موقف السيد النبهان من الطرق الصوفية

موقفه من الطرق الصوفية

 

 

نشأ الشيخ في ظل تربية صوفية، وتربى في أحضان الطريقة النقشبندية، ولازم شيخها والتزم بأورادها وآدابها، وأخذ نفسه بكل رياضاتها ومجاهداتها، وكانت له أحوال خاصة، واشتهر بعلو الهمة والإقبال على الله بصدق.

لم أعش تجربته تلك ولم أشهدها…. ولكنني سمعته يتحدث عنها فيما بعد، كانت غايته أن يسقط مراده بمراد الله تعالى، وأن يلغي ذاته، أحب الله بكليته وبكل همته، لا لأجل الثواب ولا لأجل الخوف من العقاب، وإنما أحب الله لأجل القرب منه…

والصوفية في نظره صفاء في القلب ونقاء في النفس وطهارة ظاهره وباطنه، وخلق محمود وشعور بالافتقار إلى الله وإيثاره على كل ما عداه، ونصح صادق، وابتعاد عن الآثام وإقبال بالقلب على الله والتزام بأوامر الشريعة، وسمو في السلوك، وعدم انشغال القلب بالدنيا وترفع عن الصغائر، وارتقاء بمستوى الهمة إلى أعلى درجات السمو الخلقي وتحكم بالغرائز الفطرية.

ولا يمكن للصوفية أن تكون صوفية المظاهر وصوفية الملبس وصوفية الكسل والإحباط والحاجة إلى الناس، فالخشونة ليست من صفات الصوفي، صوفية السلوك هي الارتقاء بمستوى السلوك إلى الأكمل وصوفية الباطن هي نقاء الباطن من الخواطر المذمومة كالحقد والطمع والعجب والكبر والرياء والحسد واستبدال ذلك بالخواطر المحمودة التي تؤدي إلى الحمد والشكر والتواضع والزهد والنزاهة والعفة والترفع والإيثار ومحبة الله والتعلق بالمكارم.

كان الشيخ يتحدث عن الصوفية في حقيقتها لا كما أصبحت عليه، ولا كما اشتهرت به، تلك صوفية محببة إلى النفوس لصفائها وعلو همة القائمين بها، وما عداها فليست صوفية، وإنما هي طقوس وعادات وتقاليد ومجالس غفلة ولهو ومتعة وتلذذ بالطعام والسماع وغرور وكبر وعجب وتفاخر وتحاسد.

مفهوم الصوفي:

والصوفي هو تنقية دائمة لظاهره ولباطنه، وتصفية لخواطره وسلوكياته، يحاسب نفسه على كل سلوك ذميم ويراقب الله في سره وعلانيته، يفعل الخير لأنه خير، لا لدنيا يصيبها، ويبتعد عن الذنوب والآثام لمخالفتها للكمال، لا يتحدث عن الكرامات وخوارق العادات ولا يفاخر بها، ولا يجد كرامته في غير استقامته، افتقاره الدائم لربه ولا افتقار لغيره، يؤثر الله على كل شيء، ويتواضع للضعفاء، ولا يغتر بطاعته ولا تحجبه عبادته عن ربه، يفر من دنياه إلى ربه ويجد أنسه في مجالس ذكره لله تعالى.

هذه هي صوفية الشيخ ولا صوفية غيرها، وهذه هي طريقته ولا طريقة غيرها، كان يردد في مجالسه: طريقتنا محمدية، منهجها هو اتباع سلوكية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يمثل أعلى درجات الكمال وحسن الخلق، والمجاهدات النفسية غايتها تزكية النفوس للتحقق بالسلوكية المحمدية التي تمثل الهدف والغاية {{ع94س86ش4ن1/س86ش4ن44} والصوفية خلق محمود فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف.

قال تعالى: {{ع94س3ش13ن1/س3ش13ن88} [آل عمران: 31].

أهم صفـات تربيـة الصـوفي:

وأهم صفة في تربية الصوفي هو التواضع والمراد بالتواضع هو الخضوع للحق والانقياد له وخفض الجناح للضعفاء والمحتاجين ومعرفة عيوب النفس، والتواضع ليس هو الضعة، فالصوفي عظيم التواضع ولكنه رافع الرأس يستمد عزته من الله العزيز. ومن صفات الصوفي حسن الظن بالله والمسارعة إلى الطاعات وإلى الخيرات والانصراف إلى الله تعالى بكل هيبة والإقبال عليه بقلب متجه إليه وعدم انشغال القلب بما يعكر صفاء القلوب من أكدار الدنيا ومتعلقاتها من مال ومتعة وجاه والمداومة على تزكية النفوس مما علق بها من الصفات المذمومة.

لم يكن للشيخ أوراد خاصة يلتزم بها أو يأمر اتباعه باتباعها ولم يدع إلى عزلة أو خلوة ولم يكن ذلك من منهجه التربوي، وكان يضيق بما يلزم الصوفية أتباعهم به من طقوس ثابتة وبما كان يظهر على بعض اتباعه من أحوال تخرجهم عن جادة الالتزام بالسلوك الأكمل وكان لا يحب شطحات الصوفية المتكلفة في الأقوال والأفعال ويعتبر ذلك من النقص والضعف والأقوياء لا يضعفون بتأثير الأحوال ولا ينساقون وراء الشطحات المخالفة لمنهج الاستقامة وإذا وجد أحداً من أتباعه يستسلم لحال يخرجه من الاستقامة بين له أن الشريعة تمثل الكمال ولا كمال خارج نطاق الشريعة وينقد من كان يتكلف تلك الأحوال بمواجيد غير صادقة ويقول ويؤكد أن أهل الكمال لا يبحثون عن الكرامات، ولا يحبون أن تنسب إليهم خوارق العادات، فتلك الخوارق لا تظهر من المربين الكاملين، فالمربي الكامل يظهر بكل خصائص بشريته ولا يريد أن تظهر خصوصيته لمخالفة ذلك للتربية المحمدية التي تقوم على أساس الشريعة.

ولم تكن تشغله الطريقة وأورادها وطقوسها وتقاليدها، ذلك أمر كان يعرض عنه فلا يتحدث عنه في مجالسه، ويدع أهل الطرق فيما هم فيه، خائضون ومنشغلون لا ينتقدهم ولا يثني عليهم، ذلك طريقهم الذي اختاروه لأنفسهم، وهذا هو طريقنا الذي اخترناه، بيان ومعرفة وتربية وتزكية ولا يجوز أن تشغلنا الشكليات عن الغايات، ولا الأوراد عن أهدافها المرادة بها ولا الأذكار عن معرفة المراد بالذكر وهو معرفة الله والتقرب منه واستشعار عظمته في القلب وإشراق نور اليقين فيه.

لم ينقد الشيخ الطرق الصوفية وإنما كان ينقد ما فيها من تجاوزات وانحرافات وادعاءات، ومخالفات للشريعة، وهذه أمور تتفاوت بين طريقة وأخرى ويختلف الحكم على هذه الطرق بحسب التزامها بضوابط الشريعة وتعاليمها، كانت معظم الطرق غافلة عن أهدافها الروحية وكان هذا يؤلمه ويحزنه لأن النقد يوجه من خلال تلك الانحرافات إلى الطرق كلها وإلى الفكر الصوفي بمجمله، والفكر الصوفي الأصيل لا يمكن أن ينقد لسلامة منطلقاته فهو فكر يهتم بتزكية النفوس وإحياء القلوب، وهذا منهج إسلامي أصيل ولا حدود للانحراف في الطرق الصوفية فقد يبدأ الانحراف بخطوة صغيرة يحسبها الإنسان لا قيمة لها وبخاصة في مجال العقيدة والسلوك ثم تكبر هذه الخطوة وتتسع وتبتعد عن المعايير الشرعية إلى أن يصبح الطريق مليئاً بالانزلاقات الخطيرة التي تزيل الملامح المضيئة من هذا الفكر وتطفىء مشاعله وتكدر صفاء غاياته وتصبح المجاهدات طقوساً ضارة بصحة النفوس والطبائع وتنقلب المفاهيم الرائعة إلى مصطلحات جامدة تتردد ألفاظها بغباء وجهل، وتصبح مجالس الذكر منتديات للطرب والسماع والمتعة وتمنح لمشايخ الطرق قداسة دينية وعصمة مذمومة، وتسيطر سلوكيات الغرور على العباد والزهاد فيتطاولون على الضعفاء بالإذلال والقهر وتسود أخلاق الحسد والتنافس والعجب والتنابذ في مجالس الذكر، كل ذلك قد يقود إلى نهايات خاطئة وانتكاسات لقيم تربوية عالية.

لم تكن تزكية النفوس بإخماد غرائزها الفطرية إذلالاً للسالكين، ولا يمكن للتواضع أن يعبر عن ضعة النفوس، ولا يمكن للإيثار أن يكون مطية لتحقيق المطامع، ولا يجوز لسلوكيات الأحوال الشخصية أن تكون دالة على تميز في المقامات وسمو في الأحوال ولا يمكن إطلاق مصطلحات الواردات المحمودة على الخوطر الشيطانية الضارة المعبرة عن غفلة القلوب، فالصوفية شجرة طيبة في أرض خصبة تسقى بماء عذب من التربية الصادقة لكي تثمر تلك الشجرة ثمرات طيبة من السمو الخلقي والالتزام بالآداب الإسلامية.

كانت صوفية الشيخ مختلفة كل الاختلاف عن صوفية الطرق السائدة لعلها دعوة إلى التجديد الصوفي، تجديد الهياكل المتآكلة بتأثير مخلفات قرون الجمود والسكون والإحباط، وهي دعوة إلى رفع الركام عن حقيقة الصوفية لكي يعود بريقها كما كان لامعاً ومضيئاً ومعبراً عن حقيقة التصوف، إنها دعوة إلى إلغاء تلك الطقوس التي ليس لها مرجعية شرعية ثابتة من قرآن أو سنة، إنها دعوة صادقة للتصحيح، لإيقاظ الفكر الصوفي بعد ذلك الليل الطويل التي كانت أشباح الجهل والأمية والتخلف تعبث به إلى أن أصبح شاحب اللون قاتم الملامح تعلوه تغضنات الشيخوخة اليائسة.

قدم الشيخ صورة مضيئة للتصوف الإسلامي تحمل ملامح التصوف الشرعي الأصيل الذي يهدف إلى تخليق الظاهر بتزكية النفوس وتخليق الباطن بإحياء قيم الفطرة الأصيلة التي خلقها الله نقية صافية محبة للخير نافرة من الشر والقبح والانحراف، ذلك التصوف ليس فيه بدعة مذمومة وليس فيه طقوساً غير محمودة، إنه منهج تربوي أصيل يوقظ القيم الروحية ويغذيها ويعلي من شأن الفضائل في السلوك ويلاحق الشر من جذوره ومحابسه الدفينة في أعماق الذات، لكي يقضي عليه بالمجاهدات النفسية المحمودة التي تهدف إلى تزكية النفوس والنهوض بالسلوك إلى حيث الأكمل والأجمل والأصدق.

لم يتحدث الشيخ يوماً عن التجديد أو التصحيح وإنما كان من خلال منهجه التربوي والسلوكي يمارس منهج التصحيح في الفكر الصوفي بتجاوز سلبياته والتركيز على ثوابته وأهدافه ذلك منهج في التصحيح سليم وعظيم لأنه ينشىء قيما جديدة وثقافة صوفية راقية ونقية وصافية ترتدي الثوب الأبيض النظيف الذي لم تلوثه تقاليد المجتمعات التي غفلت عن حقيقة الإسلام بسبب ما يسيطر عليها من ظلام الأمية والتخلف.

( الزيارات : 1٬826 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *