النموذج الاسلامى العاقل والملتزم..

النموذج الإسلامي المطلوب

في بداية التسعينيات من القرن الماضي وبعد حرب الخليج الأولى التي أعقبت غزو العراق للكويت، بدأت المخاوف من الإسلام كمحرك للقاعدة الشعبية ومحرض لها على شعارات المقاومة في كل مكان، وأصبح الغرب المسيحي يخشى من الإسلام ويضيق الخناق على كل التوجهات الإسلامية، وبدأت الجماعات والتنظيمات الإسلامية تظهر تباعاً من خلال مواقفها الرافضة للهيمنة الغربية على البلاد العربية والإسلامية والتحكم بسياستها الداخلية ومواقفها الخارجية، واستجابت هذه البلاد للضغوط  وبدأت تضيق الخناق على هذه الجماعات، مما أدى إلى نمو ظاهرة التطرف أولا والعنف ثانياً، وأصبحت سلوكيات هذه الجماعات مخيفة ، وكانت الأنظمة السياسية في الماضي تخشى من التنظيمات  اليسارية وتحاول التضييق عليها باسم الإسلام، والآن أصبح الخوف من الإسلام أكثر مما كان الخوف من التيار اليساري، لأنّ الإسلام يملك قاعدة شعبية كبيرة، ويتعاطف المجتمع مع رموزه، وتراجع دور العلماء التقليدي كحلفاء للحكام ، وبرز دور الشباب المسلم كحركة اجتماعية ترفع شعارات المقاومة والإصلاح والجهاد والتصدي للأنظمة السياسية السائدة …

وكان المغرب من أكثر البلاد العربية استقراراً، وكان الإسلام فيه معتدلاً وعاقلاً ومتعايشاً، ولم تكن أفكار التطرف مقبولة فيه ولم تكن هناك أية خشية من الإسلام فقد كانت أساليب الدعوة بعيدة عن الانفعال والتطرف ,وكانت الجزائر وتونس ومصر والسودان تشكو من تطرف إسلامي لم يشعر المغرب به, وكان هذا التطرف مرفوضا في المغرب ولم يكن هناك أي تضييق على الاسلام وقد أسهمت رعاية الملك للعلماء ولدار الحديث الحسنية وللدروس الحسنية في إيجاد تواصل مستمر وثقة متبادلة بين الإسلام والنظام السياسي , وأدى هذا إلى نبذ التطرف وإدانة أساليبه وسلوكياته …

وكان الملك يحرص على أن يأخذ مبادرات جيدة للتعبير عن اعتزازه بالإسلام وهذه سياسة حكيمة, وكانت دار الحديث هي ثمرة  شهر رمضان في إحدى السنوات , وكانت المبادرات الملكية معبرة عن شعور الملك بأهمية تلك المبادرة في ذلك الوقت , ومن المؤكد أن ماكانت تشهده البلاد المجاورة من نمو الظاهرة الإسلامية لابد إلاأن يؤثر في المواقف ويدفع إلى الحذر , وهذا أمر طبيعي ويلتمس العذر فيه …

 ولما جاء رمضان بعد حرب الخليج الأولى عام 1991أراد الملك أن يقوم بمبادرة جديدة يعزر فيها مكانة العلماء في المغرب ويعيد الاعتبارلصورة العالم المغربى الأصيل كما كان في الماضي يؤدي دروسه في التفسير والحديث والفقه في المساجد، يقرأ من كتابه ويشرح عبارته ويحلل النصوص ويفسرها ويستطرد فيما يذكره, مستشهداً بالأدلة والشعر مبيناً أوجه البلاغة وأقوال النحاة والمفسرين  …

وكانت هذه الصورة محببة لعامة الناس في المغرب، فهي تذكرهم بتاريخهم وتوقظ ذاكرتهم على رؤية علماء مغاربة بملابسهم البيضاء التقليدية وبلهجتهم المحببة إلى نفوسهم، وشكّل الملك لجنة علمية برئاسة مستشاره الخاص السيد عبد الهادي بو طالب ووزير الأوقاف السيد عبد الكبير العلوي المذغري لدراسة الوسائل الممكنة لتكوين هذا النموذج المغربي والحفاظ عليه وإعادة الاعتبار إليه، وقد اختار الملك عدداً من علماء القرويين الكبار لكي يشاركوا في عضوية هذه اللجنة من أمثال الأستاذ أحمد نبشقرون عميد القرويين والشيخ عبد الكريم الداودي خطيب القرويين، وكنت أحد أعضاء هذه اللجنة وتضم اللجنة كلا من الدكتور عباس الجرارى والدكتور محمد يسف والدكتور ادريس العبدلاوى…

ولا شك أنّ الفكرة جيدة وضرورية وتعبر عن وقاء المغرب لتاريخه، واعتزازه بمنهج علماء المغرب الأقدمين، وفي نفس الوقت فإن إحياء هذا المنهج القديم يوجه اهتمام العامة لدور المساجد ويعمق صلتهم بالدراسات التقليدية، ومن هذا المنطلق فقد أحييت الكراسي العلمية في مسجد القرويين والمساجد الكبيرة في المغرب، وأقبل الناس على متابعة هذه الدروس، كما اتجهت وزارة الأوقاف للعناية بالمدارس الشرعية العتيقة التي كانت تهتم بالدراسات الشرعية  وفقاً للطريقة التقليدية، وهذه المدارس أدت دوراً كبيراً في تاريخ المغرب، وتخرج من هذه المدارس كبار علماء المغرب …

واهتم الملك بتكوين المجالس العلمية في كل المدن المغربية، وهي المجالس المحلية التي تشرف على كل الدروس الدينية في المدينة، في المساجد والمراكز الثقافية، لكي يتم مراقبة النشاط الإسلامي وضبط المساجد ومراقبة ما يجري فيها من دروس , وهو تنظيم جيد لمنع الفوضى فى شؤون الفتوى والتوجيه الدينى , وقد حظيت المجالس العلمية باهتمام الملك محمد السادس ورعايته واسندت امانتها العامة للدكتور محمد يسف  الكاتب العام لجمعية العلماء  خريجى دار الحديث الحستية وهو شخصية متميزة بفكر ناضج وحكمة واعية ونزاهة فى الرأي واستقامة , وهو خير من تسند اليه مهمة الاشراف على المجالس العلمية ….

وقد استدعى الملك احد رموز المدرسة التقليدية في القرويين لإلقاء درس نموذجى في إطار الدروس الحسنية، وقد استمتع الحاضرون بهذا الدرس التقليدي ورأوا فيه صورة الماضي وكانوا مسرورين بذلك، وأبدى الملك اهتمامه بهذا الدرس  وأكرم هذا العالم، وقربه منه وأشاد به ..

وقد أبدى الملك رغبته في أن تتولى دار الحديث الحسنية هذه المهمة في تكوين هذه النماذج من العلماء، وقد اغتنم بعض أعضاء اللجنة الفرصة لكي بقترحوا  تغيير مسار هذه الدار من مؤسسة جامعية عالية المستوى في بحوثها إلى  معهد لتكوين مدرسين فى المساجد للعامة وفق نظام الكراسي العلمية المعتمد في المدارس العتيقة التي كانت منتشرة في جنوب المغرب، واجتمعت اللجنة برئاسة السيد بو طالب ووزير الأوقاف وأعضاء اللجنة من العلماء لدراسة كيفية تنفيذ الإرادة الملكية، وذهب كل عضو في اللجنة بعيداً في تصوراته وطموحاته، الى درجة شعرت فيها أن كل ما بنيناه خلال خمسة عشر عاماُ سوف يتوقف وينهار البناء كله، وتصبح دار الحديث امتداداً للمدارس الفديمة  التي تخضع لنظام التعليم الحر الذي لا يشترط الشهادات في القبول، ويمنح إجازات شخصية عند نهاية الدراسة، وهذه الإجازات لا تؤهل صاحبها للدخول إلى التعليم الجامعي ..

وقد أخافني هذا الاتجاه، الذي كان يريد تغيير مسار هذه الدار، وإطفاء أضوائها، وإخراجها من دائرة المؤسسات العلمية الرائدة، وكنت واثقاً أن الملك لا يريد ذلك , وتمكنت بصعوبة من إقناع اللجنة بإبقاء الدار في مسيرتها العلمية .والاهتمام بالمنهجية التقليدية في التعليم والتلقين، وأنشأنا شعبة خاصة خارج نطاق القانون لتكوين هذه النماذج من العلماء، والاهتمام بالتراث المغربي القديم واعتباره من المصادر الضرورية التي يجب الاعتماد عليها في البحوث العلمية، وقد أعدت اللجنة توصيات عدة ورفعت تقريرها إلى الملك، وفي ليلة السابع والعشرين من رمضان أقيم حفل ختم البخاري في القصر، وأعلن الملك في كلمة له عن تشكيل هذه اللجنة وعن التوصيات التي أعدتها هذه اللجنة ..وخلال هذا الحفل قدمت إلى الملك الدرع الذهبي لدار الحديث الحسينية، تقديرا لرعايته لهذه الدار، وأعرب الملك عن سعادته بذلك،

وحافظت دار الحديث على شخصيتها، وتابعت أداء رسالتها، واستمر عطاؤها العلمي كما كان، مع الاهتمام بتدريس مادة الفقه المالكي وفقا للمنهج القديم في تحليل النصوص واستنباط الأحكام ..

 

( الزيارات : 873 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *