مكانة الإنسان والعقل في المناهج الاجتهادية

مكانة الإنسان والعقل في المناهج الاجتهادية

حظي الإنسان في القرآن الكريم بإهتمام متميز، سواء من حيث مكانته الإنسانية أو من حيث حقوقه المادية، وتعتبر لفظة «الخلافة» من أبرز الدلائل علی هذه المكانة، التي تؤهله لخلافة الأرض، والتحكم في أمرها، والنظر في شؤونها، والاستفادة من خيراتها وتطوير وسائل الحياة فيها، قال تعالی: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)(1).

والخلافة تفيد معاني عدة:

أولها : معنى التكريم: والتكريم هو المعنى الواضح من دلالة الآية الكريمة، ويراد بالخليفة المؤتمن علی شؤون الخلق في هذه الأرض، والذي يضمن استمرار الحياة فيها، لكي تظل هذه الأرض عامرة بالحياة.

ثانيها : معنی التكليف: والتكليف واضح في معنی الآية، والإنسان هو المكلف، نظراً لما زوده الله به من إمكانات التعقل والتمييز والفهم، والتكليف يتطلب المسؤولية، والإنسان مسؤول عن كل ما يكلف به، وما يصدر عنه.

و «المكلـّف» في المصطلح الأصولي هو من يتوجه إليه الخطاب، ولابد في التكليف من مشقة، والغاية من التكليف: إصلاح حال الخلق في حياتهم، ومنع التظالم والعدوان، وإقامة أنظمة اجتماعية تضمن كرامة كل إنسان، وحقه في الحياة، ولهذا أرسل الله الرسل (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(2)، ومن هذا المنطق ارتبط التكليف بأهليته، وركن الأهلية العقل، لأنه أداة الفهم وأداة التمييز، ولكي يكون العقل في موطن الحماية والحفظ فقد حرّم الإسلام كل الوسائل التي تمنع العقل من أداء مهتمه في التمييز والفهم والتفكير، تجسيداً لمعنی التكليف، وتأكيداً لثقة الإسلام بالإنسان، وتمكيناً للعقل البشري من أن يباشر مهمته التكليفية باطمئنان، ويرفع التكليف عندما يكون هناك سبب يمنع العقل من أداء مهمته، بسبب صغر أو جنون.

وخاطب الإسلام العقلاء من أهل التكليف بخطاب شرعي، وترك لهم حرية التفسير والتأويل فيما يحتمل ذلك من الألفاظ والدلالات، رحمة بهذه الأمة، وتيسيراً لشؤونها، فما كان قطعي الثبوت والدلالة من النصوص فالحكم فيه واضح ولا يقبل الاجتهاد، وما كان ظني الثبوت أو الدلالة منها فالأمر فيه متروك لأهل العلم والرأي، ممن توفرت فيهم أهلية الترجيح والاجتهاد، وهذا هو الموطن الذي تعددت فيه الآراء، وبرزت فيه مواطن الخلاف، وظهرت فيه مدارس فقهية وتميزت كل مدرسة بمنهجها.

والتكاليف الشرعية عامة وشاملة، لأن الخطاب الشرعي موجه لكل مكلف من غير تمييز لأن الشريعة جاءت لاصلاح شأن العباد، ولا يتحقق هذا الإصلاح إلا عندما يكون الحكم عاماً وشاملاً، فلو وقع استثناء فئة بسبب موقع أو بسبب صفة انعدمت الفائدة منه، ووقع الشك في مدی عدالة الحكم ونزاهته.

والعمومية لا تعني مطلق العموم، وإنما تعني أن من توفرت فيه شروط التكليف فيجب أن يخضع لهذا التكليف، ومن انتفت فيه هذه الشروط سقط عنه التكليف، بحيث تشمل هذه القاعدة جميع العباد.

ومن حكمة الشريعة الإسلامية أنها راعت الاستطاعة البشرية، فلم يأت التكليف بما يخرج عن طاقة الإنسان، لأن تكريم الإنسان يتطلب مراعاة طاقته الإنسانية، فلا يكلف بما لا يطيق، لأن التكليف الخارج عن الاستطاعة لا يؤدي إلی المصلحة الشرعیة المرجوة، المتمثلة في صلاح أمر العباد.

الإنسان في المبادئ الأصولية:

ومن هذا المنطلق أقرت الشرعية مبادئ أصولية تحقق هذه الغاية الإنسانية وتؤكد احترام الشريعة لإنسانية الإنسان، واهم هذه المبادئ ما يلي:

أولاً: ربط المقاصد الشرعية بمصالح العباد، سواء كانت مقاصد ضرورية أو مقاصد حاجية أو مقاصد تحسينية، ومصالح العباد واضحة في كل المقاصد، لأن غاية الشريعة إصلاح شؤون الخلق، ودرء الأخطار والمفاسد التي تهدد حياتهم ومصالحهم وتتجاهل حقوقهم الإنسانية، فالعبادات شرعت لاقامة الدين، والعقوبات شرعت لدرء المفاسد.

ثانياً: رفع المشقة ودفع الحرج عن الناس، وذلك لأن المشقة تتنافی مع التكريم، وتناقض مبدأ احترام الرخصة الشرعية في حالات المشقة كالسفر والمرض، والتمست العذر لهؤلاء في قبول تكليف مخفف، يناسب طاقتهم ولا يشق علیهم بما لا يطيقون.

ثالثاً: النهوض بمستوی سلوك الإنسان، لكي يكون في موطن التميز، سلوكاً وأدباً ونظافة، ولهذا أقرت الشريعة أحكاماً منظمة لعادات الإنسان، تتعلق بنظافته وطهارته وآدابه، لكي يكون في مستوی التكريم.

رابعاً: حرمت الشرعية جميع أنواع السلوكيات المنافية لكرامة الإنسان، كالظلم والعدوان، والتمثيل بالموتی، وقتل الأطفال والنساء في الحروب، وإهدار كرامة الأسری، ودعت إلی احترام الكهول والأطفال.

ومن منطلق احترام الشريعة الإسلامية لحقوق الإنسان صاغ فقهاء الإسلام قواعد شرعية، مستمدة من النصوص الشرعية من قرآن وسنة، ومما أجمع علیه علماء الإسلام، واعتبروا هذه القواعد مما بني علیه الفقه الإسلامي، ومن أهم هذه القواعد ما يلي:

1 – الحرج المرفوع، والحكمة من هذه القاعدة أن التكليف الشرعي غايته الإصلاح، ولا إصلاح مع الحرج والمشقة وتكليف الإنسان بما لا يطيق، وهذا مظهر واضح لاحترام إنسانية الإنسان في مجال التكليف الشرعي.

2 – الضرورات تبيح المحظورات، والحكمة من هذه القاعدة دفع الضرر عن الإنسان، ففي حالة الضرورة يجوز له أن يأكل الميتة إذا خاف علی حياته.. ويجوز له أن يشرب الخمر في حالة العطش.. وأجاز الفقهاء للإنسان أن يدافع عن حياته بكل الوسائل الممكنة.

وأقر الفقه الإسلامي أحكاماً في مجال العبادات والمعاملات لدفع الحرج والمشقة عن الناس، في حالات المرض والسفر والجهل والنسيان والإكراه والصغر والجنون، كما التمسوا العذر للناس فيما عمّت به البلوی من أنواع المعاملات التي تتضمن الغبن اليسير.

مكانة العقل البشري في الإسلام:

ومن أبرز المواقف الإسلامية التي تجلت فيها ثقة الإسلام بالإنسان «الاحتكام إلی العقل البشري» فيما لم يرد به نص من الوقائع والنوازل. مما يدخل في إطار الأحكام الاجتهادية، والاجتهاد هو المصدر العقلي الذي أقرته الشريعة الإسلامية واحتكمت إليه، وإعتبره علماء الأصول من المصادر الأصلية، ووضعوا له قواعده و ضوابطه، لكي يكون أداة لاستكشاف الحكم الشرعي.

ومجال الاجتهاد محدد، فلا يقع الاجتهاد فيما ورد فيه نص، إلاّ إذا كان هذا النص ظني الثبوت أو ظني الدلالة، وفي هذه الحالة يكون مجال الاجتهاد البحث عن مدی قطعية الدليل أو عن مدی قطعية الدلالة.. ومن هذا المنطق عكف علماء الحديث علی وضع علم مصطلح الحديث، لمعرفة مدی صحة الحديث، وفرقوا بين الرواية والدراية، واشترطوا لصحة الرواية الضبط والعدالة، لئلا يقع الخلط بين ما هوصحيح وما هوموضوع، واستطاع علماء الحديث أن يضعوا معايير للرواية الصحيحة وأن يحددوا أنواعها وأن يبحثوا عن شروط قبول الرواية وضوابطها وعلل الحديث وعلم الرجال.

وفي معرض البحث عن قواعد الاستنباط من النصوص النقلية وضع علماء الأصول معايير لغوية وبحثوا في علاقة اللفظ بالمعنى، من حيث المعنى الذي وضع له كالخصوص والعموم، أومن حيث المعنى الذي استعمل فيه كالحقيقة والمجاز والصريح والكناية، أومن حيث خفاء المعنى وظهوره، أومن حيث طرق الوقوف علی مراد المتكلم سواء في دلالة العبارة أو دلالة الإشارة.

ويعتبر« القياس» من أبرز المعايير الاجتهادية التي يعتمد علیها العقل البشري في إلحاق الفروع بالأصول، والقياس هو أداة العقل لتوليد أحكام شرعية في المسائل المستحدثة والنوازل الطارئة، ويعتمد القياس علی «علة» وهي الوصف الذي أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة علیه، ومن اليسير علی العقل البشري أن يكتشف علة الحكم فيما هو منصوص علیه من الأحكام الشرعية المنظمة لمصالح البشر، والمحققة لمقاصد الشريعة، من حيث المصالح والمفاسد، فما كان مصلحة فهو في موطن الإعتبار، وما كان مفسدة فهو في موطن الإلغاء، ويتسع دور العقل البشري في مجال القياس، بحثاً عن علل الأحكام، وبخاصة فيما لم تعرف علته بنص صريح، وتبرز قدرات المجتهدين وبراعتهم في استكشاف العلل المناسبة التي ارتبطت بها الأحكام، وعندما لا يتضح للمجتهد الوصف المناسب لاعتباره علة الحكم يجوز له أن يأخذ بالظن الراجح الذي لا يوجد مساو له ولا أقوی منه.

وهذه المساحة المتروكة للعقل البشري عن طريق الاجتهاد تتيح لفكرنا الفقهي أن ينمو ويتسع، وأن يلبي حاجات إجتماعية، وأن يجسد قدرة فقهاء الإسلام علی تأصيل الأحكام ومواجهة القضايا المستجدة بعقلية قادرة علی الفهم، إغناءً لفكرنا، واستجابة لقضايانا وتأكيداً لاستقلالية هذه الأمة وتمكيناً لها من تكوين فكر متميز تواجه به التحديدات التي تستهدف هويتها وفكرها وثقافتها وكيانها.

والإسلام يضيق بعقلية الجمود والركود، لأن مناهجنا الأصولية فتحت أمامنا أبواب الإضافة، لكي نجسد قدرة فكرنا علی التوسع والامتداد، والاجتهاد أداة التجديد، والتجديد الذي نريده ليس تجديد التغريب وتجديد الهدم، وإنما هو تجديد التأصيل والتصحيح، لكي يكون منهجنا امتداداً لمناهج عصر السلف حيث ازدهرت الحركة الفقهية، وتعددت المناهج الاجتهادية وتكاثرت مدارس التفسير وتنافست في سبيل الدفاع عن حرية الرأي ومنهجية التفسير والتأويل.

ضوابط الاجتهاد:

وأهم هذه الضوابط ما يلي:

أولاً: تشجيع الاجتهاد الجماعي، الذي يبرز علی شكل اجتهادات صادرة من هيئات علمية مختصة، تملك ناصية البحث العميق والفهم السديد.

ثانياً: اخضاع الآراء الاجتهادية لمقاييس علمية، وتشجيع البحوث التي تعلق علی هذه الاجتهادات، سواء كانت مؤيدة أو معارضة، لإثراء الحوار العلمي بما يبديه العلماء من أفكار.

ثالثاً: إعتبار الهيئات الاجتهادية بعيدة عن التأثيرات الخارجية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، لكي يظل الاجتهاد في موطن الثقة والاحترام.

رابعاً: الاهتمام بركن العدالة بمفهومها الأوسع، كشرط أساسي من شروط الثقة بالمجتهد، والإطمئنان إلی رأيه فمن انعدمت الثقة في اجتهاده لانتفاء صفة العدالة فيه فلا يؤخذ برأيه.

خامساً: اعتماد المنهج العلمي في دراسة القضايا الفقهية، التي تحتاج إلی خبرة أهل الاختصاص من أهل العلم والمعرفة، سواء في القضايا الطبية أو في المسائل التجارية والمعاملات المادية.

ولا شك أننا نحتاج في مثل هذه المواقف إلی تجاوز التعصب المذهبي والنظر إلی مختلف الآراء الفقهية بمعيار موضوعي تحكمه الأدلة وتؤكده رغبة في الوصول إلی الرأي الأقرب لمقاصد الشريعة وأهدافها في رعاية مصالح الخلق ودرء المفاسد.

والتعصب ظاهرة سلبية، نشأت في عصر الركود الفقهي، ونمت في ظل نمو صراعات جهوية وقومية وسياسية ومذهبية، وهذه الظاهرة لم تكن مألوفة في عصر السلف، ولم تكن مقبولة، نظرا لما تمثله من خطر علی وحدة المسلمين ولما تجسده من رؤية فكرية ضيقة، وأكد «الإمام الغزالي» في معرض حديثه عن آداب المناظرة أن يكون المناظر طالباً للحق، وطالب الحق ينشد ضالته أينما كانت، واعتبر من آفات المناظرة الإساءة للخصم والاستكبار عن الحق.

ظاهرة التعددية المنهجية

والتعددية المنهجية ظاهرة حية وهي دليل علی قدرة فكرنا علی توليد التصورات الاجتهادية القادرة علی تكوين المدارس الفكرية، التي أسهمت في إغناء ثقافتنا الإسلامية بعطاء أجيال متعاقبة، جمعتهم رغبة أكيدة في خدمة هذا الفكر.

ومن اليسير علینا أن نلاحظ هذه التعددية المنهجية في طريقة التصنيف الأصولي بين طريقتي الشافعية التي اعتمدت علی وضع القواعد أولاً وتطبيق الفروع علیها، والحنفية التي اعتمدت علی الفروع كمنهج للتقعيد والتأصيل، ولابد في كل تعددية من آثار إيجابية تتمثل في توليد المنهجية الوسطية التي تتلافى الأخطاء الممكنة والمحتملة لكل من الطرفين.

والوسطية في جميع الظروف وليدة طرفين متباعدين، وهي نتاج طبيعي لتعددية منهجية في طرق البحث والتأصيل، وإننا نتطلع الآن إلی وسطية عاقلة يحققها الاحتكام إلی النصوص النقلية، وينميها شعور صادق بحاجة هذه الأمة إلی التقارب الفكري والتساكن النفسي في ظل تعددية مذهبية تجسد انتماء كل شعب من شعوبنا إلی محيطه الثقافي والمذهبي والاجتماعي، ولا تنسيه حقيقة انتمائه إلی عقيدة واحدة وثقافة إسلامية متميزة حدد القرآن الكريم والسنة الشريفة معالمها الأساسية.

ولسنا مطالبين اليوم بأن نبحث عن وحدة مذهبية في الأحكام الفرعية، فذلك مما لا يمكن تحقيقه، ولا يترتب علیه أي أثر إيجابي، لأن التعددية مظهر حي ودليل علی حيوية الجهد الذي يبذله العلماء في التوصل إلی المعرفة، ويجب أن ينصب اهتمامنا علی استكشاف أوجه التلاقي بين المذاهب الإسلامية، لتعبيد مسالك التقارب وطرق التعاون، لكي يكون جيلنا محصنا ضد الفتنة ومهيأ لرفض أي شعار يمزق وحدة هذه الأمة، وبهذا المنهج التحصيني نضمن أن تظل شعوبنا متعاونة ومتكاتفة تؤمن بالتساكن والتعايش، وترفع راية الحوار كأدلة حضارية لتضييق دائرة الإختلاف.

وإننا ندعو إلی تطويق كل مظاهر التعصب المذهبي، وإدانة كل شعار يثير الفتنة ويهدد وحدة هذه الأمة، ولا يجوز لنا أن نكون أداة طيـّعة وغافلة لتنفيذ المخطط الذي يريد أن يراهن على الخلافات المذهبية، فأوجه التلاقي أكثر وأعمق، وما يوحدنا أكثر مما يفرقنا، وما يدفعنا إلى التضامن والتكافل والتعاهد أرسخ وأقوى مما يدفعنا إلى التباعد والتنافر، ويجب على علماء هذه الأمة، وهم أهل الحكمة والرأي والاختيار أن يفسدوا مخطط التمزيق والتفريق، وأن يكونوا في مقدمة الموكب الذي يدعو إلى الوحدة، وأن يتصدوا بشجاعة وجرأة لصيحات التطرف وشعارات الانفعال، فالتاريخ سجل خالد، وحكماء الأمة هم الأجدر بأن يملؤوا صفحاته بمواقف جهاد في سبيل تصحيح العلاقات وعقلنة الانفعالات والسيطرة على مسارات أمتنا في رحلتها الشاقة للبحث عن هويتها وذاتيتها والتمسك بعقيدتها وثقافتها..

ولا يجوز أن نسمح للتاريخ بأن يحكم قبضته علی عواطفنا، فتاريخنا هو تاريخ بشري، وبعض صفحاته مشرق والبعض الآخر قاتم، فما كان مشرقاً فيجب أن نعتز به، وأن يكون مصدر إلهام لنا، وما كان قاتماً فيجب أن ندينه وأن نأخذ منه العبرة، لكيلا تتكرر الأخطاء.

ونحن نحتاج إلی تلك الرؤية الموضوعية لتاريخنا، وسوف نجد الكثير من المواقف التي تدفعنا إلی الاعتدال وتشجعنا علی إدانة التطرف المذهبي، وتشجيع كل دعوة الی التقارب و التناصر، وإلی نبذ كل خلاف يؤدي إلی تعميق التعصب وتغذيته.

أهم المبادئ والأسس في الفكر الإسلامي

وهناك مبادئ وأسس يجب أن نعتبرها من الثوابت الراسخة والمفيدة في فكرنا الإسلامي، وأهمها ما يلي:

أولاً: إعتبارالإنسان هوالمحور، الذي حرصت الشريعة علی توفير أسباب الكرامة له، في حقوقه الإنسانية وفي مطالبه الإجتماعية، والإنسان هو المؤتمن علی هذه الأرض، يعمرها بجهده، ويشيد بناءها بعمله، ويسخّر الطبيعة لخدمته.

ثانياً: الثقة بالعقل البشري، كمخاطب مكلف بالفهم والتفسير والتأويل، ولا حدود لثقة الإسلام بقدرات العقل، وضمنت الشريعة للعقول البشرية حقوقها في اختيار وسائلها في المعرفة، والتمست لها العذر فيما تقع فيه من أخطاء في التفسير والفهم والاجتهاد ما دامت ملتزمة بضوابط الفهم وقواعد الاستدلال.

ثالثاً: اعتبار الاجتهاد من الحقوق الإنسانية التي يملكها مَن توفرت فيه شروط الكفاءة والعدالة، ومجالات الاجتهاد واسعة في جميع المسائل الاجتهادية، ولا اجتهاد فيما علم من الدين بالضرورة، أو ما ثبت فيه وجه الحق ثبوتاً قطعياً، لأن الحق لا يتعدد فيها.

رابعاً: الاعتراف بأثر البيئة الزمانية والمكانية في تكوين ظروف نفسية تهيئ المجتهد لاختيار منهجية ملائمة له، ولا ينكر مبدأ تغير الأحكام بتغير الزمان، لأن الأحكام لها غايات وأهداف، وتتمثل في جلب المصالح ودرء المفاسد، فالمصالح مطلوبة والمفاسد مدفوعة، وغاية الحكم الشرعي أن يحقق هذه المقاصد، وتتميز المصادر النقلية بخصوص التفسير والتأويل، وهذه الخصوصية أدت إلی تعدد الآراء والاجتهادات، تيسيراً علی الأمة وإغناء لتراثنا.

وفي الختام أود أن أؤكد علی مكانة الإنسان في فكرنا الإسلامي، وعلی ما يختزنه في كيانه من طاقات وإمكانات، والإنسان هو المحور الذي جاءت الشريعة لتكريمه أولاً، ولتوفير أسباب الحياة له ثانياً، ويجب أن يحظى ذلك الإنسان بمكانته، وأن توجه العناية لاستعادة وتوفير أسباب العيش له لكي يشعر بوجوده الإنساني، ولا كرامة لمستذل أو جائع، ولا يمكن أن يطالب الجائع والمستذل بأي التزام ما لم توفر له أسباب الكرامة.

وشعوبنا الإسلامية تحتاج أولاً إلی كرامة الكفاية وتحتاج ثانياً إلی كرامة العدل، لكي تشعر بوجودها وبإنسانيتها، وعندئذٍ ستكون هذه الشعوب هي السفينة التي ستبحر في أعماق المحيطات صامدة شامخة راسخة الجذور عالية الرايات باحثة عن مجد عريق وتاريخ مجيد.

وعندئذٍ سنفتح سجلا ً جديداً ندوّن فيه صفحات ازدهار وعطاء، مؤكدين بذلك عظمة هذه الأمة ووعيها لحاضرها ومستقبلها وأهليتها لحمل الراية بكفاءة وجدارة.

الهوامش:

ــــــــ

(1) البقرة: 80.

(2) النساء: 165.

 

 

 

( الزيارات : 1٬797 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *