التعصب المذهبى

ذاكرة الايام..التعصب المذهبى

 

مما كان يثير انتباهي  هو ذلك التباعد النفسي بين اتباع المذاهب الفقهية , وذلك بتاثير التعصب والجهل معا , ولكل مذهب اتباعه من الفقهاء ومن المقلدين , كل فريق ينتصر للمذهب الذى توارث عن اسرته اتباعه , وقد لا يعرف عنه اي شيء من خصوصيات المذهب واصوله , كل مذهب يرى اتباعه ان المذهب الذى يقلده هو الدين وهو الشرع وهو الحق , وان المذهب الثانى هو الاخر البعيد , ما زلت اذكر فى طفولتى كيف كان الطلاب ينقسمون فى درس الفقه الى فريقين , وكان اتباع المذهب الشافعي يرون فى المذهب الحنفي  التفريط والتبرير , وقلة من الشافعية كانوا يقلدون الحنفية فى رأي من الاراء وكانه كان يرتكب منكرا , كان الشافعي عندما تلمسه  زوجته   ولو لمسة خفيفة  بالخطا يغضب منها ويعاتبها لان لمس الزوجة ينقض الوضوء وعليه ان يتوضأ , ومن قل ورعه كان يقلد الحنفية ويصلى , ما زلت اذكر كيف كنا ننظر لزملائنا وهم يدرسون فى قاعة اخرى وفى كتاب اخر ,  وهم ككل اخر  , كان العوام يرون فى الفقه الحنفى انه فقه الدولة لان المفتى والقاضى يجب ان يكون حنفي المذهب , لم نكن فى بلاد الشام نعرف الكثير عن الفقه المالكي الذى اختص المغاربة به , اما المذهب الحنبلى فكان يوصف الرجل المتعصب فى ارائه وافكاره بالصفة الحنبلية , ويقال هذا حنبلى , كنت اتساءل عن سر هذا التعصب والتباعد , والفقه واحد وان تعددت مناهج الفقهاء , ليس هناك فقه هو اقرب الى الحق والكل باحث عن الحق ومؤتمن على ما يراه هو الحق , تعدد المناهج الاجتهادية امر طبيعى وحتمي , وهو دليل ثراء وغنى , هناك مدرستان فقهيتان الاولى اعتمدت على الرواية وعمل اهل المدينة , وهي مدرسة الامام مالك   , واعتمدت هذه المدرسة على كتاب الموطأ وهو اول تدوين للفقه وأول مدونة فى الحديث , وسميت بمدرسة الحديث , وهناك مدرسة اخرى ظهرت فى العراق ,  سميت بمدرسة الراى , وتوسعت فى الاقيسة الاصولية والحاق الفروع بالاصول عن طريق القياس والرأي , وهي مدرسة حوارية واقعية تبحث عن المقاصد ,  وضمت اهم اعلام الفقه فى العراق الذين كانوا يحضرون مجالس ابى حنبفة , وهم ابويوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى , واعتمدت على منهج عبد الله بن مسعود وفقهه ومروياته , وكانت الرواية فى العراق قليلة وكثر فيها الوضع فى الحديث لاسباب كثيرة اهمها هو ذلك الانقسام السياسي والصراعات واستحدام الرواية كمطية لتبرير المواقف والاحكام , كانت مدرسة الرأي متأثرة بعصرها ومجتمعها,  وكان المجتمع يواجه مشاكل مستجدة وتحتاج الى التوسع فى استحداث الاحكام بما يحقق المقاصد ويراعي المصالح , وكاد الامر ان ينفلت فى ظل نمو الحركة الاجتهادية والتوسع فى الاحكام عن طريق القياس  , ولما امتحن الشافعي واتهم بموالاة اهل البيت نقل الى العراق متهما وكان من  تلاميذ الامام مالك ومتأثرا بمنهجه الفقهي , وفى العراق التقى باتباع ابى حنيفه واهمهم محمد بن الحسن الشيبانى وسمع منه منهج علماء الرأي , وكان منهج الاجتهاد الفقهي خاليا من القواعد الاصولية الضابطة لمنهجية الاستدلال الصحيح , وقام الشافعى باهم عمل علمي احدث به قفزة ابداعية محكمة وموفقه فى مجال الدراسات الفقهية , لقد وضع كتابا هو الاول من نوعه لضبط منهج الاستنباط الصحيح , وهذا الكتاب هو الرسالة الذى يعتبر الكتاب المؤسس لعلم اصول الفقه , وجعل الاصول هي المنطلق لاستحداث الفروع الفقهية , ومن لم يلتزم بالاصول الضابطة فلا يمكن الثقة باجتهاداته لكيلا يقع التناقض فيها , وقد انفرد الشافعي باراء ومفاهيم واجتهادات بناء على اصوله , ولا ينسب الفقه الشافعى الى اي من المدرستين السابقتين , لقد اعتمد على الرواية وهي الحديث ,  واكد ان الحديث هو بيان لما فى القرأن ولا يمكن الاستغناء عنه , وان ما انفردت به السنة فلا بد الا ان يعتمد على اصل فى القران مما يؤكد بيانية السنة وفى نفس الوقت توسع فى الرأي  ,هذه المذاهب الثلاثة جاءت متتابعة فى فترة زمنية لا تتجاوز خمسين عاما فى النصف الثانى من القرن الثانى , هذه المذاهب الثلاثة هي المؤسسة لعلم الفقه , وبعد ذلك بدا عصر التدوين الفقهي الذى ازدهر خلال القرون التالية  وطهرت المذهبية وتوسعت واصبح اتباع كل مذهب يتخصصون فى دراسة فقه المذهب الذى تفرغوا للتخصص فيه , ثلاثة امور ازدهار التدوين الفقهي وظهور الموسوعات الفقهية وانتشار  المذهبية الفقهية , وكان هنا ك علماء كبار وائمة لا يقلون مكانة عن هؤلاء الائمة الا ان فقههم لم يوجه اليه الاهتمام ولم يتفرغ تلامذة هؤلاء لخدمته وجمعه وتاصيله, الفقه الاسلامى ما كان وما يمكنه ان يكون ومسيرة الفقه لا يمكنها ان تتوقف , وهي مواكبة لعصرها , متجددة بجهد علماء كل عصر وبجهد القضاء الذي يمد الفقه باحكام جديدة ومستمدة من الواقع , عندما ينفصل الفقه عن قضايا مجتمعه ينعزل ويتوقف , ويصبح تراثا , ولكل عصر قضاياه التى تعبر عن حاجاته , مالا يتجدد يشيخ وينقرض , الفقه جهد عقلى  وهو ثمرة جهد العقول فى البحث عن العدالة فى الاحكام والنظم الاجتماعية , التقليد ظاهرة سلبية وهي منافية للتكليف , لا احد يجتهد فيما لا علم له به , الاجتهاد لاهل الاختصاص , ولا يعتد برأي من ليس من اهل الاختصاص , النص واحد ويتجدد بقوة التفسير وسداد التاويل لكي تتحقق المقاصد وتحترم المصالح , التقوى والورع لا يكفيان لحسن الفهم , التقوى مطلوبة فى كل شيء ولا تغنى عن جودة العلم وسداد الفهم , وماليس من اهل الاختصاص فلا يستشار في غير ما يعلم , احكام العبادات مصدرها النص والسنة ولا تجاوز لهما بما يخالفهما , ومالا دليل عليه فلا يحتج به , وما انفرد به اهل الصلاح والتقى من الاذكار والادعية فينسب لصاحبه  يحمد به او ينكر ولا ينسب الى الدين الا ما ورد الدليل به , السنة واحدة وهي الطريقة التى ثبتت نسبتها الى النبي صلى الله عليه وسلم , ولا طريقة اخرى , وكل الطرق تنسب لا صحابها , ان تضمنت صلاحا فهي محمودة وان تضمنت فسادا اوضلالا فكل مكلف مؤتمن ومسؤول , لا عصمة لغير الانبياء ولا قداسة للتاريخ او للتراث او للاعلام التاريخية , جيلنا مكلف ومخاطب ومؤتمن , والعقول مخاطبة وعليها ان تختار , ان احسنت فلها اجرها وان اساءت فامرها الى الله , كلنا مخاطبون وتعطيل العقول عما هي قادرة عليه امر مناف للتكليف , فى قضايا الايمان والعقيدة  فلا مجال للتقليد لان اختيار الحق مطلوب ومحمود واتباع الاهواء يقود الى الضلال وهو مذموم ..  

( الزيارات : 754 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *