محاضرة عن الظاهرة الأصولية والنظام العالمي الجد يد ..تاريخ المحاضرة فى شهر فبراير 2011

نص المحاضرة التي القاها الدكتور محمد فاروق النبهان في مقر الأكاديمية الملكية المغربية في الرباط  في شهر فبراير عام 2011 قبل  بداية الربيع العربى .. وقبل بداية الثورة السورية وقد تحدث فيها عن الظاهرة الأصولية وأثر النظام العالمي الجديد في ظهورها وكيفية  التعامل معها  والخيارات المختلفة ..رؤية الواقع العربي قبيل الربيع العربي  الذى لم تكن معالمه قد اتضحت بعد..

 أيها الزملاء الكرام ..

أشكر الزملاء أعضاء الأكاديمية المغربية الذين أتاحوا لي فرصة الحديث للمرة الثانية، وهذا تكريم أعتز به، وأعرف جيداً أن هذه الأكاديمية معنية بما يجري اليوم في العالم العربي من أحداث وتغييرات تعبر عن طموح شعوبنا العربية في المشرق والمغرب إلى الأفضل، والتطلع الجاد والمشروع إلى الحرية والكرامة، والمناداة بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا يمكن لأي مفكر أو مثقف إلا أن يتعاطف مع مطالب الشعوب المشروعة.

وسوف يقرأ أحفادنا في المستقبل ما نكتبه اليوم عن أحداث عصرنا وما نسهم به، ولا عذر لنا إن تخلّفنا عن الركب، ورضينا بالقعود، وينبغي على رموز الفكر، وهم حملة رسالة أن يكونوا في مقدمة المواكب المطالبة بالحرية، لكيلا تنـزلق هذه المواكب الغاضبة إلى سلوكيات خاطئة جاهلة عابثة، نريد السير إلى الأمام وليس إلى الوراء، نريد البناء وليس الهدم، نريد الإصلاح وليس الإفساد، نريد الاستقرار وليس الفوضى والفتنة.

سوف أتكلم عن قضايا ثلاث :

أولا : النظام العالمي الجديد : نشأته، شرعيته، نظرته إلى العالم الإسلامي.

ثانياً : الظاهرة الأصولية : نشأتها ملامح الشخصية الأصولية، طبيعة المجتمعات الأصولية، أسباب امتداد الحركات الأصولية، مواطن بروز هذه التيارات الأصولية وأقسامها، موقف النظام العالمي من الأصولية الإسلامية، استراتيجية التعامل مع الظاهرة الأصولية.

ثالثاً : ملامح المشروع الإصلاحي لمواجهة التطرف الأصولي.

ويسعدني في البداية أن أقدم لكم صورة تذكارية لمؤتمر عقد بتاريخ 13/8/1975 في مدينة بيلاجيو في فيلا سير بولوني فوق هضبة مطلة على بحيرة كومو على الحدود الإيطالية السويسرية وترأس المؤتمر السيد رالف براينتي رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة (ديوك) الأمريكية وشاركت ست جامعات أمريكية وعدد من معاهد الدراسات الاستراتيجية في الغرب وشاركت إيران وباكستان والسعودية والكويت ولبنان في هذا المؤتمر وكان موضوع المؤتمر هو مستقبل الإسلام بعد ظهور النفط، وشاركتُ في هذا المؤتمر باسم الكويت، وقدمت بحثاً بعنوان “مستقبل التقنين من الفقه الإسلامي في منطقة الخليج”، وقال مندوب إيران في المؤتمر لقد انتهى دور الإسلام السياسي، وبعد أربع سنوات قامت الثورة الإسلامية وبدأ عهد جديد.

النظام العالمي الجديد

كلمة النظام العالمي الجديد مصطلح سياسي يدل على واقع دولي جديد بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وبروز قوة جديدة متحالفة على تحقيق أهداف غير معلنة، تؤكد سيطرة الغرب على العالم، والتحكم في السياسات الدولية بما يخدم المصالح الاستراتيجية لهذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، واستخدام الوسائل الممكنة للتحكم في قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لإعطاء شرعية أممية لمواقف الدول المتحالفة.

ويستمد النظام الدولي الجديد شرعيته من مبدأ القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ويخفي ذلك بمظلة وهمية من الشرعية الدولية الراضخة للضغوط والهيمنة.

وهناك أمران يدعمان هذه الشرعية :

الأمر الأول : قبول العالم لسيطرة القوة، والقوة هي معيار الأقوى في العلاقات الدولية، وهي فاعلة ومؤثرة وقادرة على التأثير في كل الآخرين عن طريق سيطرتها على وسائل الإعلام وترويج ما تشاء من الأفكار والقيم والثقافات والسياسات.

الأمر الثاني : بيان قمة مجلس الأمن الصادر بتاريخ 31 يناير 1992

وقد نص هذا البيان على أمور ثلاثة :

الأول : مقاومة الإرهاب الدولي، وجاء هذا المبدأ في سياق المبدأ الذي أقرته الأمم وهو حماية الأمن الجماعي.ولا خلاف في إدانة الإرهاب، فالإرهاب جريمة ضد الإنسانية، ويجب أن تتكاثف الشعوب لمقاومة الإرهاب، ولكن ما مفهوم الإرهاب ؟ والأمم المتحدة اقرت حق الشعوب في الدفاع عن حقوقها المشروعة، وأهمها حقها في الحرية والاستقلال، وجاء في المادةالحادية والخمسين من ميثاق الأمم المتحدة ما يقر للدول حق الدفاع عن النفس لمواجهة أية قوة غازية، وهذا يؤكد أن العنف الذي يدخل ضمن الإرهاب هو السلوك العدواني، وليس السلوك الدفاعي، وجرت العادة أن الأقوياء هم الذين يعتدون، أما الضعفاء فهم يدافعون عن أنفسهم، ولا مصلحة لهم في العدوان.

الثاني : زيادة كفاءة الأمم المتحدة : والغاية من ذلك تمكين الشرعية الدولية من حماية الحقوق الإنسانية والدفاع عن الشعوب في مواجهة الأخطار التي تتعرض لها.

الثالث : تحقيق الديمقراطية وإقامة أشكال حكم متجاوبة، وهو هدف رائع في ظاهره، إلا أن الأنظمة المتجاوبة تحمل معاني كثيرة، وأبرز هذه المعاني أن تكون الأنظمة متجاوبة مع تطلعات النظام العالمي الجديد والرضوخ لسياساته، وتمكينه نم تنفيذ سياساته لتكريس وصايته وهيمنته على العالم، وكل المؤتمرات تؤكد هذا المفهوم، والدولة التي ترفض التجاوب مع هذه السياسات تكون عرضة لاهتزازات داخلية وضغوط خارجية.

نظرة النظام العالمي الجديد للعالم الإسلامي

لا يمكن للغرب أن يخفي عواطفه السلبية تجاه الشعوب الإسلامية، ومن الصعب أن يتعامل الغرب بموضوعية وحياد مع قضايا العالم الإسلامي، للأسباب التالية :

أولا : النظام العالمي الجديد هو وليد رؤية الغرب المسيحي لمستقبل الحضارة الإنسانية، والغرب في كيانه ولأسباب تربوية وتاريخية يرى في الإسلام صورة الآخر المقاوم والمعاند والمتحدي والمتمرد، ومازالت هذه المشاعر كامنة في أعماق الشخصية الغربية المسكونة بمشاعر الخوف من الإسلام.

ثانياً : بروز تيارات أصولية متطرفة، رافضة لكل القيم الغربية ورافعة شعارات الجهاد لإخراج كل الغزاة والمحتلين، والتصدي لهم بكل الوسائل، وإسقاط رموزهم ومصالحهم، وهذا تيار ينمو بقوة في الأوساط الإسلامية.

ولكي يتمكن النظام العالمي الجديد من ترسيخ سياسته في العالم العربي والإسلامي فلا بد  له من رسم استراتيجية متماسكة تقوم على الأسس التالية :

أولا : مطاردة الأنظمة الوطنية ذات الامتداد الشعبي. بسبب التحامها مع شعوبها ورفضها السياسات الهيمنة والتضييق عليها ومحاولة إسقاطها.

ثانياً: مقاومة الحركات الإسلامية المعتدلة ذات المشروع الإسلامي القابل للحياة، وتشجيع الحركات الإسلامية المتطرفة لتخويف المجتمع الإسلامي من الإسلام، ولتحصين المجتمعات الغربية ضد الإسلام وإثارته عاطفياً ضد الخطر الإسلامي…

ثالثاً : احتضان المؤسسات الإسلامية العلمية والتربوية وعزلها عن مجتمعها، وتكوين أجيال مثقفة قابلة للقيم الغربية وجاهلة بحقيقة الإسلام.

رابعاً : رسم صورة الإسلام في الأذهان مقترنة بالعنف والقتل والقوة والجهل، لتحصين كل الآخرين ضد الإسلام.

خامساً : إطلاق كلمة الإرهاب على كل من يقاوم سياسات النظام العالمي الجديد، وإعداد شخصيات متطرفة وإبرازها إعلامياً لتشويه صورة الإسلام في الغرب، ولتبرير السياسات العنصرية ضد الأقليات الإسلامية.

والإسلام في نظر الغرب هو أخطر قوة تهدد النظام العالمي الجديد وتتمرد عليه ، ويملك كل الإمكانات النفسية للمواجهة والصمود والمدافعة، وليست الغاية تحقيق الانتصار، وإنما الغاية الصمود في مواجهة الآخر الذي يتطلع إلى السيطرة والهيمنة، ولا حدود لقدرات الإسلام على تكوين قابليات نفسية وشخصية للصمود والتضحية.

التيارات الثقافية في العالم الإسلامي :

لو تأملنا في التيارات الثقافية في المجتمعات الإسلامية لوجدناها كما يلي :

أولا : تيار متأثر بقيم الغرب رافض لقيم الإسلام، وهذا التيار يظهر في المجتمعات المتأثرة بالغرب فكراً وسلوكاً، وهذا التيار يتناقص ويتراجع لسببين : أولا : نمو وعي هذا التيار واكتشافه الجديد عن الإسلام، وثانياً : بسبب عزلته الاجتماعية والضغوط عليه من محيطه الاجتماعي.

ثانياً : تيار متأثر بقيم الغرب، ولكنه لا يرفض قيم الإسلام، ويحاول هذا التيار أن يجد صبغة للتوفيق بين قيم الغرب والقيم الإسلامية، ويعيش رموز هذا التيار في حالة ضياع فكري بين اختيارين، ومع زيادة الوعي بثقافة الإسلام يتراجع هذا التيار، ويزداد تعلق رموزه بقيم الأصالة ومشاعر الانتماء.

ثالثاً : تيار متأثر بقيم الإسلام ولا يرفض قيم الغرب، وهذا تيار واسع الانتشار في أوساط المثقفين، وهو منهج النخب الثقافية الذين يحاولون التوفيق بين الإسلام والغرب.

وهذا المنهج عقلاني وجدير بالتشجيع، وليس هناك ما يمنع من اختيار القيم الغربية الملائمة والمنسجمة مع القيم الإسلامية، والقيم الغربية الأصيلة هي جزء من التراث الإنساني الأصيل، ورموز هذا الاتجاه لا يخفون اعتزازهم بتراثهم الإسلامي، ولا يقبلون أن يقع تجاهل تراثهم، ويجب أن تحترم حرية هؤلاء، وان تعطى لهم حرية الرأي والتفكير، ولا حدود لحرية الفكر في المعقولات وفي تفسير النصوص، واختلاف الرأي لا يبرر التجريح أوالتجريم.

رابعاً : تيار مؤمن بالقيم الإسلامية متمسك بها، ورافض لكل قيم وثقافة مغايرة، حتى ولو لم تكن مناقضة للثوابت الإسلامية، وهذا التيار هو التيار السلفي، وهو على درجات متفاوتة، فقد يكون معتدلا ويعبر عن الالتزام والانتماء وقد يسير نحو التطرف ويرفض الآخر ويضيق به.

وهذا التيار يملك قدرات كبيرة على المواجهة والتضحية، وهو التيار الأكثر انتشاراً في المجتمعات الإسلامية والأحياء الشعبية، وفكر المقاومة ينطلق من هذا التيار الذي تمثله الأحياء الشعبية، وهو الإقرار على التغيير والتأثير، وهو المؤهل نفسياً للتضحية والتمرد، لقدراته على المواجهة والتضحية والاستشهاد.

نشأة الظاهرة الأصولية :

نشأت الظاهرة الأصولية في إطار الحركة الوطنية التي كانت تعبر عن ضمير هذا الشعب في تطلعاته المشروعة للحرية والاستقلال  والتقدم، وكان الإسلام العامل الأهم في تكوين المشاعر الوطنية الأصيلة، وهو المحرض الأهم على المقاومة والتضحية دفاعاً عن القيم الوطنية والخصوصيات الذاتية، وانطلقت الحركة الوطنية الأولى من المساجد والأحياء الشعبية الملتزمة بالإسلام.

ولما تحقق الاستقلال تسلق صرحه طامحون متأثرون بثقافة الغرب، وأحكموا قبضتهم على السلطة، وارتضى الغرب هؤلاء الأوصياء، وبارك سلطانهم، وأمدّهم بالعون والتأييد ، وتنكر هؤلاء لثقافتهم الأصيلة ولتطلعات شعوبهم، واتسعت الفجوة بين المواطن والسلطة، ولم تعد أصوات الجائعين والمحرومين تصل إلى البروج العالية المحمية بمواكب الموالين والمادحين والممنفعين، وكان المواطن البسيط متجاهلا ومستذلاً ومنسيا يعيش في الأزقة الضيقة المظلمة.

وكان عليه أن يخفي ألمه، ويمسح دموعه، ويصفق لرموز السلطة وهم يتقاسمون المناصب ويوزعون الغنائم.

وظهرت أحزاب وطنية ادّعت لنفسها حق الوصاية على الوطن والمواطن، وأخذت تعبث بكل الحقوق والقيم، وتزور إرادة المواطن، وتتحكم بالدساتير والقوانين والانتخابات، وأقامت لنفسها دروعاً أمنية ذات أنياب جارحة. واشترت ضمائر رموز الفكر والثقافة وحملة الأقلام، وأصبح هؤلاء هم جند النظام يبررون ويمدحون ويفتون باسم الوطنية حيناً وباسم الدين حيناً آخر.

ما أقسى ما كان يشعر به المواطن وهو يرى رموز الفكر تتساقط على الأرض لكي تلتقط فتات ما ترميه لهم المآدب الباذخة من بقايا ومخلفات…

كان الأطفال الصغار يرون ذلك الإذلال الذي يتعرض له آباؤهم، وكانت الذاكرة تلتقط كل ما تراه، وفي كل يوم تمتلئ القربة الداخلية والشباب لا يملكون حكمة الشيوخ… وابتدأت الأحداق الغاضبة اليائسة تتخاطب وتتعاهد،

وبدأت الرسائل تتوارد على الأجهزة الأمنية، الواثقة من صلابة دروعها، وكان التململ أولا، وكان التطرف ثانيا، وكان الشارع ثالثا.

أصولية اليوم ليست مثل أصولية الأمس، أصولية اليوم هي أصولية الشباب الثائر المتمرد اليائس الذي يشعر بالحرمان والظلم والإحباط.

لقد اكتشف هذا الجيل من الشباب أن الإسلام هو إسلامهم، وهم أقدر على فهمه من علماء الإسلام وأوجدوا لأنفسهم قيادات روحية تنسجم مع فكرهم، وتطرّفوا في سلوكهم، وانزلقوا في متاهات مظلمة يبررها الشعور بالمعاناة واليأس، ونمت في نفوس هؤلاء الشباب مفاهيم سلفية ضيقة تبرر لهم ما يريح نفوسهم من أفكار وسلوكيات.

وأوجدوا لأنفسهم مجتمعات مغلقة ضيقة، يشعر أفرادها بالدفء النفسي، والتكافل المادي، والتعايش في ظل الظروف القاسية، والاستعداد للتضحية.

ولو تأملنا في المجتمعات الأصولية لوجدنا أنها تمثل نماذج حية لمجتمعات أيدلوجية مثالية في نظرتها إلى الحياة والمجتمع، ويدفعها شعور إيماني عميق يبرر لها سلوكيات المدافعة والمغالبة والتضحية. وهذه المجتمعات الأصولية تقاوم القيم السائدة في المجتمع، ولو كانت قيما إسلامية مخالفة لعقيدتهم، ومعظم هذه المجتمعات حذرة من الآخر حيث كان، وتواجه أي فكر يتصدى لها، وتنظر إلى الفكر الإسلامي المعتدل نظرة إدانة وحذر، وتتهم رموزه بالتفريط والجهل والجبن، وتدين مواقف العلماء وخاصة علماء السلطة الذين يبررون مواقف السلطة، ويتصدون بقوة لكل من يعترض طريقهم أو يكشف أسرارهم.

أما العلماء فلا ينظرون بارتياح إلى الفكر الأصولي المتطرف، ويضيقون بأخطاره ومواقفه واندفاعاته، إلا أن معظمهم لا يرغب في التصدي لهم، ويخوفون السلطة منهم لكن يتقربون للسلطة بمواقف الاعتدال. وعندما يفقدون الأمل في السلطة فعندئذ قد يشجعون التطرف للتضييق على السلطة، وأحيانا يشجعون السلطة على التصدي للتطرف الأصولي للتعبير عن إخلاصهم للسلطة وحاجة السلطة لخدماتهم، لتبرير المواقف الخاطئة وشرعنة المواقف والسلوكيات ضد هؤلاء المتمردين والثائرين.

وأعتقد شخصيا أن الظاهرة الأصولية لم تستطع حتى الآن أن تعبّر عن فكرها ومنهجها، وما زالت حائرة مضطربة، والسبب في ذلك أنها تعمل في الخفاء، وهي مضطهدة ومطاردة، وهذا يدفعها إلى سلوكيات التطرف والعنف.

وأسلوب التعامل مع الظاهرة الأصولية هو أسلوب خاطئ ويدفعها إلى مزيد من التطرف، وهي ترفع شعار “الإصلاح”، ولكنها لا تملك تصورا متكاملا للإصلاح.

ويمكننا تقسيم التيارات الأصولية إلى أقسام ثلاثة :

أولا : التيار الأصولي الذي يركز نظرته الإصلاحية على تطبيق الأحكام الشرعية وأداء الوجبات الدينية، والالتزام بالحدود والحجاب والمظاهر الإسلامية، ويتميز هذا التيار بالاستقامة والجدية والتدين الفطري، وليست له مطامح سياسية، ويمكن احتضان هذا التيار والاستفادة منه في مخاطبة عوام الناس، ويتمثل هذا التيار في الطرق الصوفية والزعامات الروحية التي لا تملك أي مشروع للإصلاح، إلا فيما يتعلق بتنمية القيم الروحية.

ثانيا : التيار الأصولي الذي يرفع شعار الإصلاح السياسي والاقتصادي والثقافي، وهذا التيار سياسي في تكوينه وقابلياته، ويقوده زعماء أذكياء طامحون في السلطة، وغالبا ما يفقد هذا التيار تماسكه وبريقه عند وصوله للسلطة، لأنه لا يملك مشروعا واضحا ومتكاملا للإصلاح، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، ومن المتوقع أن ينقسم هذا التيار إلى قسمين : يميني ويساري، في إطار خطته الاصلاحية، وهذا التيار هو المرشح لكي يشارك في السلطة، ويملك قابليات للتعايش مع الآخرين، إلا أنه لابد إلا أن يصطدم بقوة مع التيار السلفي المتطرف الذي يتصدى له ويتهمه بالقصور والتفريط، وأغلب الظن أن هذا التيار سيكون مؤثرا في المسار السياسي للعالم العربي في الحقبة المقبلة، وسوف يقع ترشيده وضبط إيقاعاته.

ثالثا : التيار الأصولي السلفي، وهو تيار متطرف في فكره وفي مواقفه، ولا يقبل الحوار مع الآخر، وهو قوي ومتماسك ويملك قدرات على مخاطبة القاعدة الشعبية من خلال رموزه المؤثرة، ومن الصعب التصدي له عن طريق القوة، وقد أسهم الغرب في تكوينه وترسيخه وتشجيعه لكي يكون أداة بيده لمقاومة الشيوعية العالمية في أفغانستان, ومن المتوقع أن يكون له دور في تعميق الصراع السني الشيعي في هذه المنطقة، وقد نشأ هذا التيار في أحضان الفكر الوهابي وكان يحظى بالرعاية والمساندة والدعم، وما زالت ملامح هذا التيار غامضة وانتماءاته غير واضحة، وتنتمي القاعدة لهذا التيار، وهو رمز الإرهاب في نظر الغرب، وقد أسهمت القاعدة في تبرير سياسة الغرب في مقاومة الإسلام تحت شعار الإرهاب، وهناك دور كبير ينتظر هذا التيار الأصولي في تفجير الصراع الطائفي في المنقطة الإسلامية، ومن المرجح أن هذا التيار السلفي الملتزم والمقاوم مخترق من قياداته، ويتحرك في إطار غامض، ويحظى بمساندة مادية وإعلامية، وبعض الأنظمة الاستبدادية تشجعه من خلف الستارة لكي تخيف به خصوم النظام في الداخل، وحماة النظام في الخارج، ويتحرك هذا التيار السلفي في الخفاء، ويقوم بمهمات غامضة، لتحقيق أهداف سياسية وأمنية واستراتيجية.

وهناك الأصولية الشيعية ذات الطموح الكبير للسيطرة على الساحة الإسلامية من خلال مواقفها وشعاراتها المرتبطة بالمقاومة والتصدي لسياسات النظام العالمي الجديد، وهي ذات مشروع طموح للسيطرة على الساحة الاسلامية، وهي منظمة ومنضبطة ومستعدة للتضحية، وهي متمركزة في الزوايا الركنية في المشرق العربي وتملك بيدها مفاتيح الآبار النفطية والممرات البحرية، وهي في نمو متصاعد، وهي الأنياب الحادة للسياسة الايرانية والغرب يخشاها ويخوف المشرق العربي من هذا الهلال الشيعي المقاوم والطامح للسيطرة والهيمنة.

مواطن بروز التيارات الأصولية

وتبرز التيارات الأصولية في ظل المناخات الملائمة لنموها وازدهارها، وفي الأرض الخصبة المهيأة لقبولها، وتحتاج إلى رعاية وسقاية لكي تترسخ جذورها، وهي حركة اجتماعية ذات جذور قوية من العقيدة، بالإضافة إلى ظروف اجتماعية وسياسية ملائمة، ويمكن أن تنشأ في مجتمعات الفقر كما تنشأ في مجتمعات الترف، وفي الأنظمة الدينية والأنظمة العلمانية…

أهم هذه المجتمعات ما يلي :

أولا : المجتمعات ذات الأنظمة الإيدلوجية، المعادية للإسلام، ومن الطبيعي أن تنتشر الأصولية في هذه المجتمعات كردّ فعل طبيعي وحتمي في مواجهة السلطة للتعبير عن إرادة الشعب واختياراته،

ثانيا : في ظل مجتمعات الترف والفساد ، وتبرز الظاهرة الأصولية كتعبير شعبي عن إدانة ذلك السلوك الخاطئ المتمثل في مظاهر الترف الذي يستفز المشاعر ويوقظ الأحقاد، وبخاصة في المجتمعات التي يبرز فيها التفاوت الطبقي واستغلال النفوذ وسيطرة الأقوياء على الضعفاء، وتلجأ الطبقة الفقيرة إلى الإسلام كتعبير عن إدانتها للفساد الأخلاقي والانحلال وسلوكيات الترف، ويقاوم المواطن هذه المظاهر بالتمسك بالإسلام كسلاح لحماية نفسه ولتبرير إدانة الفساد، وسلوكيات الترف تستفز المواطن الفقير وتثير الغضب في نفسه.

ثالثا : في ظل الأنظمة الاستبدادية، وفي هذه الحالة يتمسك المواطن بالإسلام لمقاومة الاستبداد والمطالبة بالشورى والحريات العامة.

والإسلام هو حليف المستضعفين، وهو المدافع عنهم في مواجهة الأنظمة الفاسدة والقوانين الجائرة والسلوكيات الخاطئة، ولا يمكن للإسلام أن يتحالف مع رموز السلطة الجائرة أو المال أو أن يكون مظلة لرموز الفساد، وعندما تحالفت الكنيسة في أوروبا مع الأنظمة الأرستقراطية  تخلى الأوربيون عن الكنيسة وذهبوا إلى الشيوعية، والإسلام ليس له رجال دين، وإنما هو عقيدة وثقافة، ولا سلطان لأحد على الإسلام، ولا سلطة لرجال الدين في الإسلام.

ومن أهم الأسباب التي أدت إلى ترسيخ الظاهرة الأصولية في العالم العربي ما يلي :

أولا : التحدي الصهيوني الذي أيقظ الشعوب الإسلامية، وأشعرها بالخطر الذي يمثله هذا التحدي المدعوم من الغرب، والحركة الصهيونية هي حركة دينية متطرفة، ومن الطبيعي أن تنشأ الظاهرة الأصولية في الضفة الأخرى.

ثانيا : حالة الاحتقان الاجتماعي المتولدة من فساد الأنظمة السياسية وتجاهل القوانين الاجتماعية المعبرة عن مطالب الطبقات الفقيرة في الأجور العادلة وسياسات التشغيل والتفاوت الطبقي الكير.

ثالثا : دور الإعلام في التوعية الدينية، ولم تعد الدولة قادرة على التحكم في التوجيه الديني، وخرج الدين من الوصاية المفروضة عليه، وأصبحت مفاهيمه في متناول جميع فئات المجتمع.

موقف النظام العالمي الجديد من الأصولية

يقوم النظام العالمي الجديد على أساس القوة والسيطرة والتحكم في مسارات الشعوب بحيث تكون اختياراتها منسجمة مع التصور الغربي لمستقبل الإنسان والمجتمعات والدول في ظل منظومة متكاملة للمفاهيم والقيم والحقوق الإنسانية، وهناك جوانب إيجابية في هذا التصور وبخاصة ما يتعلق منها بحقوق الإنسان والديمقراطية ومفهوم الدولة الحديثة والأمن الجماعي والشرعية الدولية.

إلا أن الغرب لم يستطع أن يتحرر من أحكامه المسبقة المترسخة في أعماق الشخصية الغربية، وهي الخوف من الإسلام كدين وأمة وتصور إيدلوجي، ومعظم الغربيين يجهلون حقيقة المفاهيم الإسلامية، ويخشون من كلمة “الجهاد” ومن بعض الأحكام الإسلامية المرتبطة بالنظام الاجتماعي، وهم يحرصون على تحصين مجتمعاتهم من الإسلام ويضيقون بتمسك المسلمين بثقافتهم الإسلامية الأصيلة.

والظاهرة الأصولية ظاهرة طبيعية وليست موجهة ضد الغرب، وإنما هي معبرة عن الانتماء والخصوصية، وقد أسهم الغرب في بروزها، وأراد أن يقاوم بها خصومه، وأن يحقق بها أهدافه، وأن يحمي بها مصالحه، ولما شبت عن الطوق وتمردت أراد أن يحكم سيطرته عليها عن طريق القوة، وكان يخشى منها على مصالحه في مناطق ثلاث :

المنطقة الأولى : الدول المجاورة لإسرائيل، وهي دول يجب أن تكون حدودها آمنة ومريحة، والتيار الأصولي المقاوم يهدد الأمن الإسرائيلي وأسرائيل هي قاعدة الغرب في هذه المنطقة.

المنطقة الثانية : منطقة الخليج النفطية، وهي منطقة حيوية لأنها تملك أكثر من نصف احتياطي النفط والغار في العالم.

المنطقة الثالثة : الدول التي تمثل الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وهي دول مجاورة للغرب، وينعكس تطرفها على الأمن والمصالح الاقتصادية، والجاليات والهجرات والتفاعل الثقافي في الحوض المتوسطي.

ووقف النظام العالمي الجديد من الظاهرة الأصولية موقف الخوف والتردد والتصدي لها، وأدى هذا إلى نموها وانتشارها.

وهناك احتمالات ثلاثة لكيفية التفاعل الغربي مع الظاهرة الإسلامية :

الاحتمال الأول : تجاهل هذه الظاهرة، والتعامل معها بحياد وموضوعية كظاهرة ثقافية واجتماعية، وهذا اختيار صعب، لأنه سيؤدي إلى نمو هذه الظاهرة، والسيطرة على الأنظمة السياسية والتحكم في القرارات والسياسات.

الاحتمال الثاني : المواجهة العسكرية مع هذه الظاهرة الأصولية، وتأييد الأنظمة المعادية لها، وتأليب هذه الأنظمة على التصدي لها، وتبرير كل السياسات القمعية ضد هذه الظاهرة، وقد فشل هذا الاختيار لأن سياسة القمع والعنف والسجون أعطت لهذه التجمعات الأصولية شرعية الدفاع عن وجودها وفكرها، وانتقلت من مرحلة المدافعة إلى المغالبة، وارتفع سقف مطالبها الإصلاحية.

الاحتمال الثالث : اشتغال هذه الأصوليات بخلافاتها الفرعية، ودفعها لسلوكيات التطرف والعنف، وإبراز صورتها الكئيبة المرعبة لتحصين الآخرين عن التعاطف معها، وتسليط الأضواء على رموز أصولية متطرفة ذات رؤية إصلاحية منفرة ومرعبة، وهذا ما لجأت إليه وسائل الإعلام الغربية في تشويه صورة الإسلام والتخويف منه.

الظاهرة الأصولية

لم تستطع التيارات الأصولية حتى اليوم أن توحد رؤيتها الإصلاحية، وأن تعبر عن منهجها الذي تريده وظلت بالنسبة لكل الآخرين غامضة حائرة مضطربة، وهناك خوف واضح من الشعارات الأصولية المتطرفة، وقد أسهمت النظم الحاكمة في عالمنا العربي في تشويه صورة الظاهرة الأصولية، وربما ساهمت في تشجيع التطرف فيها، ودفعها لمواقف صدامية، لتخويف المجتمع منها، وأنها ستمثل الخيار الأسوأ والمخيف الذي يهدد الوحدة الوطنية وينشر الرعب والخوف في المجتمع.

أسباب امتداد الظاهرة الأصولية

ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى امتداد الظاهرة الأصولية التي أصبحت اليوم العمود الفقري لكل الثورات العربية، وهي الوقود المحرض والمنظم لكل هذه التظاهرات الشعبية.

السبب الأول : ارتباط الفكر الأصولي بالإسلام كعقيدة مؤثرة وثقافة تؤمن بكرامة الإنسان وقيم أصيلة ترفع شعار الجهاد والمقاومة والتضحية  …ومجتمع محبط يائس جائع يشعر بالظلم والمهانة، ويُستفز في كل يوم بمظاهر الترف والفساد والانحلال، وتحكمه أنظمة أمنية تحكم قبضتها على حريته لابد له الا أن يبحث عن خلاصه من خلال تمسكه بدينه وعقيدته التي تمنحه الشعور بالأمان النفسي، وتبرر له سلوكيات التعبير عن غضبه المكبوت.

السبب الثاني : فشل الأنظمة التقدمية الاشتراكية في مشروعها الإصلاحي، على المستوى السياسي والاقتصادي والأخلاقي، وكانت هذه الأنظمة أقسى على المواطن المستضعف من كل الأنظمة التقليدية الأخرى، وكانت أنظمة استبدادية فاسدة استأثرت بالسلطة والثروة واستخدمت الدين والفكر والثقافة والإعلام لتبرير تجاوزاتها، وكان الإسلام هو البديل الذي يتطلع إليه المستضعفون والمنسيون من الشعوب.

كيفية التعامل مع الظاهرة الأصولية

اعتقد أن من الضروري أن تكون هناك إستراتيجية مدروسة وواقعية لكيفية التعامل مع الظاهرة الأصولية، وأهم ملامح هذه الاستراتيجية ما يلي :

أولا : التعامل مع الظاهرة الأصولية بطريقة واقعية وهادئة ومنصفة ومن غير خوف أو تردد، وهي جزء من النسيج الاجتماعي لمجتمعنا العربي، وهي قادرة على انتزاع حقوقها بقدراتها الذاتية، وتحظى بتعاطف شريحة كبيرة من المجتمع معها. لأنها حركة شعبية عفوية تعبر عن معاناة الطبقة الفقيرة والمحرومة، وكلما اتسعت مشاعر الحرمان زادت رقعة امتدادها في أطراف المدن المترفة وفي ضواحيها المكتظة بالبؤساء والعاطلين.

ثانيا : الإسراع في تبني خطة إصلاحية جادة وشجاعة ومقنعة ومريحة في المجال السياسي وفي السياسة الاقتصادية والاجتماعية، وتشمل ما يلي :

1. إعادة النظر في مفهوم الدولة، بحيث تكون الدولة أداة لخدمة المواطن، تحترم كرامته وحريته، وتسهم في حل مشكلاته، ولا شرعية للسلطة خارج نطاق الإرادة الشعبية.

2. إعادة النظر في النظام الاقتصادي بحيث تراعى فيه المصالح الاجتماعية في الأجور والحقوق، والرقابة الجادة على نمو الثروات والملكيات، وإيجاد سياسة ضريبية تخفف من تكدس الثروات، وانزلاق الامتيازات إلى المنعرجات المحظوظة والمحمية بالنفوذ والسلطة.

3. مقاومة الفساد بكل مظاهره، والتصدي لرموزه، لكي يثق المواطن بالسلطة المؤتمنة على حماية مصالحه، والمواطن وفيّ للسلطة التي تحمي مصالحه، وهذه السلطة لا تسقط أبدا لأن المواطن يحميها، ولم تعد الدبابات قادرة على حماية الأنظمة.

4. التخفيف من السلوكيات الاجتماعية التي تستفز المواطن في عقيدته وأخلاقه أو في حقوقه ومشاعره الإنسانية وعدم الاستئثار بالسلطة والمال والنفوذ، واحترام اختيارات المواطن والاهتمام بقضاياه المعاشية.

ولا مبرر للتطرف في ظل السياسات العادلة والعاقلة، لأن التطرف هو رسالة احتجاج أولى، وعندما يقع الاستخفاف بمطالب المواطن يكون العنف هو الرسالة الثانية، وإذا لم تُقرأ هذه الرسالة فالثورة حتمية.

والحركة الأصولية كما أراها الآن في مجتمعنا العربي هي حركة اجتماعية تحتمي بمظلة دينية، وتستمد شرعيتها من انتمائها الوطني وتعبيرها عن إرادة الأكثرية المنسية والمهمشة، وفي حال انتصارها فهي مؤتمنة على تحقيق أهدافها في الإصلاح والعدالة والنزاهة والاستقامة، وأن تحترم حقوق الآخرين بعيدا عن التعصب الديني والانعزالية والتضييق على المجتمع في ممارسة حرياته المشروعة، والمشاركة في بناء دولة مدنية عصرية يتساوى الجميع فيها.

واعتقد أن النظام العالمي الجديد سوف يتعامل مع الظاهرة الإسلامية كخيار وحيد لا مجال لتجاهله، بعد أن فشل الخيار الأمني في التعامل مع هذه الظاهرة، وأخشى أن تتعثر هذه الظاهرة الأصولية بسبب غياب قيادات مؤهلة لها، وتنساق بتأثير من العواطف نحو مواقف ضيقة، وأن تقوم على غير إرادة منها بتنفيذ سياسات خاطئة أو توليد احتقانات قومية أو طائفية أو دينية.

وعالمنا العربي وبخاصة في المشرق العربي مقبل على واقع جديد، قد يكون مليئا بالتوترات والشعارات والصراعات القومية والطائفية والتحالفات التي تهدد التعايش التاريخي بين شعوب هذه المنطقة، وأرجو ألا يكون العالم العربي بعيدا عما يجري في الغرف المغلقة من اتفاقات وسياسات، لإعادة رسم الخريطة الجغرافية وإعادة توزيع المهمات للسيطرة على مسار الأحداث، وسوف تكون تركيا العثمانية المدعومة من الغرب هي اللاعب الأقوى في المعسكر السني في مواجهة إيران الشيعية ذات الطموحات الفارسية القديمة.

نريد لربيعنا العربي أن يكون مبشرا لشعوبنا بعصر جديد من الحرية، ولا نريد أن يكون خريفا مثقلا بالعواصف والغيوم، نريد لأشجارنا أن تورق وأن تثمر، ولا نريد لأغصانها الخضراء أن تسقطها رياح الخريف التي تقترب من شواطئنا الآمنة.

( الزيارات : 1٬921 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *