مكونات الفكر ومنطلقات الإصلاح

مكونات الفكر ومنطلقات الإصلاح

بقلم الدكتور محمد فاروق النبهان

 

السؤال الذي كنت أطرحه على نفسي في لحظات التأمل: أين تكمن الحقيقة..؟ ومن يستطيع أن يدعي امتلاك الحقيقة..؟ قد نرضي أنفسنا بإدعاء الفهم والمعرفة , وقد نقنع أنفسنا أننا على حق وصواب , وغيرنا على باطل وهو مخطئ ..

 ما أبسط هذا التصور، هو تصور ساذج، لأن كل إنسان يرى ما أرى، ويقول ما أقول، وأنا في نظر الآخر المخالف مخطئ، لأنه يملك من أدوات الفهم ما املك…

هذا يدفعنا إلى إعادة النظر في المسلمات كلها، لا لرفضها، ولكن لإعادة النظر في موازين الصحة والخطأ، فقد نصل إلى قاعدة أكثر عدلا، وتدخل الجميع تحت مظلة واحدة مريحة…

ليس من حق الإنسان أن يستطيل على غيره، لا في الحقوق، ولا في أن يتعالى عليه في المكانة، ولا أن يدعي امتلاك قدرات خارقة، هذا الافتراض هو بداية الخطأ، وهو مصدر التصادم…

من يؤمن بأنه على حق فمن حقه أن ينظر للآخر المخالف له نظرة فوقية، وان يدافع بسيفه عن الحق الذي يؤمن به ضد الباطل الذي يراه في الآخر…

لو أننا انطلقنا من منطلق النسبية ومن منطلق إنساني لاستطعنا أن نلتمس العذر لكل الآخرين المخالفين لنا في الرأي، ومددنا يدنا إليهم بالمحبة الإنسانية واعترفنا لهم بحقهم في الحياة والكرامة والحرية…إنهم يملكون ما نملك…ويدركون ما ندرك…ويرون الحق فيما هم فيه…

والحرب المشروعة هي الحرب التي يدافع فيها الإنسان عن حقوقه المشروعة، ولا وصاية لبشر على بشر، والناس متكافئون في المكان والمنزلة الإنسانية…

ثقافة العمل الصالح

معيار واحد يبين مكانة الإنسان ويحدد موقعه هو العمل الصالح، الإيمان أولا، والعمل الصالح ثانيا، ولا شيء بعد ذلك…

أقترح لو أننا بدأنا دراستنا للفكر الإنساني من منطلق واحد وقاعدة أساسية هي العمل الصالح…من هنا تكون البداية…

كل ما ينفع الناس فهو صالح، وكل ما يضرهم فهو فاسد…كل الواجبات تدخل ضمن العمل الصالح، وكل المحرمات تدخل ضمن العمل الفاسد…هذا معيار عادل للتفاضل وللتمييز…

وبعد ذلك يترك أمر جدولة السلوكيات بين الصالح والفاسد إلى المجتمع، والمجتمع يعرف جيدا ما يصلحه وما يفسده…وما يراه المجتمع من معايير الصلاح والفساد فهو حق، ولا تجتمع هذه الأمة على ضلال…

ويكفينا أن نلقن أطفالنا في المدارس ثقافة العمل الصالح، وهي اصدق من ثقافة المصطلحات الثابتة، ليست ثقافة السلام هي الأفضل في جميع الأحوال وليست ثقافة الحرب هي الأسوأ في كل المواقف، فثقافة السلام قد تكون فضيلة إذا أريد بها رفض ثقافة العدوان، وقد تكون رذيلة إذا أريد بها الاستسلام وقبول قيم العبودية، وثقافة الحرب قد تكون رذيلة إذا أريد بها العدوان وقد تكون فضيلة إذا أريد بها مواجهة العدوان والتصدي له…

وكنت أضيق بكل فكر يتنكر للإنسان ويقيد حريته المشروعة، ولا حضارة مع تخلف القيم الإنسانية، ولا ثقافة في ظل قيم العبودية وأنظمة الاستبداد، ولا كرامة لشعب لا يدافع عن حقوقه المشروعة، وأنظمة الاستبداد هي المظهر الأبرز لتخلف القيم وانحدار الثقافة…

وثقافة الإسلام تقوم على دعامتيــن :

أولا: الإيمان بالله: وما يتطلبه الإيمان من مواقف وعقائد..

ثانيا: العمل الصالح: وهو العمل الذي يسهم في رقي المجتمع…

وكل ما اجتهد فيه المجتهدون وكتب فيه العلماء والمفكرون يدخل ضمن العمل الصالح، لأنهم أرادوا الخير…وان أرادوا الشر والفساد في أي عمل أو فكر أو سلوك فقد دخلوا ضمن العمل الفاسد الذي يأثم فاعله ويعاقب على فعله…

وكما انه لا حدود للعمل الصالح فانه لا حدود للعمل الفاسد الضار الذي يريد صاحبه الضرر والإفساد، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة…

ولو أننا استخدمنا هذه القاعدة كمعيار لمعرفة الموقف الإسلامي لاستطعنا أن نخرج من دائرة المصطلحات الشائعة، إلى دائرة المقاصد والغايات، وان نبحث عن مآلات الأفعال، وعن البواعث والدوافع…

قد يقال بان معيار العمل الصالح قد يؤدي إلى إباحة وسائل غير مشروعة لتحقيق مصالح مشروعة، وكل إنسان قد يرى المصلحة فيما يفعل، فأنظمة الاستبداد تبرر استبدادها بتحقيق الاستقرار وحماية مصالح اجتماعية، إلا أن من الواضح أن أنظمة الاستبداد تدفعها الرغبة في السيطرة والقهر أكثر مما تدفعها الرغبة في تحقيق الاستقرار…

مكونات الفكر

لكل فكر مصادره المؤثرة في صياغة معالمه، والفكر وليد تلك المؤثرات التربوية والاجتماعية، وسواء أردنا أو لم نرد فنحن أسرى لمصادر فكرنا، ولا نملك فكرا خالصا، لولا تلك المصادر لما كنا كما نحن عليه، وهنا تكون التعددية حتمية لاختلاف المصادر، وتكون النسبية أيضا، فلا يمكننا القول باستقلالية الفكر عن محيطه التربوي والاجتماعي والثقافي، والثوابت هي متغيرات بالنسبة للآخر، والإنسان هو امتداد لمجتمعه، والذين يتمردون على فكر مجتمعهم لا يقدمون فكرا متحررا من القيود وإنما يقدمون فكرا متناقضا يفتقد الانسجام، وهو فكر لا يسهم في بناء فكر مستقل، وإنما يسهم في هدم أركان الاستقرار الاجتماعي، لكي يكون المجتمع في حالة ضياع، ويبحث عن ذاته في صحراء مقفرة…

والرؤية الثقافية حالة شخصية وهي ذات طبيعة نسبية، وترتبط بالمحيط الاجتماعي أكثر من ارتباطها بالحقيقة، ولهذا فمن الصعب معرفة الحق من هذه الرؤية، والحق المطلق لا تدركه العقول إلا إذا تجردت عن مؤثراتها الخارجية، ويلتمس العذر في حالة الخطأ بسبب تلك المؤثرات.

واستطيع أن أحدد مكونات ثقافة الفرد بما يلي:

أولا : ثقافة الطفولة وقيمه

وثقافة الطفولة هي صانعة الفكر للإنسان، وجميع التصورات هي وليدة ثقافة الطفولة، فان ارتقت هذه الثقافة ارتقت معها ثقافة صاحبها وتصوراته، وان انحدرت هذه الثقافة أنجبت فكرا يحمل ملامح هذه الطفولة….

ولا يمكننا تصور فكر ناهض في ظل ثقافة متخلفة، ولا يتصور ازدهار قيم إنسانية في ظل سيطرة قيم هابطة وأنانية، وفي مجتمعات التفاوت والظلم والاستبداد والقهر والأنظمة الديكتاتورية ترتفع رايات فكر الحقد الطبقي والتطرف والعنف والتمرد، وهذا الفكر يولد استعدادا لسلوكيات الجريمة والانحراف…

ثقافة الطفولة هي المنطلق لثقافة المستقبل ولهذا فلا بد من العناية بثقافة المجتمع لكي يتلقى الأطفال قيما أصيلة تؤهلهم لإنتاج قيم التقدم وسلوكيات النهضة،

 في طفولتي الأولى تلقيت ثقافة إسلامية في مجال القيم والأفكار والسلوكيات، قد تكون اقرب إلى الثقافة التقليدية السائدة في المجتمعات الإسلامية، وهي ليست ثقافة فكر وإنما هي ثقافة سلوك وقيم، وتغلب عليها النزعة الصوفية كما هي في مفاهيمها الاجتماعية..

كانت هذه الثقافة هي ثقافة التكوين الأول، لم أضق بها فيما بعد، واكتشفت بعد ذلك جوانبها الايجابية، وأخذت اشتاق إلى الدفء الذي كان يغمرني في مجالسها الروحية، ففي الفترة الأولى زهدت في هذه الثقافة وأردت تجاوزها إلى ثقافة الفكر، وخضت في بحارها العميقة باحثا عن الحقيقة، وبعد أن أمضيت الكثير من حياتي في هذه البحار المضطربة بالأمواج الصاخبة اكتشفت هشاشة هذا البناء الفكري وضعف أركانه، كان صرحا بلا جذور، وكان يحتاج إلى أسس راسخة من الالتزام الأخلاقي والإخلاص والورع والتقى…

ما اشد حزني وأنا اشعر بخيبة الأمل كلما اكتشفت الجديد من هشاشة بنائنا الفكري، ما نفعله هو اقل من أن ينهض بنا، انه لا يقوى على دفع العربة إلى الأمام…

ثانيا: قراءة جديدة للتراث

حاولت أن اقرأ كتب التراث بعناية، ووجدت نفسي أمام جهد بشري يستحق التقدير، وهو رؤية أجيال سابقة لقضايا عصرهم، وهناك قراءة واحدة للنصوص، وهي قراءة منقوصة، هي قراءة تحتاج إلى قراءة، والقراءة الجديدة لا تعني أن نلتزم بمنهج القراءة السابقة، قد نكتشف الجديد فيما نقرأ، ولابد من الجديد، لا لأجل الجديد، ولكن لأجل الحقيقة…

رأيت مفاهيم تراثية مغايرة لمقاصدها المرادة بالنص الأصلي، فالنص له دلالة، والمستنبط من النص مغاير لتلك الدلالة، ولابد من العودة إلى النص من جديد لاستنباط الدلالة الأقرب لروحية النص ولمقاصده المرجوة…

والنصوص واضحة الدلالة على ما يراد تحقيقه، وهو تكوين الإنسان وتوجيهه إلى الطريق الذي يقوده إلى معرفة ذاته ومكانته في الكون، والغاية المرجوة من خلقه، وما يراد له أن يكون فيه…

رأيت النص كما هو، وهو خطاب، ولكنني لم أجد المخاطب بذلك النص وهو الإنسان، رأيته غائبا تماما عن قراءة ذلك الخطاب، وليس المراد هو مجرد القراءة العابرة، وإنما المراد القراءة المجردة من التصورات السابقة وفي إطار القراءة الشمولية والنظرة الكلية، ولا يمكن أن يفهم الخطاب بعيدا عن النصوص الأخرى الموضحة لمقاصده والمبينة لما يراد به من أهداف هي المرادة.

ما كنت ادرسه في المدارس والجامعات وما كنت أراه في كتب التراث من موضوعات كنت اسأل نفسي عن مدى فائدتها..ولا أجد الجواب….

مازلت اذكر ما كنت درسته في الطفولة أو في مراحل الدراسة فيما بعد، ولم أكن أجد جوابا مقنعا حول جدوى ما كنا ندرسه أو نهتم به، ولم أكن مقتنعا بمدى الفائدة المرجوة منه…

عندما كنت اقرأ النصوص القرآنية كنت أجد فيها رؤية واسعة ونظرة شمولية واسعة الأفق، ولم أكن أجد ذلك في الكتب المفسرة للنصوص، بل كنت أجد تضييقا للنص وابتعادا عن مقاصده ومراميه…

ومن هنا كانت قناعتي أن من الواجب أن نعيد قراءة النصوص في ضوء مقاصدها وأهدافها الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، وبما يحقق المصالح المرجوة منه…

والقراءة الشمولية وكأن النص يتنزل من جديد ليحقق غايات مرجوة في الإصلاح الاجتماعي هو ما يجب أن يكون، وهذا هو الحد الأدنى الذي يحرك هذه البحيرة الراكدة ويبعث في مياهها الحياة…

وأؤكد من جديد انه لابد من التجديد في كل شيء، في مناهج التفكير، وفي آليات التفسير، وفي عقليات المفكرين، وفي موقفنا من التراث، وفي تعاملنا معه، ولا ينبغي لنا أبدا أن نخاف من دعوى التجديد، فهي خطوة حتمية، لأجل حياة هذا الفكر، ولكي يكون أداة للنهضة والتقدم…

ولابد إلا أن نفتح النوافذ المغلقة لكي تدخل الشمس إلى كل أرجاء البيت، عندئذ سوف يتجدد الهواء، ويدخل النور، ويسعد أهل البيت بما يرونه في ملامحهم من نضارة اللون واشراقة الحياة…

قضايانا اليوم ليست هي قضايا الأمس، ويجب أن نعيش عصرنا بكل مشكلاته، ولكي نحافظ على قدسية الثوابت واستمرارها فيجب أن نوسع من دائرة المتغيرات المرتبطة بالمصالح الاجتماعية، وبالأخص ما يتعلق منها بحقوق الإنسان وحرياته…

والمصالح الاجتماعية هي المصدر الأهم للفكر الإسلامي، لأن النصوص القرآنية أكدت على أهمية رعاية المصالح ودرء المفاسد، ولا يمكن تصور حكم شرعي خارج نطاق أهدافه الاجتماعية، المتمثلة في احترام مبادئ العدالة والحرية والكرامة الإنسانية…

ثالثا: الرؤية العقلية

يعتبر العقل الأداة الطبيعية للمعرفة العقلية، من خلال معاييره وادراكاته للعلاقة بين الأشياء، وهو محتكم إليه في كل الأمور المرتبطة بالحياة الإنسانية، والتكليف مرتبط به، ولا تكليف خارج نطاق العقل، والمعرفة غير العقلية غير منضبطة ولا يحتكم إليها، وهي ليست معرفة وإنما هي مجرد أحاسيس ومشاعر قد تؤثر على السلوك، ولكنها خارجة عن نطاق المعرفة العقلية…

كنت أؤمن بالعقل، وبصدقية مدركاته، ولا خيار إلا أن نصدق العقول فيما ترتضيه ونختاره، وهذا لا يعني أن العقول تدرك الحقيقة المطلقة فهذا مما لا سبيل إليه، لان الحقيقة المطلقة لا تدرك بالمعايير المرتبطة بالحواس، وإنما تدرك بالفطرة الإنسانية…

وكثيرا ما كنت أقف حائرا مترددا بين الاحتكام إلى العقل والثقة به وبين الاحتكام إلى القوى الأخرى الكامنة في الإنسان، قد نسميها أحيانا القلب أو الفطرة، وآثار العقل مدركة ومعاييره واضحة، بخلاف معايير القلب فهي غير مدركة أو منضبطة، وكنت احتكم إليها أحيانا واجد بعض آثارها ولكنني لم استطع قط معرفة أسرارها، هل هي أدوات للمعرفة الحقة…

مما يجعلني ابحث عن المعرفة خارج نطاق العقل أن العقول تقف عاجزة عن تفسير بعض الظواهر الإنسانية، وهذا أمر يدعو للحيرة، وأحيانا أجد نفسي غارقا في التأملات ولا أجد تفسيرا لكثير من المواقف..

وهذا التدافع في داخلي اوجد حوارا في ذاتي حول مفهوم الحقيقة المطلقة، فالإيمان لا يجد غذاءه في ظل المعايير العقلية، ولا يتحقق اليقين إلا في ظل إيمان تغذيه عقيدة راسخة وتنميه فطرة صافية نقية…

لم أجد اليقين في إيمان العقلاء، ولكنني وجدت اليقين في إيمان أهل القلوب ممن صفت سرائرهم وارتقت هممهم، رأيت هؤلاء أكثر سعادة وطمأنينة، رأيت في إيمانهم اليقين…

اضطربت الموازين التي كنت أثق بها، ووجدت نفسي أمام تساؤلات ملحة، ابحث عن اليقين، وهو المعيار الأهم لمعرفة الحقيقة…

اهتزت ثقتي بالعقل بعد أن كنت أثق بقدرته على الإحاطة بكل شيء، في العقائد والأحكام والأفكار، ثم اكتشفت قصور العقل عن الإحاطة، ووجدت رموز العقل حائرين مترددين خائفين، ولا يختلفون عن غيرهم في المواقف والأفكار، ومازلت في مسيرتي ابحث عن الحقيقة كما أتصورها، من خلال آثارها في السلوك الإنساني….

وبالرغم من كل هذه التدافعات الداخلية فلا خيار لنا إلا أن نحتكم إلى الرؤية العقلية، وان نثق بما تراه وتقودنا إليه، وهذا هو قدر الإنسان المكلف أن يحتكم إلى المدركات الحسية، وليس مطالبا بان يخوض في بحار متسعة الآفاق، فما يمكن أن يراه هو مقدار ما هو مسؤول عليه، وهذا يكفيه…فهو جزء من الكون، ولا سلطة على هذا الكون…

مؤثرات ثقافية

لا استطيع أن أنكر اثر الأحداث التي عشتها في فكري وثقافتي، لقد كنت شاهدا على عصري، وكنت متأثرا بما يجري من حولي، وهذا أمر ايجابي، فالتفاعل بين الإنسان وعصره أمر ضروري، وتأثر الإنسان بمحيطه الاجتماعي ظاهرة ايجابية، إذ لا يمكن للفكر أن ينعزل عن محيطه، وإلا لم يكن نافعا، فالفكر لأجل الإنسان ولخدمة الإنسان …

أحداث عصري كانت مؤثرة وفاعلة، سواء في فكري أو في عواطفي أو في مواقفي، وكنت وأنا اكتب انظر إلى ما يجري من حولي، مازلت اذكر عشرات المواقف التي عشتها، منذ طفولتي الأولى إلى الآن…

ليس المهم أن نحكم على هذه الأحداث بالإدانة، هي جزء من واقعنا، ولا خيار لنا إلا أن نتعامل مع هذا الواقع كما هو، وان نحاول أن نطور وسائل الإصلاح وان ننتقل إلى الأفضل…

خلال خمسين سنة لم ننتقل إلى الأفضل، بل إلى الأسوأ، لم تكن الأحداث مؤثرة بحجم ما هي عليه اليوم، كانت الآمال اكبر، وكان الغد أجمل، وكنا نحلم بالأفضل، ونتوقع التغيير إلى الأحسن، لم يحصل ذلك، وحدث التغيير إلى الأسوأ وزادت مظاهر الإحباط، لم نعد نحلم بالأفضل، بل نتوقع الأسوء…

عندما وقعت نكسة فلسطين الأولى وأقيمت دولة إسرائيل كان هذا هو الحدث الأكبر، كان هذا هو الانفجار الداخلي الذي أيقظ الجميع، وتطلعنا إلى التغيير، وكان الجديد كوارث متلاحقة…كانت نكسات متلاحقة، وكان المواطن الأعزل هو الخاسر الأكبر… 

أتذكر ما كنت عليه قبل خمسين عاما، كان الحلم جميلا وكنا نرى أننا قاب قوسين من الفجر، وانتظرنا النهار ورأينا في ضوء الشمس ما كنا نجهله في الظلام…

لم يعد العدو يتربص بنا خلف الحدود، اختلطت الأوراق واكتشفنا أن التخلف هو العدو الأول، والمواطن هو المستهدف، والوطن هو مطية الأنظمة الاستبدادية، وثروات هذه الأمة تستنزف وتسرق وتحرق…

ومن المؤلم والمحزن أن المواطن لا يستطيع أن يعلن عن ألمه وحزنه ولو بالكلمة أو الشكوى أو الأنين، لأنه يخاف من السجون المظلمة ومن سوء العذاب، وعليه أن يخرج إلى الشوارع مصفقا لرموز الفساد ومؤيدا مواقفهم، هذه مهمة المواطن الوطنية، وهذه هي مشاركته في بناء الوطن، ولا شيء غير ذلك، لأنه غير مؤتمن على مقدساته، وهو غير مؤهل لإبداء رأيه…

كانت معارك الاستقلال هي البدايات الجيدة والموفقة، وحققت أغراضها، ونجحت امتنا في كسب هذه المعارك، وفشلت في كسب معارك البناء، وهي الأصعب والأشق…

في حرب السويس الأولى بعد تأمين القناة كانت الآمال مشرقة، وكان الانتصار حتميا، وتحققت الوحدة بين مصر وسوريا وكادت الوحدة أن تحقق أولى نتائجها في التحرير والبناء، ولكن الأمل تراجع وانطفأت شعلته، لم تكن الوحدة خطوة جادة، كانت مجرد عاطفة جياشة في لحظة ما أنجبت وليدا ناقص التكوين، وسرعان ما فارق الحياة، كان يجب أن تكون الوحدة مبنية على أسس راسخة ووضوح كامل وقناعة بسلامة القرارات…وفشلت الوحدة، وغاب الأمل…

كان المواطن مغيبا ومستذلا وخائفا ومتهما، وكان يخفي خوفه الداخلي بمواقف مخجلة من الانبطاح والاستسلام والتملق للأنظمة السياسية ولرموز الاستبداد والقهر، ولم تكن هناك ديمقراطية ولم يكن هناك مواطن، كانت هناك سلطة حاكمة مستبدة، وشرعية وجودها هي القوة القاهرة…ولا وجود لإرادة شعبية..

هذا أمر لا يمكن أن يستمر لمدة طويلة، لابد من أن يستيقظ النائم يوما وسوف يكتشف الحقيقة، لقد سلبت خزائنه التي ورثها عن آبائه وضاعت مقتنياته، وأعطي أدوية مخدرة لكي يظل نائما لا يدري ما يجري حوله، لقد فقد إرادته واختلطت الأمور عليه…

لابد من الإصلاح قبل أن يغرق المركب في ذلك البحر المضطرب، ولكن كيف يمكن للإصلاح أن يتحقق ومازال المواطن مكبلا بالأغلال، وأنظمة الوصاية تحكم قبضتها بقوة على الأعناق محذرة ومخوفة….

( الزيارات : 1٬716 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *