العاقلة فتندفع تحث تأثير الاندفاع العاطفي نحو الحفرة المرسومة لها، فتسقط فيها وتجهض حركتها…

ولا بد من تحديد الهدف المرسوم لأي مرجعية أو حركة ثقافية أو اجتماعية، فرؤية الهدف أمر ضروري لنجاح الحركة الاجتماعية، وتحديد خطة العمل شرط لا بد منه في كل نشاط عام…

والعمل العام ليس فيه سذاجة وارتجال، وليس مجرد انفعال عاطفي، قد يحتاج إلى موقف انفعالي وإثارة العواطف في لحظة معينة، إلا انه لا بد من توفير ظروف النجاح من خلال وضوح الهدف ووضع خطة عاقلة متمكنة للحركة الاجتماعية..

( الزيارات : 1٬738 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *