مقدمة كتاب السيد النبهان

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيَّد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين:

يسعدني أن أقدَّم هذا الكتاب عن شخصيَّة المربّي الكبير الشيخ محمّد بن أحمد النبهان رحمه الله وفكره وآرائه وآثاره. فقد كان الشيخ من الشخصيّات الإسلاميّة المتميّزة بمنهجها التربوي الذي يعتمد على تزكيّة النفوس وطهارة القلوب، وهذا المنهج مستمدٍّ من الفكر الإسلامي الأصيل المعتمد على القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، حيث استطاع الشيخ رحمه الله أن يجسّد هذا المنهج من خلال سلوكه الشخصي وأقواله وافعاله وتوجيهاته.

وخلّف الشيخ تراثاً تربوياً أصيلاً يلتقي مع الفكر الصوفي في معظم منطلقاته وأسسه التربويّة والروحيّة، ويختلف عنه في ابتعاده عن الطقوس الطرقيّة المألوفة، ممّا جعل هذا المنهج أكثر ارتباطاً بالنصوص الشرعيّة، وأكثر حرصاً على الالتزام بمضامينها في مجال العقيدة والسلوك، ولعلَّ هذه المنهجيّة هي أقرب لمنهجيّة المدارس الصوفيّة الأولى في القرون الثلاثة الهجريّة التي كانت الصوفيّة فيها صافية الينابيع بعيدة عن الشطحات والتأويلات المتكلّفة التي كانت مطيّة لانحرافات المتأخرين.

إن الهدف الذي كان يسعى الشيخ لتحقيقه هو حسن الخلق والتخلّق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم واتّباع ما أمر به في كلّ أمر من الأمور، لأنّه كان يجد الكمال في ذلك، لا طمعاً في ثواب ولا خوفاً من عقاب، وإنّما محبّة لله ولرسوله والعمل بما جادت به الشريعة من كمالات.

وكان يردِّد في مجالسه أنَّ غفلة القلوب الناتجة عن تراكم المخالفات تجعل القلب غير مؤهَّل لإشراق المعرفة فيه، ولابدّ للمعرفة من تزكيّة النفوس، لكي لا يكون في القلب أي حجاب عن الله.

ومن التفت قلبه عن الله فهذا دليل على الجهل والغفلة، والالتفات غفلة في نظر العارفين والقلوب الغافلة يعيبها الصدأ ولابدّ لها من تصفيّة ونقاء وطهارة.

ولعلَّ من الأسباب التي أدَّت إلى اهتمام الشيخ بتصحيح صورة السلوكيّة الصوفيّة حتى تكون كما كانت في عهود ازدهار الحياة الروحيّة انغماس الطرق بالسلوكيّات الظاهرة والاهتمام بها، وعدم الاهتمام بالتربيّة الروحيّة الحقّة التي تجعل القلوب مهيأة لتلقي توجيه الله بالاستعداد له والأدب مع الله في الظاهر بالاتّباع المطلق، وبالباطن بالتسليم لله تعالى، وأول خطوة في السلوك إلى الله هي تقوى الله، والتقوى تحتاج إلى المحاسبة المستمرة لكي يكون العمل لله تعالى، وليس لغيره، فمن أصابه الغرور بسبب عبادته فقد حجب عن ربه.

ومن أبرز ما حرص عليه الشيخ التأكيد على أنَّ الزهد لا يعني الترك والإهمال والتخلي عن المال والانصراف عن العمل، وإنَّما الزهد هو زهد القلب وعدم انصرافه إلى شؤون الدنيا لوجود مرغوب فيه أكثر أهميّة في نظر الزاهد، وهو ما وعد الله به المتّقين في الآخرة من ثواب ونعيم، وانصراف القلب لا يعني عدم العمل والكسب، وإنّما يعني التحررّ من عبوديّة الدنيا تعلّقاً بالله تعالى، فالعمل ليس مذموماً والدنيا ليست مذمومة، وإنّما المذموم هو النهم في الدنيا، والانشغال بها، والزهد فيما يجب أن يكون مرغوباً فيه من أمور الآخرة.

ولابدّ أن تكون الغايّة من الطاعة هي الله، ولا شيء آخر، فإن اقترنت الطاعة بحظٌّ من حظوظ النفس أصيب صاحبها بالغرور ووقعت النفس في الرياء، والرياء مدخل النفس إلى الصفات المذمومة كحب الحمد وإظهار العبادة والتفاخر بعمل الخير ولذَّة سماع المديح والثناء.

وقد حرصت خلال ترجمتي لحياة الشيخ والتعريف بفكره على تذكّر كلماته كما سمعتها بنفسي منه في مجالسه ومذاكرته، ولم تأت في دراسة مكتوبة، وهذا ممّا يجعل الحكم على الأشياء مختلفاً، لاختلاف طبائع الناس في فهم ما يسمعون، وحاولت بجهد كبير أن أكون أكثر التصاقاً بشخصيّته، من خلال استكشاف النسق العام لهذه الشخصيّة في محاولتها لتأسيس هذه المنهجيّة التربويّة المتميّزة.

من حق أي إنسان أن يرى شيئاً آخر وأن يفهم النص بطريقة مغايرة، وهذا حق معترف به للآخرين، إلاّ أنّه من الضروري ملاحظة النسق العام الذي يمثّل الخط البياني الذي لا اعوجاج فيه، فالمواقف محكومة بظروفها المكانيّة والزمانيّة، كما هي محكومة بطبائع المخاطبين، وبخاصة في ظل مجتمع تغلب عليه قيم سائدة من العادات والتقاليد.

كنت أرى في شخصيّة الشيخ انفتاحاً عجيباً على قيم إنسانيّة ساميّة، ولم أكن أجد ذلك التزمت في المواقف والتعنت في الآراء والانغلاق في مواجهة الآخر الثقافي والاجتماعي، ويجب أن نفرّق بين سلوكيّات الكمال والدعوة إلى التزام الكمال وبين التزمّت الضيّق المقترن برفض الآخر، فلم يكن الشيخ يرفض الآخر في أيّ موقف، وكان من أكثر الناس التماساً لعذر الآخرين فيما هم فيه، لا إقراراً لهم بما هم فيه على أنّه الكمال، ولكن اعترافاً بحق الآخر في اختيار سلوكه ولو كان خاطئاً، ومساعدته بالبيان على الارتقاء بمستوى اهتماماته وأفكاره وسلوكيّاته.

كان الشيخ يحبُّ الحياة البسيطة لا لأنّها الخيار الصحيح والوحيد للكمال، ولكن لأنّه كان يميل إلى ذلك، ولم يكن يرفض بالنسبة لغيره حياة الدعة والترف، فذلك اختيار شخصيّ، ويجب احترام خصوصيّات الأفراد في اختياراتهم.

من حق أي شخص أن يرى في أفكار الشيخ ما يترجّح لديه، كمن يقرأ في لوحة زيتيّة معاني ودلالات مختلفة عن الآخرين، ولكن ليس من الإنصاف أن يحكم على أفكار الشيخ من خلال قراءات ضيّقة، وبخاصة بالنسبة للجيل الذي عاش مع الشيخ، فهو المصدر الوحيد للمعرفة، ولو كانت للشيخ كتابات لكان بالإمكان إعادة قراءة كتبه في كلّ حين، وإعطاء الفرصة للجيل اللاحق للفهم بالقراءة الثانيّة والثالثة، إلا أنَّ ذلك غير ممكن، لعدم وجود تراث مكتوب، ولابدّ من الاعتماد على الوقائع الجزئيّة والأحداث والمواقف لاستكشاف النسق العام المنسجم مع شخصيّة الشيخ.

ولابدّ من مراعاة البيئة المكانيّة والزمانيّة، فالمواقف ليست شيئاً منفصلاً عن البيئة المؤثرة في تكوين تلك المواقف، كما أنه لابدَّ من مراعاة طبيعة المخاطب، وكان الشيخ قادراً على أن يكون مخاطباً لكلّ الآخرين، وكان يملك القدرة على التواصل النفسي والفكري مع زوّاره ولو كانوا يمثلون الضفة الأخرى، فما ضاق بالآخر فكراً، ولا حكم على أي إنسان بالانحراف والإلحاد، وكان سبيله إلى هذا التواصل هو البعد الإنساني الذي كان المنطلق الأساسي لفكره الإصلاحي.

هذه ملاحظات أردت تسجيلها في محاولة لإلقاء الضوء على شخصيّة الشيخ كما هي وكما رأيتها وعشتها، وكنت أشعر أنني قريب فكرياً منه، بل كنت أشعر أنني أنهل من نفس الينبوع الذي أرى العذوبة في مياهه، لا من الناحيّة العاطفيّة وإنّما من الناحيّة الفكريّة.

وفي هذه الدراسة التي قسَّمتها إلى أربعة أبواب رئيسيّة، خصّصت الباب الأول للحديث عن الشخصيّة والمكوِّنات والملامح، فالفكر هو ثمرة شخصيّة إنسانيّة، والشخصيّة نتاج مكوِّنات أساسيّة تسهم في صياغة ملامحها الذاتيّة سواء كانت ملامح ظاهرة أو ملامح فكر يصدر عنها، ولا يمكن فصل الشخصيّة عن المكوِّنات الأساسيّة لها، وكما أنَّ الجغرافيا تلوّن ملامح الشعوب وتصوغ لها خصائصها الذاتيّة وانفعالاتها السلوكيّة، وقوة اندفاعاتها في لحظات الغضب فإن البيئة الاجتماعيّة تلوّن ملامح الثقافات وتضع لها قوالبها، وتعمّق في ذاتها القيم الثابتة، فتجعل منها ثقافات منغلقة أو متفتِّحة، ذات طبيعة أنانيّة أو إنسانيّة، ولهذا فلا يمكن فصل الشخصيّة عن مكوِّناتها التربويّة والبيئيّة والقيميّة، ولا يمكن فصل الفكر عن البيئة التي احتضنت ذلك الفكر وعمّقته وغذّته في أعماق الذات، ولا يمكن للشخصيّة أن تتحرر كلياً من مكوِّناتها، إلاّ بالقدر الذي يمكّنها من إيجاد التوافق بين الفكر والاستعدادت الذاتيّة وقابليّات التغيير، وهنا تبرز قدرات الشخصيّة على التوفيق بين ما كان وبين ما يجب أن يكون، ولابدّ من وجود قنوات للتواصل بين الواقع والأمل المنشود، ومن اليسير إحداث التغيير المطلوب في إطار النسق الأخلاقي المنسجم، وهذا تغيير يجد استجابة سريعة لأنّه تغيير إلى الأفضل والأسمى، فلا يقع الاصطدام بين القديم والجديد، فالجديد هو امتداد تصحيحي تنشرح له النفوس وتطمئن له ولا تضيق به إلا في إطار مدافعة النفوس عن ذواتها وغرائزها، وتزكيّة النفوس دعوة إلى الخير ونداء إلى الأفضل، ولا يمكن لدعوة الخير أن تصطدم بالجدران الحديديّة، فالشهوات الناتجة عن الغفلة لا تبني الجدران المحصَّنة، وإنّما تقيم حواجز وهميّة لكيلا تسمع كلمة الحق التي سرعان ما تهدم عوائد الشهوات.

ولهذا فإنّ دراسة الشخصيّة تتطلب دراسة مكوِّنات تلك الشخصيّة سواء كانت مكوِّنات ذاتيّة أو تربويّة، فالاستعداد الفطري ذاتي وسرعان ما تتحكم فيه البيئة أو توجهه، وهنا يبرز دور المجاهدات النفسيّة التي تقوم بدور التصحيح، لكي تكون الغرائز الفطريّة في قبضة العقل يتحكم فيها، ويأتي دور الشرع لكي يوجه العقل نحو الاختيار السليم، ولا يخلو أمر المجاهدات من وجود عنايةٍ سابقة، فالمجاهدات جهد مادِّي ولابدّ له من استعداد سابق وهمَّة عاليّة، ولولا وجود العناية في المجاهدات لمَا احتملها السالكون، ولضاقوا بها، نظراً لما فيها من جهد وتضحيات بملذات قائمة في سبيل غاية منشودة، ولقد أحسن ابن عطاء الله في وصف الخصوصيّة بقوله:

«إذا فتح الله وجهة من التَّعرف فلا تبال معها وإن قلَّ عملك، فإنَّه ما فتحها لك إلاّ وهو يريد أَنْ يتعرف إليك، ألم تعلم أنَّ التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه ممّا هو مورده عليك».

ويتضمَّن هذا الباب المتعلِّق بالشخصيّة المجالس والمذاكرات والتعريف بالأصدقاء والإخوان، وذلك لمعرفة ما يحيط بالشخصيّة ومدى تأثيرها في محيطها الاجتماعي وتأثرها به، وبيان ذلك التفاعل بين المربّي والسالك، والحديث عن محبيه وتلامذته جدير بأن يخصص له بحث مستقل، فهم جزء من حياة الشيخ وهم أثره الذين يحملون فكره، وكان لهم تأثير في مسيرته في الدعوة والتربية، كما كان لهم موقع متميز في نفسه، فقد كان قويَّ الصلة بهم، يحبُّهم ويأنس بهم، يلقاهم في الصباح والمساء، ويتابع أخبارهم ومشاكلهم بعاطفة من المحبة، وكأنّهم أسرته القريبة، وكان يريدهم أن يكونوا الأفضل والأكمل، ويحبب إليهم الفضيلة ويحضُّهم على التعلِّق بالكمال، ويريدهم أن يكونوا إخوة متحابّين في الله متعاهدين على أن يعملوا الصالحات وأن يخلصوا النيّة لله تعالى…

أمّا الباب الثاني فقد خصَّصته للحديث عن فكر الشيخ وآرائه ومواقفه، ومن اليسير استكشاف مصادر فكره والمكوِّنات التي تسهم في رسم ملامحه، ولاشك أنَّ شخصيّة الشيخ بمكوِّناتها واستعداداتها الذاتيّة هي الركيزة الأولى لذلك الفكر، الذي تبرز فيه القيم الإنسانيّة الرفيعة تغذّيها وتعمّقها المعاني الإيمانيّة التي كانت الرافد الأهم لفكر الشيخ، ويتميز هذا الفكر بأصالته المستمدة من المعرفة بالقرآن، وتمثله كمنهج قويم للحياة، متكامل في توجيهاته، قاعدته الأساسيّة هي إصلاح النفس بالتزكيّة والتربيّة والمجاهدة، للوصول إلى الاستقامة التي تعتبر الهدف والغايّة، فالدين له غايّة أساسيّة تتمثّل في تكوين ملامح شخصيّة محبة للخير متطلعة إلى الكمال، تسعى في خدمة الآخرين، تحاسب نفسها على كلّ أفعالها وتراقب الله في كلّ خطوة من خطواتها، والطريق إلى هذا الهدف هو تمثل الإسلام بفكره وعقيدته وسلوكه، وعدم الاهتمام بالطقوس الظاهرة التي غالباً ما تحجب الإنسان عن الغاية المرجوَّة منه من التحقق بمرتبة العبوديّة لله تعالى، وكانت آراء الشيخ ومواقفه تمثل ذلك النسق المنسجم المتكامل الذي لا تكلّف فيه ولا تناقض، فحياة الشيخ هي تجسيد لأفكاره وآرائه، ولا نجد ذلك التناقض بين الشخصيّة وفكرها، وبالتالي فإن آراء الشيخ ومواقفه يمكن أن تستمد من حياته الشخصيّة، وهذا مما يعطي للفكر مصداقيّته في مجال السلوك.

لعلَّنا نلاحظ أنَّ فكر الشيخ لا يختلف عن الفكر الصوفيّ في قضاياه واهتماماته وفي ملامحه، وهذا أمر واضح، فالشيخ يمثِّل الصوفيّة الحقَّة في نقائها وصفائها، ولعلَّه يذكِّرنا بذلك الجيل الأول المؤسس للفكر الصوفي من أمثال الطوسي والكلاباذي والحسن البصري والقشيري الذين قدّموا الفكر الصوفي في نقائه واستقامته وفضائله فضلاً عن التزامه بأحكام الشريعة وكراهيته للمظاهر الخارجيّة التي تتمثّل في سلوكيّات مخالفة للشريعة ومسيئة لنقاء التصوّف الداعي إلى طهارة القلوب والالتزام بالأخلاق المحمودة والتخلّي عن الصفات المذمومة.

كان الشيخ يركّز على الجوانب الإيجابيّة المفيدة، ولا يلقي بالاً للجوانب السلبيّة والتي كان يتجاهلها، وكان تجاهلها بحد ذاته يعتبر موقفاً منها، ودون أن ينكر على أصحابها، أدباً منه مع الآخرين، واحتراماً لخصوصيّاتهم واختياراتهم.

وقد شرحت آراءه ومواقفه المستمدّة من أحاديثه ومذكّراته أو من ترجيحاته لما يقوله الآخرون، وكانت له ترجيحات لأقوال أو اختيارات لمفاهيم، أو تصحيحات لكلمات أو تحقيق بعض القضايا وبيانها، وأحياناً كان ينفرد بفهم غير مسبوق، أو بإضافة جديدة، وكثيراً ما كان يضيف فهماً لأقوال السابقين حول شرح لكلمة أو توجيه لها، وكان يضيق بالأقوال الشطحيّة التي لا تقبل التأويل الذي يوافق ما عليه السلف من المعتقدات، وينصح اتباعه بالابتعاد عن الاهتمام بهذه الشطحات أو ترديدها، لأنَّ ضررها كبير، كما كان ينصح بعدم قراءة كتب من اشتهروا بهذه الشطحات، وبالرغم من حبه للإمام محي الدين بن عربي فقد كان ينصح بعدم قراءة كتابه الفتوحات المكيّة، لأنَّ ما فيه قد لا يفهمه العامة، لأنّه يكتب عن أحوال ذوقيّة لا يمكن فهمها إلا لمن عاش في نفس تلك الأحوال ذاتها، وعندما سئل مرة عما كتبه ابن عربي عن وحدة الوجود أجاب السائل بضرورة الابتعاد عن الانشغال بهذه الأمور التي تضر ولا تنفع، وكان يضيق بانشغال العامّة بالكرامات والشطحات والآراء المبهمة والألغاز كما كان ينهى عن مصاحبة المجاذيب وأصحاب الأحوال الذين لا يلتزمون بحدود الشريعة.

وفي الباب الثالث تحدّثت عن آثار الشيخ في المجال العلمي والثقافي والاجتماعي، انطلاقاً من الدور الذي قامت به الكلتاويّة في نشر الدعوة الإسلاميّة والتربيّة الأخلاقيّة وتعميق القيم الروحيّة، وأصبحت لفظة الكلتاويّة تعني مقر الشيخ وهي الرمز لفكره في حياته وبعد رحيله، وعندما تذكر الكلتاويّة يراد بهذا الاصطلاح منهجيّة الشيخ وفكره وإخوانه، وما زالت هذه الكلمة معبّرة عن هذا المعنى، فإخوان الكلتاويّة هم جماعة الشيخ في أي مكان، وهناك خصوصيّات للكلتاويّة ويجب أن تبقى وتستمر، فالكلتاويّة باقية بفكرها النابض الحي المتجدد، فإذا انعزلت أو ضيقت الخناق على نفسها أو كانت رمزاً من رموز التشدّد في المواقف والأفكار فهذا ممّا يجعل دورها يتراجع، ولابدّ لها من أن تكون مدرسة فكريّة لأجل الغد إن أرادت البقاء والاستمرار، فالأجيال اللاحقة تطل على المستقبل، ولابدّ لأيّ فكر من مواكبة حركة المجتمع لكي يستمر عطاؤه عن طريق تجديد خلاياه بالهواء النقي الذي يعطي نضارة وإشراقاً لملامح الفكر.

والتاريخ هو المعلّم الأكبر للأجيال، ولابدّ من تكوين مدرسة فكريّة مستمرة في عطائها، ويمكن لمدرسة النهضة أن تحمل عبء العطاء المتجدد إذا أدركت المهمة المنوطة بها، فالتراث الفكري ينمو بالجهد المتواصل لإغنائه، وليست الغاية تكوين وعاظ ومرشدين، وإنّما الغاية تكوين رموز للفكر والثقافة والإصلاح التربوي، لكيّ يُسهموا في النهوض الثقافي والأخلاقيّ لتكوين نماذج للسلوك الاجتماعي تحظى باحترام المجتمع..

ولا يمكن للتربيّة الإسلاميّة أن تكون أداة لتكريس الواقع بكلّ سلبياته، فالواقع السلبي يجب أن يقاوم بالتصحيح الواعي المتفتّح، وليس بالانغلاق والتزمُّت، والتفتّح ليس نقيضاً للدين، والجهل هو النقيض الوحيد للدين، ويجب أن يقاوم الجهل بنور العلم والعقل، والشريعة هي علم، وهي أداة التصحيح في العقائد والسلوكيّات، ولا يمكن للجهل أن يثمر سوى التخلف، والدين هو أداة التحرر من التخلّف إذا أخلص علماء الدين لدينهم وتخلّصوا من سيطرة العوام على أفكارهم..

وفي الباب الأخير تحدثت عن صحبتي للشيخ، ودروس الصحبة، وعن أثر تلك الصحبة في حياتي وفكري، وكلّ ما اكتبه أجد فيه ملامح من تلك الصحبة الأولى، وأستطيع أن أقول أنَّ صحبة الشيخ كانت المصدر الأهم في حياتي، وبخاصة في مجال القيم والاستعدادات، ولا شك أنني رضعت الكثير دون أن أدري، أحياناً يشدّني الشوق إلى ذلك التراث المدفون في كياني، والذي لا أملك القدرة على التحرر منه، لأنه أصبح جزءاً من كياني..

لولا تلك الصحبة ما كنت ما أنا عليه.. بل سأكون شيئاً آخر، وتعرّضت لمؤثرات وأفكار مغايرة، ولكن كان أثر الشيخ هو الأقوى، على الأقل اكتشفت ذلك النبع الصافي لذلك النموذج الروحيّ المشبع بالقيم الإنسانيّة، لم أقرأ عن الشيخ وإنَّما عشت معه، وعايشت، هذا العالم الذي رأيته وترعرعت فيه وتشبعت بقيمه إذ لا يمكن لي بالأحرى أن أنكره أو أتجاهله، قد أقرأ فكر الشيخ بطريقة مغايرة لقراءة غيري، وقد يقرأ سواي ذلك الفكر بطريقة مختلفة، وأنني اكتب عن الشيخ كما قرأته، ويحزنني أن أرى قراءات مختلفة قرأت حياة الشيخ بطريقة حرفيّة، ووقفت عند حدود دلالات الأحرف والألفاظ، فجاءت القراءة ضيّقة الأفق لا تعبّر عن شموليّة الرؤيّة واتساعها…

ليس الشيخ هو ذلك الذي يرفض الجديد من الأفكار والعادات ويتمسّك بالقديم المتوارث، وإنّما كان يرفض السيء المذموم الضار من الجديد كما يرفض ذلك من القديم، ويحضّ على الأخذ بكلّ الأفكار الصالحة والثقافات الإنسانيّة التي تعزّز قيم الفضيلة في المجتمع، وليس هناك جديد وقديم، وإنّما هنالك حسن وقبيح، وهناك نافع وضار، وهناك محمود ومذموم، كان إحساسه بالجمال رائعاً ومتميّزاً، جمال الطبيعة وجمال الاستقامة وجمال النظافة وجمال الكلمة الرقيقة.

وحاولت في هذه الترجمة لشخصيّة الشيخ وأفكاره أن أعرف به، ليس لمن عاصره وعرفه، فهؤلاء يعرفون عنه ما أعرف، وقد يتميّزون بمعرفة شيء لم أعرفه ويخصّهم، وهذا هو الذي شدّهم إليه وجعلهم يختارون صحبته، وإنّما أن أعرف به من لم يعرفوه من معاصريه أو من بعدهم، إما لتصحيح ما عرف عنه بشكلّ خاطىء أو لتأكيد ما عرف به، أو لترجيح رواية أو تصور على أخر، ومع هذا فإنَّ شخصيَّته تبقى قابلة للفهم المتعدّد، فكلّ من عرفه يرى صورة ما عرف، ويقيم الدليل عليها من أقواله وسلوكيّاته، ولا خطورة في تعدّد الأحكام واختلافها فهذا أمر حتمي وظاهرة طبيعيّة، فالإنسان يرى الصورة التي يحبها، وقد يرى الصورة المعاكسة، والحقيقة ليست في هذا أو ذاك، وإنّما في كمال الصورة حيث تكون الملامح أكثر وضوحاً، ولا يمكن إنكار أثر العاطفة الشخصيّة في تلوين الملامح ورسم القسمات، فالمحب يرى صورة المحبوب أكثر جمالاً ممّا عليه، والمبغض الحاسد يرى صورة قاتمة شاحبة، وقد يرى الشحوب في الآخر وهي ليست شحوباً، ولكن العين ترغب أن ترى ما تحب أن تراه، ولم يكن الشيخ هو ما يراه المحبّون فقط، ولم يكن ما يراه المبغضون الحاسدون، وهم كُثر في حياته، وإنّما هو في حقيقته.

وقد حاولت أن ارسم هذه الملامح كما رأيتها، ولا أنكر دور العاطفة في بيان هذه الترجمة، إذ لا يخلو باحث عن عاطفة، هي التي تدفعه لاختيار دراسته، وإبراز الجوانب التي يحبها والتركيز عليها، وإعطائها الأهميّة الكبيرة، ولا أخفي حبي الكبير للشيخ وإعجابي به، لا لصلة القرابة فقط، ولكن لشخصيّته المتميّزة وخصاله الرفيعة، فقد كان بالنسبة لي رمزاً للكمال في خصاله الرفيعة، وكلما تقدّم بي العمر وازدادت معرفتي بالحياة ازداد إعجابي به واكتشفت الجديد من خصوصيّات شخصيَّته، وكلّ فرد يخفي ـ داخله حواراً صادقاً مع ذاته في لحظات تأمله وفي خلواته الهادئة، إنه الحوار الأصدق مع الذات، حيث لا رقابة ولا حساب، والإنسان أعرف الناس بذاته وبمواطن قوته وضعفه، والحوار الداخلي هو أداة المعرفة الحقّة بطبيعة الذات، والذين يخدعون أنفسهم في حوارهم الداخلي هم أسرى أوهام مرضيّة، ويدل ذلك على جهل مخيف، وفي لحظات ذلك الحوار يصارح الإنسان نفسه بعيوبه، كما يصارح نفسه ـ عواطفه وأحكامه، ويكون أكثر إنصافاً وصدقاً، وفي ذلك الحوار تنبني عواطف الحب ومواقف الاحترام، والإنسان محب بطبيعته للكمال والسمو، ويعجب بمن يجد فيه هذه الخصال، كما يندهش بأصحاب الهمم العاليّة والخصال الرفيعة، وكان الشيخ في حواري الداخلي هو الرمز الأكمل للشخصيّة الإنسانيّة في سموِّ رؤيتها وعلوِّ هِمَّتِها وترفعها عن صغائر الأمور.

تلك مقدمة لابدَّ منها بين يدي هذه الترجمة التعريفيّة، أردت بها توثيق بعض الأشياء التي يمكن أن يطالها التحريف أو التشويه، بتأثير المحبّين أو المبغضين، فالمحبون يبالغون في إظهار محبتهم بذكر روايات مبالغ فيها، والمبغضون يبالغون في نسبة روايات خاطئة بغرض الإساءة، ولابدّ من الإنصاف والنزاهة والوقوف عند حدود الواقع، وعدم الخوض في مبالغات لا طائل من ورائها.

فقد كان الشيخ رحمه الله شرعي المنهج ملتزماً في عباراته وأفكاره بما التزم به علماء السلف من أدب العبادة، ولا ينسبون لأنفسهم شيئاً من خوارق العادات ويعتبرون الاستقامة هي الكرامة الأهم الجديرة بالالتزام بها، من حق المحبين فعلاً أن يعبّروا عن محبتهم وتعلقهم بكلّ وسائل التعبير المشروعة والمحمودة.

كان الشيخ يكره التصوير ومنع أصحابه من اقتناء صورته أو حملها معهم أو تعليقها في بيوتهم، لكيلا تكون تلك الصور مطيّة لسلوك مذموم أو لاستخدام خاطىء أو لتكريس عادات منافيّة للعقيدة، وهذه ظاهرة دالة على منهجيّة الشيخ في التربيّة، وليس المراد الصورة وإنّما ما يترتب على استخدامها السيء من آثار ضارة.

أرجو الله تعالى أن يجعل هذه الدراسة نافعة ومفيدة، وأن تحقق الغايّة المرجوَّة منها في التعريف بشخصيّة الشيخ وأفكاره وآثاره، حيث تناولت فيها ما تيسر لي ذكره ممّا بقي عالقاً في ذاكرتي من حياته وأفكاره، وأدرك أنَّ كلّ جهد يظل قاصراً عن بلوغ الكمال، ويتطلع الإنسان إلى الأحسن الأكمل والأشمل، إلا أنه لا خيار في قبول المتيسر ممّا هو ممكن بحسب الطاقة، لعلَّ جهداً آخر يمكن له أن يكون أكثر سعة وشمولاً.

وأقدِّر كلّ التقدير كلّ من كتب من قبل، فله فضل السبق والتشجيع، وأخصُّ بالذكر فضيلة الأخ الشيخ محمّد هشام الألوسي المحب الصادق الذي كرس حياته لخدمة تراث الشيخ رحمه الله وأتمنى أن يتوسع في كتابة أثر الشيخ في العراق، فذلك أثر جدير بالتوثيق والتعريف.

وأدعو الله تعالى أن يجزي الشيخ أجزل الجزاء عن جهاده المبرور وجهده المشكور، فقد أزهرت في الأرض الخصبة غرسات تربيته وأصبحت ثمارها طيبة يانعة، ونأمل أن يستمر عطاء هذه النخبة من أسرة الشيخ الروحية في كلّ مكان تحلُّ فيه، وأن تتكاتف وتتلاقى وتتناصر لإعلاء كلمة الله التي تجري في الوجود كله لعمارة هذه الأرض بالعمل الصالح الذي ينفع الناس وينهض بأمرهم في ظلِّ رسوخ القيم الإنسانيّة التي تجعل الكون كلَّه كأسرة متحابة يسعى أقوياؤها لنصرة ضعفائها لتحقيق الأمن النفسي الذي يوفر شروط السلام بين الشعوب بما تشعر به النفوس من طمأنينة واستقرار..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

   الرباط: فاتح رمضان المبارك/1423 هـ                 محمّد فاروق النبهان

الباب الأول

( الزيارات : 1٬922 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *